آفات الهوى

عبد الرحمن بن أحمد علوش مدخلي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ تحذير الإسلام الصارم من اتباع الهوى 2/ اتباع أي منهج بشري هو اتباع للهوى 3/ عندما يُتَّخذ الهوى إلها من دون الله 4/ من صور اتباع الهوى 5/ أمور تحول بين الإنسان وبين اتّباع الهوى

اقتباس

في اتباع الهوى استهانةٌ بالذنوب والمعاصي، فتُصبِحُ المعصية عند الإنسان لا شيءَ؛ لأنه لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أُشْرِبَ مِن هواه، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يوشك أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذبابٍ وقع على أنفِهِ فقال به هكذا فطار" ..

 

 

 

 

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوكل عليه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخاتم رسله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حَقَّ جهاده، فعليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وجزاه الله خير ما جزى به نبياً عن أمته.

اللهم لك الحمد كله، وإليك يرجع الأمر كله، أنت رب الطيبين، وخالق الخلق أجمعين، ورازقهم، (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [هود:6].

أما بعد:

أيها المؤمنون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والعلن، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

عباد الله: يقول المولى -عز وجل- في كتابه الكريم: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات:37-41]، إنه اتباع الهوى الذي حذرنا منه المولى -عز وجل-، وحذرنا منه نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وبيَّن خطَره علماء الأمة، إنه الهوى الذي يغير الأمور فيجعل المعروف منكراً والمنكر معروفاً، ويصبح المسلم، بل المتبع لهواه، لا يميز بين خير أو شر، ولا بين حسن أو قبيح، إلا ما أشرب من هواه.

يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي رواه مسلم: "تُعرَض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأيما قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين: أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه".

لقد أصبح هواه هو الذي يسيره فأصبح هواه هو الذي يقوده، فأصبح هوى النفس هو الذي يقود الإنسان الذي اتبع هواه؛ فاتباع الهوى -يا عباد الله- أن تكون النفس هي القائدة للإنسان، تحسِّن له القبيح، وتقبح له الحسن، وتقوده إلى المهالك؛ فيطيعها في كل صغيرة وكبيرة دون أن يبحث عن دين أو عن شرع أو عن خلق أو عن قيم أو عن مبادئ، وإنما يتبع هواه: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ) [الجاثية:23]؛ أصبح الهوى عند ذاك الإنسان الذي قادته نفسه الأمارة بالسوء، وقاده الهوى والشيطان، أصبح الهوى إلهاً يعبده، يحلل له ويحرم له، فيتبعه عند كل صغيرة وكبيرة.

إن الهوى -يا عباد الله- من أخطر الأمور التي يصاب بها الإنسان، ولنعلم -أيها المؤمنون- أن الفرق بين الإنسان وبين الحيوان هو هذا العقل الذي ميز الله به الإنسان فجعله يميز بين الحسن والقبيح وبين الضار والنافع، وبين ما ينفعه في دينه ودنياه وبين ما يضره، بَيْدَ أن الحيوان لا يعلم شيئاً من ذلك؛ لأنه لا عقل له، لكن النتيجة مختلفة، فالحيوان يكون تراباً يوم القيامة؛ لأنه غير مكلف، بينما الإنسان إما أن يكون إلى جنة وإما إلى نار بحسب حاله الذي كان عليه في الحياة الدنيا!.

وينبغي أن نعلم أن الفرق بين منهج الله -سبحانه وتعالى- وبين مناهج البشر أن مناهج البشر تتبع الهوى وتسير وفق الأهواء ووفق الرغبات والشهوات، بينما منهج الله -سبحانه وتعالى- لا خطأ فيه ولا ميل؛ لأنه منزل من قِبَلِ رب الأرض والسماوات، (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) [المائدة:49].

إن من يتحاكم إلى غير شرع الله قد اتبع الهوى، والهوى يختلف بحسب اختلاف الرغبات والشهوات ومحال أن يتفق الناس أصحاب الأهواء على منهج واحد؛ لأن الأهواء تختلف، ولأن الرغبات تختلف بينما حكم الله واحد لا يتغير.

لما سرقت المخزومية في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقطع يدها حز هذا الأمر في نفوس أصحاب الهوى من كفار قريش الذين يتحاكمون إلى العادات وإلى المبادئ الأرضية، فأرسلوا أسامة بن زيد إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ليشفع لتلك المرأة فلا تقطع يدها؛ فغضب النبي -صلى الله عليه وسلم- غضبا شديدا وقال: "يا أسامة، أتشفع في حد من حدود الله؟ إنما اهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".

إنه منهج الله الذي لا يعرف المحاباة، ولا يعرف المداهنة، ولا يعرف الفرق بين الكبير والصغير، ولا بين الرئيس والمرؤوس، ولا بين الغني والفقير؛ فالناس أمام شرع الله سواسية كأسنان المشط، هكذا هو منهج الله منهج ثابت دائم لا يتغير ولا يتبدل ولا يزول ولا يحول، هكذا هو المنهج الشرعي الذي أنعم الله به على هذه الأمة.

وينبغي أن نعلم -يا عباد الله- أن العبد في هذه الحياة بين إجابتين لا ثالث لهما: إما أن يستجيب لشرع الله، وإما أن يستجيب لهواه، لا ثالث للأمرين! إن لم يستجب لشرع الله فهو مستجيب لهواه لا محالة، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ) [المائدة:50]، إذا لم يستجيبوا لك يا محمد فإنما يتبعون أهواءهم ورغباتهم، هذا هو المنهج الواضح أن الإنسان إذا لم يستجب لشرع الله -سبحانه وتعالى- فإنه مُتَّبِعٌ لهواه، رضي بذلك أم لم يرض.

لماذا -يا عباد الله- جاءت الشريعة واضحة في هذا الأمر، وجاءت النصوص الشرعية متواترة في التحذير من الهوى، وفي بيان عاقبته، وفي بيان أنه من أعظم الأمور التي ينهى عنها؟ إن الهوى -يا عباد الله- من أعظم الآفات، ومن أعظم المصائب، ومن أعظم السيئات التي يبتلى بها العباد في هذه الحياة الدنيا؛ لأن مَن يتَّبع هواه قد جعل هواه إلهاً يعبد من دون الله، (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)؛ لأنه جعل هواه مشرعاً يشرع له ما يريد، ويقبح له ما يريد.

لما دخل عدي بن حاتم رضي الله عنه على النبي -صلى الله عليه وسلم- وسمعه يتلو قول الله تعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) [التوبة:31]، قال: يا رسول الله، لم نعبدهم! قال: "أليسوا يحلون لكم الحرام ويحرمون لكم الحلال فتطيعوهم؟" قال: بلى! يا رسول الله، قال: "فتلك عبادتهم".

إن مَن اتخذ إلهه هواه قد عبد هذا الهوى، ومن جعل نفسه هي التي تحلل أو تحرم فقد جعل نفسه إلهاً من دون الله، مَن اتخذ العادة منهجاً يرجع إليه في التحليل والتحريم فقد اتخذ العادة إلهاً تعبد من دون الله، من اتخذ التقاليد الأرضية أو البشرية أو القبلية منهجاً يتحاكم إليها دون شرع الله فقد اتخذها إلهاً من دون الله تُعبد، هذا منهج واضح لا غبش فيه ولا غموض، قد بينه المولى -عز وجل- بقوله: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ).

في اتباع الهوى استهانةٌ بالذنوب والمعاصي، فتُصبِحُ المعصية عند الإنسان لا شيءَ؛ لأنه لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أُشْرِبَ مِن هواه، يقول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه في أصل جبل يوشك أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذبابٍ وقع على أنفِهِ فقال به هكذا فطار". يستهين بالمعصية، لا يرى لها شدة المؤمن الذي يخشى الله -سبحانه وتعالى- ويخاف من عقوبته ويفكر فيما أعده الله تعالى للعصاة.

قال بعض الصالحين: إذا همت نفسك بالمعصية فذكرها بمراقبة الله -سبحانه وتعالى-، وأن الله يراك، ومطَّلِع عليك، فإن لم ترتدع عن المعصية فذكرها بالفضيحة، فإن لم ترتدع فذكرها بأخلاق الرجال، فإن ترتدع فاعلم أنك قد انقلبت في تلك الساعة إلى حمار! إذا لم يردع الإنسانَ خوفُ الله ومراقبته، ولم تردعه الفضيحة، ولم تردعه أخلاق الرجال، فما الفرق بينه وبين البهيمة؟ ما الفرق بينه وبين العجماوات؟.

هكذا يحذرنا المولى -عز وجل- من هذه المصيبة، من هذه الآفة التي ابتلي بها كثير من الناس، حذرنا المولى -عز وجل- من اتباع الهوى؛ لأن اتباع الهوى يقود صاحبه إلى النار -والعياذ بالله تعالى-، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات"؛ فكل الشهوات التي تشتهيها النفس الأمَّارة بالسوء هي قائدة إلى النار -والعياذ بالله-؛ وأما الجنة فهي محفوفة بما تكره النفس؛ فإن المسلم يجاهد نفسه في هذه الحياة الدنيا وينهاها عن الهوى، (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى).

إن اتباع الهوى -يا عباد الله- له صور كثيرة، وله مجالات عدة ينبغي أن يتنبه لها المسلم حتى لا يقع في اتباع الهوى من حيث لا يشعر؛ فيكون ممن سخط الله عليه -والعياذ بالله-.

من ذلك أن يلهث وراء لذة عاجلة من الحرام دون أن يبحث عن الحكم الشرعي في ذلك، أن يبحث عن اللذة العاجلة من الحرام من شهوة مال أو فرج أو منصب أو دنيا أو نحو ذلك دون أن يبحث عن الحكم الشرعي، وإنما همه أن يشبع رغبته، أن يشبع هوى نفسه، أن يشبع شهوته، سواء كان ذلك حلالاً أو حراماً، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش"؛ فسمى النبي -صلى الله عليه وسلم- من يسعى وراء الدرهم والدينار بدون أن يسأل عن الحكم الشرعي في هذه المسألة بأنه عابد له، "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم".

 

ومن صور اتباع الهوى -يا عباد الله- أن يكون الإنسان المتبع لهواه فاقداً للغيرة فلا غيرة عنده أبداً، يرى الحرام فلا يتحرك، يرى المنكرات فلا يتمعر وجهه، الغيرة من صفات الإيمان، "إن الله يغار، وغيرة الله أن تنتهك حرماته"، كان النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يغضب لنفسه أبداً؛ فإذا انتهكت حرمات الله غضب لله، غضب لحرمات الله أن تنتهك.

قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخل الجنة ديُّوثٌ"؛ قيل: مَن الديوث يا رسول الله؟ قال: "الذي لا يبالي مَن دخل على أهله"، أو كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فالرجل المتبع لهواه لا غيرة عنده.

ثبت في الحديث الصحيح أن شابَّاً دخل على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله ائذن، لي في الزنا. فأوشك الصحابة أن يقعوا فيه، وأن ينالوا منه، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "دعوه"، ثم قال: "ادنُ أيها الشاب"، فأدناه إليه -بأبي هو وأمي، صلى الله عليه وسلم- فقال: "أيها الشاب، هل ترضى الزنا لأمك؟"، قال: لا، جعلني الله فداك! قال: "فكذلك الناس لا يرضونه لأمهاتهم".

قال: "أترضاه لأختك؟" قال: لا، جعلني الله فداك. قال: "فكذلك الناس لا يرضونه لأخواتهم"، ومازال النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأله: أترضاه لعمتك؟ أترضاه لخالتك؟ وهو يقول: لا يا رسول الله. عند هذا وضع النبي -صلى الله عليه وسلم- يده على صدره وقال: "اللهم اغفر ذنبه، وحصِّن فرجه، وطهر قلبه"، قال: فوالله! لقد خرجت وما من شيء أبغض إليَّ في الدنيا من الزنا.

لقد فهم من هذا الحديث أن أصحاب الهوى يرضون الزنا لأمهاتهم ولأخواتهم ولخالاتهم ولعماتهم؛ بينما المؤمن الذي لا يتبع هواه يغار ولا يرضى الهوى، ولا يرضى الخنا، ولا يرضى الزنا، ولا يرضى الجرائم لأهله وأقاربه، لا يرضاه للمسلمين كلهم.

من صور اتباع الهوى -يا عباد الله- أن صاحب الهوى عنده استعداد أن يبيع دينه من أجل لذة عاجلة من متاع الدنيا، فهو لا يجد غضاضة في أن يسرق أو يزني أو أن يشهد الزور أو أن يفعل الحرام من أجل لذة عابرة، من أجل أن يشبع هوى نفسه والعياذ بالله.

ذكر ابن الجوزي في كتاب ذم الهوى أن مؤذناً في بغداد -وأنصتوا يا رعاكم الله لهذه القصة المؤثرة التي تبين عاقبة اتباع الهوى أعاذنا الله وإياكم منه- أن مؤذناً في بغداد كان يسمى صالحاً المؤذن، يؤذن أكثر من أربعين سنة، فصعد ذات ليلة على مئذنة المسجد، فنظر في بيتٍ مجاوِرٍ فرأى امرأة فهويها، فلم يكمل الأذان -والعياذ بالله!- فنزل إلى ذلك الدار، وطرق بابه، فخرجت تلك الفتاة، فقال: أريد أن أتزوجك. قالت: لا يحل لك ذلك. قال: ولماذا؟ قالت: لأنك مسلمٌ وأنا نصرانية. قال: أدع ديني وأدخل في النصرانية.

وترك دينه، قالت: إنك إذا وصلت إلى رغبتك تركتني، ولكن لا بد أن أتوثق منك. قال: بم؟ قالت هذا لحم الخنزير، فكُلْ منه، وهذا الخمر فاشربه. فأكل لحم الخنزير، وشرب الخمر. قالت له: إن أبي غائب، فاصعد إلى سطح الدار حتى يأتي أبي فيكمل الأمر، فصعد، وبينما هو صاعد على السلم أخذت به نشوة الخمر فترنح، فسقط، فمات والعياذ بالله! مات نصرانياً بعد أن كان يؤذن أكثر من أربعين سنة، فلما بلغ شأنه للمسلمين ألقوه في زبالة هناك فأكلته الحيوانات والكلاب والعياذ بالله من سوء الخاتمة.

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)، عندما يجعل الإنسان هواه قائداً لا يدري قد يفاجئه ملَكُ الموت وهو في تلك اللذة العابرة، وهو في تلك الشهوة -والعياذ بالله!- فليتصور كل إنسان أن ملك الموت ربما ينزل به في أي لحظةٍ فلا تدعوه نفسه الأمَّارة بالسوء لشهوةٍ عابرةٍ -والعياذ بالله!- وينسى جنة عرضها السماوات والأرض.

من صور اتباع الهوى -يا عباد الله- أن يحرص العبد على الدنيا، وعلى المال، وعلى الربح، بدون أن يبحث عن الحكم الشرعي في ذلك، " أيما جسد نما من سحت فالنار أولى به" كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-.

إن الذين يبحثون عن المال بدون أن يبحثوا عن الحكم الشرعي في ذلك هم الرأسماليون أعداء الله الذين همهم الدرهم والدينار، والذين عناهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "تعِس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم".

إن من يبحث عن الربح بدون أن يبحث عن الحكم الشرعي فهو متبع لهواه؛ لذا، يا عباد الله، ينبغي أن ننتبه لهذه القضية حتى لا نكون عُبَّادَاً للهوى من حيثُ لا نشعر، كم هي المشاريع الربحية التي تخرج بين الناس في كل يوم، ومنها ما هو مخالف لشرع الله، سواء في البيع والشراء، أو في صور من صور الاستثمار الجديدة التي بدأت تغزو أسواقنا، وبدأت تغزو منتدياتنا.

من منا قبل أن يساهم في مؤسسة ما أو في اكتتاب معين أو في بيع سلعة معينة سأل أهل العلم: هل يجوز لي ذلك؟ هل بيع هذه السلعة موافق لشرع الله أم لا؟ هل المساهمة في هذه المؤسسة أو في هذه الشركة موافق لشرع الله أم لا؟ أم كان همّ الإنسان الدرهم والدينار، همه الريال، همه الربح، فيكون عبداً للدرهم، وعبداً للدينار، والعياذ بالله تعالى، هذه من صور الحرام، من صور اتباع الهوى والعياذ بالله!.

ومن صور اتباع الهوى -يا عباد الله- سقوط العالِم وطالب العلم عندما يبيع دينه بسبب منصب أو وظيفة، أو بسبب اتباع شيء من متاع الدنيا الزائل، والعياذ بالله! (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ) [الأعراف:175-176].

كم من الناس عندهم علم ولكنهم يتبعون أهواءهم من أجل دنيا زائلة والعياذ بالله! مر أبو حنيفة -رحمه الله- ذات يوم بغلام يلعب في الطين، فقال له: يا بني، انتبه، لا تسقط في الطين. فأجرى الله الحق على لسان هذا الفتى الصغير فقال له: بل أنت يا إمام انتبه لا تسقط، فإن سقوط العالِم سقوط للعالَم، هكذا يجري الله الحق على لسان فتى صغير، يقول له: بل أنت أيها العالم انتبه، لا تسقط، فإن سقوطك سقوط للأمة كلها! سقوط للعالَم، فكان الإمام أبوحنيفة -رحمه الله تعالى- بعد ذلك لا يفتي في أي مسألة حتى يستشير أصحابة ويستشير أهل العلم خشية أن يقع فيما يسخط الله -سبحانه وتعالى-.

ومن صور اتباع الهوي يا عباد الله الجور في الحكم، أن يحكم الإنسان بغير شرع الله تعالى، يقول الله تعالى: (فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا) [النساء:135]، فمن يحكم بغير شرع الله فقد اتبع الهوى، واتبع النفس الأمارة بالسوء، واتبع المصلحة والعياذ بالله تعالى. مَن يجُرْ في الحكم وهو يعلم أنه مخالف لحكم الله فهو متبع لهواه، رضي بذلك أم لم يرض.

تحاكم علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- هو ورجل من اليهود سرق درعه تحاكما إلى شريح القاضي، فقال القاضي شريحٌ لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: اجلس هاهنا يا أبا الحسن، وقال لليهودي اجلس هاهنا يا فلان، فغضب علي -رضي الله عنه- غضباً شديداً، وقال: يا شريحُ، لقد أخطأتَ في الحكم. قال: وَلِمَ؟ قال: فضلتني على خصمي كنيتني وقلت يا أبا الحسن، فضلتني عليه وناديته باسمه.

ثم طلب من كل منهما أن يبين حجته وبيّنته، فعلي -رضي الله عنه- لم تكن عنده بينة، اليهودي لم تكن عنده بينه، قال: يا علي، هل عندك شهود؟ قال: نعم، يشهد معي ابني الحسن أن هذا درعي اشتريته بمالي، -الحسن بن علي المشهود له بالجنة!- قال: لا أرضى شهادة الابن لأبيه، لا أقر شهادة الابن لأبيه، هل معك شهادة أخرى؟ قال: لا، فحكم القاضي بالدرع لذلك اليهودي.

عند هذا قال ذلك اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله! أمير المؤمنين يحاكمني إلى قاضيه فيحكم قاضيه عليه، والله ما هذا بِدينِ بشَرٍ أبداً!.

أقول ما تسمعون، وأستغفر المولى العظيم الجليل لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا لا إله إلا الله وحده لا شريك تعظيماً لشأنه، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً، ورضي عن أصحابه وأتباعه وإخوانه إلى يوم الدين.

أما بعد: أيها المؤمنون، لقد ظهر لنا خطر اتباع الهوى، وأن الهوى إله يعبد من دون الله تعالى، وأن مَن وقع في عبادة الهوى فهو على شفا جرف هار، عليه أن يراجع نفسه، وأن يعود إلى ربه -عز وجل-، وأن لا يكون ممن أضلهم الشيطان من حيث لا يشعر.

إن ثمة أمور ذكرها العلماء -رحمهم الله- تعالى تحول بين الإنسان وبين اتباع الهوى، فمن ذلك
أن يتأمل الإنسان في العاقبة، في عاقبة هذه الحياة، وفي نهايتها، ويتأمل في الآخرة وما أعد الله فيها للمحسنين، وما أعد فيها للعصاة -والعياذ بالله!-.

وأن هذه الدنيا لا تسوى شيئاً أمام الآخرة التي فيها كل شيء، وأمام الجنة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فمهما ملك الإنسان من أموال، ومهما ملك من متاع، فإنه شيء يسير في جنب ما أعده الله تعالى للمؤمنين.

ثبت في صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يؤتى بأنعم أهل الدنيا -ممن تبع هواه- من أهل النار فيغمس فيها غمسة واحدة فيقال له بعد ذلك: يا ابن آدم، هل مر بك نعيم قط؟ هل رأيت نعيماً قط؟ فيقول: لا يارب!".

هذا أنعم أهل الدنيا، لما غمس في النار غمسة واحدة نسي ذلك النعيم، "ويؤتى بأبأس أهل الدنيا من أهل الجنة ممن لم يعرف نعيماً، قط ولكنه من الصالحين، فيغمس في الجنة غمسة واحدة، فيقال له بعد ذلك: يا ابن آدم، هل مر بك بؤس قط؟ هل رأيت شقاءً قط؟ فيقول: لا يارب"، لقد أنسته تلك الغمسة كل شيء، الجنة والنار ينبغي أن يتفكر فيها المسلم فيثنيه ذلك عن اتباع الهوى.

من ذلك أن يتأمل في فضيلة الصبر، وأن الجنة حفَّتْ بالمكاره، وأن النار حُفَّتْ بالشهوات، وأن الصبر هو عاقبة المتعففين، فماذا كان يوسف -عليه السلام- ماذا كان سيكون لو أنه اتبع هواه؟ لكن لما خالف هواه واتبع منهج الله تعالى كان إماماً للمتعففين، كان إماماً للصابرين، كان إماماً للمتبعين لمنهج الله تعالى (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) [يوسف:33]، هكذا ينبغي أن يفكر الإنسان في الآخرة.

من ذلك -يا عباد الله- أن يتأمل المسلم أن الهوى لا يدخل في شيء إلا أفسده، فلا يدخل في عبادة إلا أفسدها وأبطلها وأخرج الإخلاص منها، وأدخل الرياء فيها، ولا يدخل في مال إلا أدخل فيه الحرام، ولا يدخل في علم إلا أدخل فيه الجهل، ولا يدخل في شيء إلا أفسده كما قال الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-، فصاحب الهوى لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه.

وأخيراً، ينبغي أن نفهم -يا عباد الله- أنه لا يستقيم إيمان العبد حتى يكون هواه تبعاً لما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- كما جاء في الحديث: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به"، فهوى المؤمن متبع لهوي النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-، لا يستقيم إيمانُ العبد حتى يكون هواه تبعاً لما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم-، يكفينا ذلك.

ألا وصلوا وسلموا...

 

 

 

 

 

المرفقات

الهوى

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات