أبو بكر الصديق (2)

ناصر بن محمد الأحمد

2011-02-09 - 1432/03/06
التصنيفات: شخصيات مؤثرة
عناصر الخطبة
1/ شهوده المعارك مع النبي – صلى الله عليه وسلم - وأمارته الحجيج. 2/ كيفية توليه الخلافة وبيان أحقيته بتوليتها. 3/ حسن أخلاقه بعد توليه الخلافة، وتواضعه . 4/ وفاته، وتوليته عمر بعده -رضي الله عنهما-.

اقتباس

لقد أجمع أهلُ السُّنة والجماعة، سلَفاً وخلَفاً، على أن أحقَّ الناس بالخلافة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- أبو بكر الصدّيق -رضي الله عنه-، لفضله وسابقته، ولتقديم النبي -صلى الله عليه وسلم- إياه في الصلوات على جميع الصَّحابة؛ وقد فهم أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- مراده من تقديمه في الصلاة ..

 

 

 

 

أيها المسلمون: نكمل حديثنا عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، تلك الشخصية الفذة في تأريخ الأمة.

ذكَر أهلُ السِّيَر أن أبا بكرٍ شهد مع النبي -صلى الله عليه وسلم- بدراً والمشاهد كلها، ولم يفُتْه منها مشهد، وثبَت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم أحُد حين انهزم الناس، ودفع إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- رايته العظمى يوم تبوك، وكانت سوداء.

لقد جعل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أبا بكر -رضي الله عنه- أميراً على الحجِّ سنة تسع من الهجرة، فخرج بركب الحجيج، ونزلت سورة براءة، فدعا النبي -صلى الله عليه وسلم- عليَّاً، وأمَره بأن يلحق بأبي بكر -رضي الله عنهما- فخرج على ناقة رسول الله العضباء حتى أدرك الصدّيق بذي الحليفة، فلما رآه الصدّيق قال له: أميرٌ أم مأمور؟ فقال: بل مأمور، فأقام أبو بكر للناس الحج على منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية.

وكان الحج في ذلك العام في ذي الحجة، وقد خطب الصدّيق قبل يوم التروية، ويوم عرفة، ويوم النحر، ويوم النفير الأول، فكان يُعرِّف الناس مناسكهم في وقوفهم وإفاضتهم ونحرهم ونفيرهم ورميهم للجمرات، وعليُّ بن أبي طالب يخلفه في كل موقف من هذه المواقف، فيقرأ على الناس صدر سورة براءة، ثم ينادي في الناس بهذه الأمور الأربعة: "لا يدخل الجنة إلا مؤمن، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته، ولا يحج بعد العام مشرك".

أيها المسلمون: لما علم الصحابة -رضي الله عنهم- بوفاة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة في اليوم نفسه، وهو يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة، وتداولوا الأمر بينهم في اختيار من يلي الخلافة من بعده، والتفّ الأنصار حول زعيم الخزرج سعد بن عبادة -رضي الله عنه-، ولما بلغ خبر اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة المهاجرين، وهم مجتمعون مع أبي بكر الصدّيق -رضي الله عنه- لترشيح من يتولى الخلافة، قال المهاجرون لبعضهم: انطلقوا بنا إلى إخواننا من الأنصار، فإن لهم في هذا الحق نصيبا، وانتهى لقاء السقيفة باجتماع الصحابة وإجماعهم على أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- خليفة للمسلمين.

هذا، وقد دلت نصوص عديدة على خلافة الصدّيق -رضي الله عنه- فعن جبير بن مطعم قال: أتت امرأة النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فأمرها أن ترجع إليه، قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك -كأنها تقول الموت-، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن لم تجديني فأتي أبا بكر"؛ وعن حذيفة، قال: كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- جلوسا فقال: "إني لا أدري ما قدرُ بقائي فيكم، فاقتدوا بالذين من بعدي (وأشار إلى أبي بكر وعمر)، وتمسكوا بعهد عمّار، وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه"؛ وقالت عائشة - رضي الله عنها -: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مرضه: "ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى أكتب كتابا، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أوَلى، ويأبى اللهُ والمؤمنون إلا أبا بكر".

ولقد أجمع أهل السنة والجماعة، سلَفاً وخلَفاً، على أن أحقَّ الناس بالخلافة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- أبو بكر الصدّيق -رضي الله عنه- لفضله وسابقته، ولتقديم النبي -صلى الله عليه وسلم- إياه في الصلوات على جميع الصحابة؛ وقد فهم أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، مراده من تقديمه في الصلاة، فأجمعوا على تقديمه في الخلافة ومتابعته، ولم يتخلف منهم أحد؛ ولم يكن الرب -جلَّ وعلا- ليجمعهم على ضلالة، فبايعوه طائعين، وكانوا لأوامره ممتثلين، ولم يعارض أحد في تقديمه.

أيها المسلمون: إن البيعة، بمعناها الخاص، هي إعطاء الولاء والسمع والطاعة للخليفة مقابل الحكم بما أنزل الله تعالى، وإنها، في جوهرها وأصلها، عقد وميثاق بين طرفين: الإمام من جهة وهو الطرف الأول، والأمة من جهة ثانية وهي الطرف الثاني، فالإمام يُبايَع على الحكم بالكتاب والسنة، والخضوع التام للشريعة الإسلامية عقيدةً وشريعةً ونظامَ حياة، والأمة تُبايِع على الخضوع والسمع والطاعة للإمام في حدود الشريعة؛ فالبيعة خصيصة من خصائص نظام الحكم في الإسلام تفرّد به عن غيره من النظم الأخرى في القديم والحديث، ومفهومه أن الحاكم والأمة كليهما مقيد بما جاء به الإسلام من الأحكام الشرعية، ولا يحق لأحدهما، سواءً أكان الحاكمَ أو الأمةَ مُمَثَّلَةً بأهل الحَلِّ والعقد، الخروج على أحكام الشريعة، أو تشريع الأحكام التي تصادم الكتاب والسنة أو القواعد العامة في الشريعة، ويعد مثل ذلك خروجا عن الإسلام، بل إعلان الحرب على النظام العام للدولة الإسلامية، بل أبعد من هذا، نجد أن القرآن الكريم نفى عنهم صفة الإيمان، قال الله تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء: 65].

تسلّم الصدّيق -رضي الله عنه- الخلافة، وضرب أمثلة في عدد من المجالات يعجز المرء عن تصورها، لولا أنها نقلت إلينا عن طريق الثقات من المؤرخين؛ لقد رأى الصحابة ضرورة تفريغ الصدّيق للخلافة، فقد كان أبو بكر -رضي الله عنه- رجلاً تاجرًا يغدو كل يوم إلى السوق، فيبيع ويبتاع، فلما استُخلف أصبح غاديا إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتّجر بها، فلقيه عمر وأبو عبيدة فقالا: أين تريد يا خليفة رسول الله؟ قال: السوق. قالا: تصنع ماذا وقد وليت أمور المسلمين؟ قال: فمن أين أُطعم عيالي؟ فقالا: انطلق معنا حتى نفرض لك شيئا، فانطلق معهما ففرضوا له كل يوم شطر شاة.

وجاء في "الرياض النضرة" أن رزقه الذي فرضوه له خمسون ومائتا دينار في السنة، وشاة يؤخذ من بطنها ورأسها وأكارعها، فلم يكن يكفيه ذلك ولا عياله، قالوا: وقد كان قد ألقى كل دينار ودرهم عنده في بيت مال المسلمين، فخرج إلى البقيع ليبيع، فجاء عمر -رضي الله عنه- فإذا هو بنسوة جلوس، فقال: ما شأنكنّ؟ قلن: نريد خليفة رسول الله يقضي بيننا، فانطلق فوجده في السوق، فأخذه بيده، فقال: تعالَ ها هنا. فقال: لا حاجة لي في إمارتكم، رزقتموني ما لا يكفيني ولا عيالي. قال: فإنا نزيدك. قال أبو بكر: ثلاثمائة دينار والشاة كلها. قال عمر: أما هذا فلا، فجاء علي -رضي الله عنه- وهما على حالهما تلك، قال: أكمِلها له، قال: ترى ذلك؟ قال: نعم، قال: قد فعلنا. وانطلق أبو بكر -رضي الله عنه- فصعد المنبر، واجتمع إليه الناس فقال: أيها الناس، إن رزقي كان خمسين ومائتي دينار وشاة يؤخذ من بطنها ورأسها وأكارعها، وإن عمر وعليا كمّلا لي ثلاثمائة دينار والشاة، أفرضيتم؟ قال المهاجرون: اللهم نعم، قد رضينا.

أين البشرية اليوم من أولئك الصحابة رضوان الله عليهم؟ فإن الخزينة قد أضحت بعدهم بيد أشخاص ينفقون كيف يشاءون، ويتصرفون كما يريدون، كما أصبحت لهم نفقات مستورة لا حصر لها، وفوق هذا فقد تكدست لهم الأموال لكثرتها، مع أنه قد ظهر أن هذه الأموال مهما بلغت، والعقارات مهما كثرت، فإنها لا تكفي شيئا، ولا تغني صاحبها شيئا، هذا في الدنيا! وأما في الآخرة فالأمر أشد، والحساب عظيم.

أيها المسلمون: كان الصدّيق قبل الخلافة يحلب للحي، فلما بويع له بالخلافة قالت جارية من الحي: الآن لا يحلب لنا أغنام دارنا، فسمعها أبو بكر فقال: لعمري لأحلبنّها لكم، وإني لأرجو ألا يُغيّرني ما دخلت فيه عن خُلُقٍ كنت عليه، فكان يحلب لهنّ! وهذا تواضع كبير، من رجل كبير، كبير في سنه، وكبير في منـزلته وجاهه، حيث كان خليفة المسلمين، وكان حريصا على أن لا تغير الخلافة شيئا من معاملته للناس، وإن كان ذلك سيأخذ منه وقتا هو بحاجة إليه، ويقول: أرجو أن لا يغيرني ما دخلت فيه، وليس الذي دخل فيه بالأمر الهيّن، بل هو خلافة رسول الله، وسيادة العرب، وقيادة الجيوش التي ذهبت لتقلع من الأرض الجبروت الفارسي، والعظمة الرومانية، وتنشئ مكانهما صرح العدل والعلم والحضارة؛ ثم يرجو ألا يغيره هذا كله، ولا يمنعه من حلب أغنام الحي!.

أيها المسلمون: إن من ثمار الإيمان بالله تعالى أخلاقا حميدة، منها خلق التواضع الذي تَجسّد في شخصية الصدّيق في هذا الموقف، وفي غيره من المواقف، كان عندما يسقط خطام ناقته ينـزل ليأخذه، فيقال له: لو أمرتنا أن نناولك، فيقول: أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألا نسأل الناس شيئا؛ لقد دفعه هذا الخلق إلى خدمة المسلمين، وبخاصة أهل الحاجة منهم والضعفاء، فعن أبي صالح الغفاريِّ أن عمرَ بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يتعهد عجوزا كبيرة عمياء في بعض حواشي المدينة من الليل، فيسقي لها، ويقوم بأمرها، فكان إذا جاءها وجد غيره قد سبقه إليها فأصلح ما أرادت، فجاءها غير مرة كيلا يُسبق إليها، فرصده عمر، فإذا هو أبو بكر الذي يأتيها، وهو يومئذ خليفة.

أيها المسلمون: وفي شهر جمادى الآخرة من العام الثالث عشر للهجرة النبوية، مرض الخليفة أبو بكر -رضي الله عنه- واشتد به المرض، فلما ثقل واستبان له من نفسه، جمع الناس إليه وقال: إنه قد نزل بي ما قد ترون ولا أظنني إلا ميتا لما بي، وقد أطلق الله أيمانكم من بيعتي وحل عنكم عُقدتي، ورد عليكم أمركم فأمّروا عليكم من أحببتم، فإنكم إن أمّرتم في حياةٍ مني كان أجدر أن لا تختلفوا بعدي؛ وتشاور الصحابة -رضي الله عنهم- وكلٌّ يحاول أن يدفع الأمر عن نفسه ويطلبه لأخيه، إذ يرى فيه الصلاح والأهلية، لذا رجعوا إليه فقالوا: رأينا يا خليفة رسول الله رأيك، قال: فأمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده، فدعا أبو بكر عبد الرحمن بن عوف فقال له: أخبرني عن عمر بن الخطاب، فقال له: ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني، فقال أبو بكر: وإن، فقال عبد الرحمن: هو والله أفضل من رأيك فيه، ثم دعا عثمان بن عفان، وأسيد بن حضير، وكذلك استشار سعيد بن زيد وعددا من الأنصار والمهاجرين، وكلهم كانوا برأي واحد في عمر.

بعدها كتب عهدا مكتوبا يُقرأ على الناس في المدينة وفي الأنصار عن طريق أمراء الأجناد: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجا منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلا فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدّق الكاذب، إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا، وإني لم آلُ الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيرا، فإن عَدَل فذلك ظني به، وعلمي فيه، وإن بدّل فلكل امرئ ما اكتسب، والخير أردت، ولا أعلم الغيب: (وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُون) [الشعراء:26].

وكلَّف عثمانَ بنَ عفَّان بأن يتولى قراءة العهد على الناس، وأخْذ البيعة لعمر قبل موته، بعد أن ختمه بخاتمه، لمزيد من التوثيق والحرص على إمضاء الأمر دون أيَّة آثار سلبية، وقال عثمان للناس: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ فقالوا: نعم، فأقرّوا بذلك جميعاً ورضوا به؛ وبعد أن قرئ العهد على الناس ورضوا به أقبلوا عليه وبايعوه، ولم تتم بيعة بعد الوفاة، بل باشر عمر بن الخطاب أعماله بصفته خليفة للمسلمين فور وفاة أبي بكر -رضي الله عنه-.

 

 

 
الخطبة الثانية:

 

أيها المسلمون: إن الخطوات التي سار عليها أبو بكر الصديق في اختيار خليفته من بعده لا تتجاوز الشورى بأي حال من الأحوال، وإن كانت الإجراءات المتبعة فيها غير الإجراءات المتبعة في تولية أبي بكر نفسه، وهكذا تم عقد الخلافة لعمر -رضي الله عنه- بالشورى، ولم يورد التاريخ أيَّ خلاف وقع حول خلافته بعد ذلك، ولا أن أحدا نهض طوال عهده لينازعه الأمر، بل كان هناك إجماع على خلافته وعلى طاعته في أثناء حكمه، فكان الجميع وحدة واحدة.

قالت عائشة -رضي الله عنها-: أول بداية مرض أبي بكر أنه اغتسل، وكان يوما باردا، فحُمَّ خمسة عشر يوما لا يخرج إلى صلاة، وكان يأمر عمر بالصلاة، وكانوا يعودونه، وكان عثمان ألزمَهم له في مرضه، ولما اشتد به المرض قيل له: ألا ندعو لك الطبيب؟ فقال: قد رآني فقال: إني فعّال لما أريد؛ وقالت عائشة -رضي الله عنها-: قال أبو بكر: انظروا ما زاد في مالي منذ دخلت في الإمارة فابعثوا به إلى الخليفة بعدي، فنظرنا فإذا عبد نوبي كان يحمل صبيانه، وإذا ناضح كان يسقي بستانا له، فبعثنا بهما إلى عمر، فبكى عمر، وقال: رحمة الله على أبي بكر، لقد أتعب من بعده تعبا شديدا.

وقالت عائشة -رضي الله عنها-: لما مرض أبو بكر مرضه الذي مات فيه، دخلت عليه وهو يعالج ما يعالج الميت، ونفسه في صدره، فتمثلتُ هذا البيت:
لعَمْرُكَ ما يُغْنِي الثَّراءُ عن الفتى إذا حشْرَجَتْ يوماً وضاقَ بها الصَّدْرُ
فنظر إليَّ كالغضبان ثم قال: ليس كذلك يا أم المؤمنين، ولكن قول الله أصدق: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيد) [ق: 19]، ثم قال: يا عائشة، إنه ليس أحد من أهلي أحب إليَّ منك، وقد كنت نحلتك حائطا، وإن في نفسي منه شيئا، فرديه إلى الميراث، قالت: نعم، فرددته.

وقال -رضي الله عنه-: أما إنا منذ ولينا أمر المسلمين لم نأكل لهم دينارا ولا درهما، ولكنا قد أكلنا من جريش طعامهم في بطوننا، ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا، وليس عندنا من فيء المسلمين قليل ولا كثير إلا هذا العبد الحبشي، وهذا البعير الناضح، وجرْد هذه القطيفة، فإذا متّ فابعثي بهنّ إلى عمر وابرئي منهنّ، ففعلت، فلما جاء الرسول إلى عمر بكى حتى جعلت دموعه تسيل في الأرض، ويقول: رحم الله أبا بكر، لقد أتعب من بعده.

ويظهر من هذه المواقف ورع الصدّيق في المال العام، فقد ترك هذا الخليفة العظيم تجارته، وتخلى عن ذرائع كسبه اشتغالاً عنها بأمور المسلمين، وقياما بوظائف الخلافة، فاضطر إلى أخذ نفقته من بيت المال بما لا يزيد عن الحاجة إلى سد الجوع وستر العورة، ثم هو يؤدي للمسلمين خدمة هيهات أن تؤدي حقها الخزائن، ولمّا أشرف على وفاته وعنده فضلة من مال المسلمين، وهي ذلك المتاع الحقير، يأمر بردها إلى المسلمين، ليلقى ربه آمنا مطمئنا، نزيه القلب، طاهر النفس، خفيف الحمل إلا من التقوى، فارغ اليدين إلا من الإيمان، إن في هذا لبلاغا، وإنها لموعظة لقوم يعقلون.

وقد استمر مرض أبي بكر خمسة عشر يوماً، حتى كان يوم الاثنين، فليلة الثلاثاء، في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة للهجرة، قالت عائشة -رضي الله عنها-: إن أبا بكر قال لها: في أي يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: في يوم الاثنين قال: إني لأرجو فيما بيني وبين الليل، ففيم كفنتموه؟ قالت: في ثلاثة أثواب بيض سحولية يمانية ليس فيها قميص ولا عمامة، فقال أبو بكر: انظري ثوبي هذا فيه ردع زعفران أو مشق فاغسليه واجعلي معه ثوبين آخرين. فقيل له: قد رزق الله وأحسن، نكفنك في جديد؛ قال: إن الحيّ هو أحوج إلى الجديد ليصون به نفسه عن الميت، إنما يصير الميت إلى الصديد وإلى البلى.

وقد أوصى أن تغسلَه زوجُه أسماءُ بنت عميس، وأن يُدفن بجانب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان آخر ما تكلم به الصدّيق -رضي الله عنه- في هذه الدنيا قول الله تعالى: (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِين) [يوسف:101].

لقد ارتجت المدينة لوفاة أبي بكر الصديق، ولم تر المدينة منذ وفاة الرسول يوما أكثر فيه باكيا وباكية من ذلك المساء الحزين، وأقبل علي بن أبي طالب مسرعا باكيا مسترجعا، ووقف على البيت الذي فيه أبو بكر، فقال: رحمك الله يا أبا بكر، كنتَ إلف رسول الله، وأنيسه، ومُسْتَرَاحَه، وثقته، وموضع سره ومشاورته، وكنتَ أولَ القوم إسلاما، وأخلصَهم، وأشدَّهم بالله يقينا، وأخوفَهم له، فجزاك الله عن رسول الله وعن الإسلام أفضل الجزاء.

هذا، وقد توفي الصديق -رضي الله عنه- وهو ابن ثلاث وستين سنة، مجمع على ذلك في الروايات كلها، استوفى سن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وغسلته زوجه أسماء بنت عميس، وكان قد أوصى بذلك، ودفن بجانب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد جعل رأسه عند كتفي رسول الله، وصلى عليه خليفته عمر بن الخطاب، ونزل قبره عمر وعثمان وطلحة وابنه عبد الرحمن، وألصق اللحد بقبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

وهكذا خرج أبو بكر الصديق من الدنيا بعد جهاد عظيم، في سبيل نشر دين الله في الآفاق، وستظل الحضارة الإنسانية مدينة لهذا الشيخ الجليل الذي حمل لواء دعوة الرسول بعد وفاته، وحمى غرسه، وقام برعاية بذور العدل والحرية، وسقاها أزكى دماء الشهداء، فآتت من كل الثمرات عطاء جزيلاً.

حقق أبوبكر -رضي الله عنه- عبر التاريخ تقدما عظيما في العلوم والثقافة والفكر، وستظل الحضارة مدينة للصديق، لأنه بجهاده الرائع، وبصبره العظيم، حمى الله به دين الإسلام في ثباته في الردة، ونشر الله به الإسلام في الأمم والدول والشعوب، بحركة الفتوحات العظيمة، التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً.

قل إن خير الأنبياء محمد
                           وأجَلَّ من يمشي على الكُثبان

وأجَلُّ صَحْبِ الرسل صحب محمد محمدٍ
                                   وكذاك أفضل صحبه العُمَران

رجلان قد خلقا لنصر محمد
                                بدمي ونفسي ذانك الرجلان

فهما اللذان تظاهرا لنبينا
                               في نصره وهما له صهران

بنتاهما أسنى نساء نبينا
                            وهما له بالوحي صاحبتان

أبواهما أسنى صحابة أحمد
                               يا حبذا الأبوان والبنتان

وهما وزيراه اللذان هما هما
                                   لفضائل الأعمال مستبقان

وهما لأحمد ناظراه وسمعه
                             وبقربه في القبر مضطجعان

كانا على الإسلام أشفق أهله
                                وهما لدين محمد جبلان

أصفاهما أقواهما أخشاهما
                              أتقاهما في السر والإعلان

أسناهما أزكاها أعلاهما
                             أوفاهما في الوزن والرجحان

صِدِّيق أحمد صاحب الغار الذي
                                  هو في المغارة والنبي اثنان

أعني أبا بكر الذي لم يختلف
                                من شرعنا في فضله رجلان

هو شيخ أصحاب النبي وخيرُهم
                                     وإمامهم حقا بلا بطلان

وأبو المطهرة التي تنـزيهها
                              قد جاءنا في النور وفي الفرقان

 

 

 

المرفقات

بكر الصديق (2)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات