آيات الحج في القرآن

ناصر بن محمد الأحمد

2015-01-11 - 1436/03/20
عناصر الخطبة
1/بعض حكم مشروعية الحج وغاياته 2/الحج فرصة للتوبة 3/صفات الحج المقبول وشروطه 4/تقوى الله في الحج وفضلها وحقيقتها 5/عالمية الإسلام 6/الأخوة الإيمانية في الحج 7/بعض منافع الحج 8/ذكر الله في الحج وبعض مقاصد ذلك

اقتباس

الحجُّ في حياةِ المسلمين مدرسةٌ عظيمةُ العطاء، واسعةُ الأثر، بليغةُ العبرة، موسمٌ تسمو فيه الأرواح، وتشرِق النفوس. الحجّ ملتقًى كبيرٌ يفِد إليه الحجّاجُ من أنحاء المعمورة إلى الأرض المقدّسة، ألوانٌ مختلفة وأجناسٌ متعدِّدة، وألسُنٌ متباينة، يـ...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله ...

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: لقد شرع الله -تعالى- العباداتِ لحِكَمٍ عظيمة، ومصالحَ عديدة، أجلُّها: تحقيقُ عبودية الله سبحانه والخضوع له فيما أمر ونهى، ومنها: تزكيةُ النفس وترويضها على الفضائل.

 

الحجُّ في حياةِ المسلمين -يا عباد الله- مدرسةٌ عظيمةُ العطاء، واسعةُ الأثر، بليغةُ العبرة، موسمٌ تسمو فيه الأرواح، وتشرِق النفوس.

 

الحجّ ملتقًى كبيرٌ يفِد إليه الحجّاجُ من أنحاء المعمورة إلى الأرض المقدّسة، ألوانٌ مختلفة وأجناسٌ متعدِّدة وألسُنٌ متباينة، يقول الله -تعالى- في الحديث القدسي: "انظروا إلى عبادي، أتَوني شُعثًا غُبرًا"[أخرجه الإمام أحمد].

 

وفي كتاب ربنا آيات عديدة عظيمة، ذكرت الحج، لنا معها وقفات تأمل.

 

يحكي القرآنُ دعاءَ بني الله إبراهيم -عليه السلام-، قال الله -تعالى-: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)[إبراهيم: 37].

 

ويستجيبُ الله دعاءَ خليله، وتمضي الأفئدةُ تهوي إلى هذا المكان لتعمِّره، مُلبِّين مكبّرين، خاضعين متذلِّلين، جموعٌ لا تُعَدُّ ولا تُحصى، تطوف وتَسعى، ويستمرّ الطوافُ لا ينقطع مهما بلغ حرُّ النهار، أو بردُ الليل.

 

في الحجّ يشهَد الحاجّ مهبطَ الوحي، ويترسّم خطواتِ النبي -صلى الله عليه وسلم-، يستروح الذكرياتِ والمعاني، ويرى التاريخ أمامه على أرضِ التاريخ، كلُّ حبَّةِ رملٍ في هذه البقاع تحمل تاريخًا مشرقًا، وتنطق بحضارةٍ أضحى عطاؤها للبشرية متحقِّقا.

 

على المسلم: التوبةُ النصوح، وتجديدها عند الدخول في هذه المناسك، يعاهِد ربَّه على عبادته، يطيعه ولا يعصيه، يؤدّي الصلوات، يترك السيّئات، يبتعِد عن المحرّمات، فالحجّ ملاذ كلِّ المسلمين، العابدون يزدادون قربًا من مولاهم، والعصاةُ يستروِحون عَبَق الرحمات، في هذه الأجواءِ الإيمانية الآمنة يقرّون بذنوبهم، يلتمسون عفوَه ومغفرته ورحمتَه ورضوانه، قال الله -تعالى-: (لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ)[الحـجْ: 37].

 

ومن آيات الحجِّ قول الله -تعالى-: (وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[البقرة: 196].

 

العملُ كلُّ العمل في هذه الدنيا يُراد به وجهُ الله، فمن شروط قَبول الأعمال: تحقيقُ الإخلاص لله، أي: أن تقصد أيّها الحاج بعملك وجهَ الله، لا رياءَ ولا سمعة ولا مباهاة، أن تبتغيَ برحلتك المباركة وجهَ الله للفوز بنعيم الجنّة.

 

إن كلَّ حركةٍ ومشهَدٍ ونفقةٍ تؤدِّيها في رحلة الحجّ تقرّبك إلى الله وتزيد في حسناتك، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الحُجَّاج والعُمّار وفدُ الله، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفرَ لهم"[أخرجه ابن ماجة].

 

ولذا كان رسول الله-صلى الله عليه وسلم- يسأل ربَّه الإخلاصَ، قائلاً كما في حديث أنس -رضي الله عنه- مرفوعًا: "اللهم حجّة لا رياءَ فيها ولا سُمعة"[أخرجه ابن ماجه].

 

كم للنية الخالصةِ في الحجّ من أثرٍ عظيم في زكاةِ النفس وفلاحها، تأمّل هذا الفضل العظيم في قوله صلى الله عليه وسلم: "الحجّ المبرور ليس له جزاء إلا الجنة".

 

ومن صفاتِ هذا الحجّ: أن يكونَ خالصًا لله، والإخلاصُ ليس بالأمر الهيّن، قال أحدُ السلف: "تخليص النيات على العُمّال أشدُّ عليهم من جميعِ الأعمال".

 

وقيل لأحدهم: أيّ شيء أشدّ على النفس؟ قال: "الإخلاص، إذ ليس لها فيه نصيب".

 

وقال بعضهم: "إخلاصُ ساعة نجاةُ الأبد".

 

فالإخلاصُ عزيز، ولا يتخلّص الإنسانُ من الشيطان إلا بالإخلاص؛ كما في قوله تعالى حكايةً عن إبليس: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)[ص: 82-83].

 

ومن آيات الحجّ أيضاً: قول الله -تعالى-: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ)[البقرة: 197].

 

خير ما يتزوّد به الحاجّ في الحجّ التقوى.

 

التقوى غايةُ الأمر، وجِماع الخير، هي فعلُ الطاعات، واجتناب المحرّمات.

 

وليس السّفر من الدنيا بأهونَ من السفر في الدنيا وهذا لا بدّ له من زادٍ فكذا، وإذا كان زادُ الدنيا يخلِّصُ من عذاب منقطعٍ موهوم، فإنّ زادَ الآخرة يقي من عذابٍ أبديّ معلوم: (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى).

 

تنبيهٌ للحاجّ لاستصحابِ التقوى في قلبه في كلّ خطوةٍ يخطوها، بل ويضاعِف تقواه في السرّ والعلَن، في الحِلّ والحرم، في نفسه ومع غيره، ومن التقوى كفُّ الأذى عن الناس بالقول أو الفعل، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده"[أخرجه البخاري].

 

ومن آيات الحج أيضاً: قول الله -تعالى-: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ)[الحـج: 32].

 

تعظيمُ أعمال الحجّ ومناسك الحجّ من تقوى القلوب، يكون ذلك بإجلالها بالقلبِ ومحبّتها وتكميل العبودية فيها، وفي الحديث: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تزال هذه الأمّة بخيرٍ ما عَظَّموا هذه الحرمةَ حقَّ تعظيمها -يعني الكعبة- فإذا ضيّعوا ذلك هلكوا"[أخرجه ابن ماجة].

 

ومن آيات الحجّ أيضاً: قول الله -تعالى-: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)[الحـج: 27].

 

إنّ هذا النداءَ يُبرِز عالميّة الإسلام، فهو يدعو الأنام كلَّهم إلى الإسلام ليحرِّرهم من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضِيق الدنيا إلى سَعَة الآخرة، قال الله -تعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)[الأنبياءَ: 107].

 

الإسلامُ دينٌ عالمي، فقد جمع بين أبي بكر العربيّ وصهيبٍ الروميّ، وبلال الحبشيّ، وسلمان الفارسيّ، وغيرهم من شتّى القبائل والبلدان، وقال صلى الله عليه وسلم: "وكونوا عبادَ الله إخوانًا"[متفق عليه].

 

إن الناظرَ إلى شعائر الحجّ يجدها تدعو إلى محوِ فوارق اللون واللغةِ والجنس، تجلّى ذلك واضحًا في خطبة يوم عرفة بإعلان مبادئ، وحقوقِ الإنسان.

 

دينٌ عالميّ؛ لأنه من عند الله وفيه من الكمال والشمول ما لم يوجد في غيره.

 

حجّاجَ بيت الله، تصطفّ هذه الجموع المباركةُ في هذه البقاع الطاهرة من آفاق الدنيا كلِّها قائلةً: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله".

 

تجمعهم أخوّةٌ إيمانية صادقة، ووحدة صافيةٌ، ومساواة عادِلة، ذابت بينهم الفوارق العِرقية، وتبدّدت كلُّ مظاهر الاعتزاز بالجنس أو اللون.

 

أما معيارُ المفاضلةِ والتكريم، فقد قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[الحجرات: 13].

 

فالتقوى هي النسَب، وهي التي ترفع صاحبَها وتُعلي قدرَه، لا فضلَ لعربي على عجميّ ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى، وقال سيّد البشر -صلى الله عليه وسلم-: "ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبيّة، وليس منا من مات على عصبيّةٍ"[أخرجه أبو داود].

 

ومن آيات الحجّ أيضاً: قول الله -تعالى-: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)[الحـج: 27].

 

في الحجّ منافعُ دينيّة ودنيوية، فهو أعظم فرصةٍ لحلّ مشكلات المسلمين، وجمع كلمتهم، ولَمِّ شملهم، وإحياء مبدأ التراحم والتكافُل، والقضاء على الفُرقة والتمزُّق.

 

هذه الوحدَة هي سرّ قوّة الأمّة ورقيِّها وسعادتها: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)[آل عمران: 103].

 

حذّرنا سبحانه من الفُرقة، فقال: (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[الأنفال: 46].

 

وتوعّد سبحانه دعاةَ الفرقة بالعذاب، فقال سبحانه: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[آل عمران: 105].

 

لقد أدرك أعداءُ الإسلام أثَر وحدةِ المسلمين في القوّة والمنَعَة، فعملوا على إيقادِ نار العداوة والبغضاء بين المسلمين في كلّ عصرٍ وحين، وهذه مأساةُ المسلمين الكبرى في واقِعهم المعاصِر.

 

وفي الحجّ يتعلّم المسلمُ: الرفقَ بإخوانه المسلمين، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول في منصَرَفه من عرفةَ إلى مزدلفة: "السكينة السكينة".

 

التراحم يُثمِر محبّةً وألفة ومودّة، والقَسوة تولِّد أحقادًا وكراهية، ومن الرفق: أن يُعين أخاه ويفسح له الطريق، يحترمَه ويحبّه، لا يظلمه ولا يؤذيه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطُفهم مثَل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسد بالسّهر والحمّى"[أخرجه مسلم].

 

بارك الله ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي أمرنا بطاعته، ونهانا عن معصيته، أحمده سبحانه وأشكره على جزيل نعمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وعد المتّقين جزيلَ فضله، والخلودَ في جنّتِه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمّدًا عبده ورسوله، أنار للسالكين طريقَ سنّتِه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وجميع أمّته.

 

أما بعد:

 

ومن آيات الحجّ: قول الله -تعالى-: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ)[البقرة: 158].

 

كانت هاجَر -عليها السلام- تسعى بين الصفا والمروة سبعَ مرّات بتصميم وثباتٍ، وعدَم يأس، اتخذتِ الأسبابَ، وبذلت جُهدًا مضنيًا مع توكُّلٍ على الله، فالفرج بيده سبحانه وحدَه، مالكِ الملك مقدِّر الأقدار، الجوارحُ تعملُ بالأسباب، والقلبُ يناجي ربَّ الأربابِ، هي بهذا ترسم الخُطى في كلِّ عصرٍ ولكلّ جيل لشحذِ الهمّة وبذل الجهد لطرق أبواب الخير مرّةً وثانية وثالثة، بتصميم لا يتردّد وعزمٍ لا يلين مع صدقٍ في التوكُّل على الله -سبحانه-.

 

ومن آيات الحجّ أيضاً: قوله سبحانه: (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ)[البقرة: 200].

 

إن هناك فريقين: فريقًا همُّه الدنيا، يجمع حُطامَها بحرصٍ وتعلُق، يذكرها حتى حين يتوجّه إلى الله بالدعاء، فقد امتلأت نفسُه بحبِّها، وأحاطت به من كلّ جانب، هؤلاء قد ينالون نصيبَهم في الدنيا ولا نصيبَ لهم في الآخرة وفريقًا أفسحُ مجالاً، وأوسعُ أُفُقًا، وأكبَر نَفسًا؛ لأن همَّه الآخرة ورضوانُ الله، يريد الحسنةَ في الدنيا، ولكنه لا ينسى نصيبَه في الآخرة، هؤلاء لهم نصيبٌ لا يبطئ عليهم، فالله سريعُ الحساب، قال الله -تعالى-: (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا)[الإسراء: 19].

 

أيها المسلمون: إن الأمة اليوم تعاني ما تعاني من عدوان سافر وظالم تمارسه الدول الغربية على ديار المسلمين، كشفت عن الخبايا وأظهرت النوايا، وأنه حقد على الإسلام وأهله، وهذا ما أثبته الواقع مما يحصل للمسلمين على أرض الرافدين، وقبل ذلك ما يفعله اليهود في إخواننا المستضعفين في فلسطين.

 

والجميع يدرك أن الأمن الآن شبه معدوم في العراق وفلسطين.

 

لكن في حجة الوداع المباركة يصعد النبي -صلى الله عليه وسلم- على الصفا، فينظر إلى الكعبة ويستقبلها، ثم يوحّد الله ويكبّره، ويقول: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله، أنجز وعده، ونصر عبدَه، وهزم الأحزاب وحدَه".

 

بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه.

 

لقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الكلمات في أرضِ أمنٍ وأمان، في زمن استقرّ فيه سلطانُه وغلبت فيه رسالته، وهو حينما يذكر اللهَ -جل وعلا- بهذه الألفاظ إبَّان النسك فإنما هو بهذا يثير في النفس كوامنَ الإيمان بقوةِ الله وقدرته، وأثرِ الاعتماد عليه وحده، ونسبة القوة والغلبة له سبحانه دونَ سواه، وذلك عندما تتحزب الأحزاب ضد ديار المسلمين: (إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[آل عمران: 160].

 

وأيضاً حينما يكبّر اللهَ عند كلّ شوط في الطواف، ويكبّر الله عند الصفا والمروة، ويكبّر الله عند رمي الجمار، ويكبّر الله في أيام التشريق لهو يبعث في النفوس شعورًا عميقاً، واستحضاراً عظيماً لقيمة ذكر الله، وتكبيره في حياة المرء المسلم.

 

وإن كلمة: "الله أكبر" لهي رأسُ الذكر وعماده، وهي أوّل ما كلِّف به النبي -صلى الله عليه وسلم- حين أُمر بالإنذار: (يا أَيُّهَا الْمُدَّثّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبّرْ)[المدثر: 1-3].

 

"الله أكبر" إنها لكلمةٌ عظيمة تحيي مواتَ النفس الهامدة، لِصوتها هديرٌ كهدير البحر المتلاطم، أو هي أشدُّ وقعاً، بل إنها سلاحٌ فتاك في وجوه أعداء الملة، ولصوص الأرض، وهي سيفُ الحروب الذي لا يُثلم، كيف لا! وقد ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن مدينةً تفتَتح في آخر الزمان بهذه الكلمة، فقد قال صلوات الله وسلامه عليه: "فإذا جاؤوها نزلوا -أي: المسلمون- فلم يقاتلوا بسلاح، ولم يرموا بسهم، قالوا: لا إله إلا الله، والله أكبر، فيسقط أحدُ جانبيها، ثمّ يقولوا الثانية: لا إله إلا الله، والله أكبر، فيسقط جانبُها الآخر، ثم يقولوا في الثالثة: لا إله إلا الله، واللهُ أكبر، فيفرَّج لهم، فيدخلوها فيغنموا"[رواه مسلم].

 

ألا وصلّوا -عبادَ الله- على رسول الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

 

اللهمّ صلّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة ...

 

 

 

المرفقات

الحج في القرآن

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات