عناصر الخطبة
1/أهمية الهدية وفوائدها 2/مشروعية الهدية واستحبابها 3/قبول الهدية 4/الهدية تكشف عن عقل صاحبها 5/أولى الناس بالهدية 6/آداب الهدية.اقتباس
والهدية لها آثار طيبة؛ فهي تورث المحبة، وتُذهب الضغينة والشحناء من نفوس الناس، وتُقَوِّي الأواصر فيما بينهم، فهي كالسحر تأسر القلوب، وهي تأكيد للمحبة والصداقة، وعنوان للوفاء، يفرح القلب بها....
الخُطْبَة الأُولَى:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: الهدية من أعظم ما يحقِّق المودة بين القلوب, وأجلّ ما يبعث الوئام في النفوس, ويُسترضى بها الغضبان, ويستميل المحبوب, ويَصفو بها الود بين الخلان والأصحاب.
والهدية هي تميلكُ عينٍ للغير على غير عِوض, وهي مشروعة بالكتاب والسنة والإجماع, فمن الكتاب قوله -تعالى-: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ)[البقرة: 177]. ومن السُّنة قوله -صلى الله عليه وسلم-: "لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ لأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَىَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ"(رواه البخاري). وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "تَهَادَوْا تَحَابُّوا"(حسن- رواه البيهقي والبخاري في "الأدب المفرد").
ومن السُّنة العَمَلية: قالت عَائِشَةُ -رضي الله عنها-: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا"(رواه البخاري).
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ سَأَلَ عَنْهُ أَهَدِيَّةٌ أَمْ صَدَقَةٌ؟ فَإِنْ قِيلَ: صَدَقَةٌ. قَالَ لأَصْحَابِهِ: "كُلُوا". وَلَمْ يَأْكُلْ، وَإِنْ قِيلَ: هَدِيَّةٌ. ضَرَبَ بِيَدِهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَكَلَ مَعَهُمْ.(رواه البخاري). كما أجمعت الأمة على مشروعية الهدية واستحبابها.
أيها المسلمون: حث النبي -صلى الله عليه وسلم- على قبول الهدية، ولو قَلَّت؛ في قوله: "يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ! لاَ تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ"(رواه البخاري ومسلم). وفِرْسِنَ شَاةٍ: الفِرسن خف البعير، وقد استعير للشاة، فسمي ظلفُها فرسناً؛ لأنه للشاة بمنزلة الخف للبعير.
فينبغي قبول الهدية، ولو كانت يسيرة؛ لأن الكثير قد لا يتيسر في كل وقت، كما أن اليسير إذا تواصل صار كثيراً، وبعض الناس يتضايق إذا كانت الهدية يسيرة وليست غالية، وربما اتهم المُهدي بالاستهانة به، أو البخل.
ويزداد الأمر تأكيداً على عدم رد الهدية، إذا كانت إحدى ثلاثٍ أشار إليها النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "ثَلاَثٌ لاَ تُرَدُّ: الْوَسَائِدُ، وَالدُّهْنُ، وَاللَّبَنُ"(حسن -رواه الترمذي). والدُّهْنُ: هو الطِّيبَ.
والهدية لها آثار طيبة، فهي تورث المحبة، وتُذهب الضغينة والشحناء من نفوس الناس، وتُقَوِّي الأواصر فيما بينهم، فهي كالسحر تأسر القلوب، وهي تأكيد للمحبة والصداقة، وعنوان للوفاء، يفرح القلب بها، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أَجِيبُوا الدَّاعِيَ، وَلاَ تَرُدُّوا الْهَدِيَّةَ، وَلاَ تَضْرِبُوا الْمُسْلِمِين"(صحيح -رواه أحمد، والبخاري في "الأدب المفرد").
هَدايا الناسِ بعضهمُ لبعضٍ *** تُولِّدُ في قُلوِبهمُ الوِصالا
وتَزرع في الضَّميرِ هوىً وودّاً *** وَتَكْسُوهُمْ إِذَا حَضَرُوا جَمَالاً
مصايدُ للقلوب بغير لغب *** وتمنحك المحبةَ والوِصالا
وقال آخر:
إن الهدية حلوة *** كالسحر تختلب القلوبا
تُدني البعيد من الهوى *** حتى تُصيِّره قريبا
عباد الله: إن الهدية تكشف عن عقل صاحبها، فلا بد من حسن اختيارها؛ لِتُعبِّر عن حب مخلص وصداقة متينة، وليست العبرة بحجمها وكبرها، وإنما بنوعيتها وحسن اختيارها وما تعبر عنه.
وقد قيل: ثلاثة تدل على عقول أصحابها: الهدية، والرسول، الكتاب. فالكتاب: يدل على عقل كاتبه، والرسول: يدل على عقل مرسله، والهدية: تدل على عقل مُهديها.
والأَولى أن يُهدي الإنسان للأقرب فالأقرب، ولِمَنْ له حقوق عليه؛ كالوالدين، والزوجين، وذوي القربى، والجيران، فالهدية بين الزوجين أمرها عجيب، وأثرها بليغ، وقد أجاز الله -تعالى- للمرأة أن تهب بعض صداقها للزوج، إذا أرادت ذلك عن طيب خاطر، فقال -سبحانه-: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا)[النساء: 4]؛ تأكيداً للمودة فيما بينهما.
ومن الإهداء لذوي القربى: ما جاء عن مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ -رضي الله عنها؛ زوجِ النبي صلى الله عليه وسلم-، أَنَّهَا أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً لها، فلمَّا أخبرت النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-، قال لها: "لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ كَانَ أَعْظَمَ لأَجْرِكِ"(رواه مسلم). والوليدة: هي الأَمة، والجمع: الولائد.
ومن الإهداء للجيران: ما جاء عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-؛ أنها قالت: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ لِي جَارَيْنِ، فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: "إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا"(رواه البخاري. ففيه دليل على أن الجيران يتفاوتون في بالقرب والبعد.
أيها الإخوة الكرام: لا يلزم أن تكون الهدية عينية، فقد تكون حُكماً شرعياً، أو فائدة علمية، أو مثل ما حصل بين هذين الفاضلين؛ فعن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى قَالَ: لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ -رضي الله عنه- فَقَالَ: أَلاَ أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً سَمِعْتُهَا مِنَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَقُلْتُ: بَلَى، فَأَهْدِهَا لِي. فَقَالَ: سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! كَيْفَ الصَّلاَةُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ؟ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَلَّمَنَا كَيْفَ نُسَلِّمُ. قَالَ: "قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ"(رواه البخاري ومسلم).
ويجوز قبول الهدية من الكفار، وكذلك إهداؤهم. أما عن قبول هداياهم: فقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقبل الهدايا من اليهود، ومعروف قصة اليهودية التي أهدت له شاةً وكانت مسمومة، فأخذها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأكل منها، وأطعم بعضَ أصحابه منها.(رواه البخاري ومسلم).
وأما عن إهدائهم: فعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: رَأَى عُمَرُ حُلَّةً عَلَى رَجُلٍ تُبَاعُ فَقَالَ لِلنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: ابْتَعْ هَذِهِ الْحُلَّةَ تَلْبَسْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَإِذَا جَاءَكَ الْوَفْدُ. فَقَالَ: "إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذَا مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ". فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْهَا بِحُلَلٍ، فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ مِنْهَا بِحُلَّةٍ. فَقَالَ عُمَرُ: كَيْفَ أَلْبَسُهَا وَقَدْ قُلْتَ فِيهَا مَا قُلْتَ؟ قَالَ: "إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا، تَبِيعُهَا أَوْ تَكْسُوهَا"؛ فَأَرْسَلَ بِهَا عُمَرُ إِلَى أَخٍ لَهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ.
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أيها المسلمون: للهدية آداب تنبغي مراعاتها، فمن أهمها:
عدم العودة فيها: فمن المستقبَح أن يرجع الإنسان في هديته، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ، ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ"(رواه البخاري ومسلم). أي: يلعقه بعد أن ألقاه، وهو مبالغة في قبح الرجوع بالهبة، وقد ذهب جمهور العلماء إلى تحريم العودة في الهدية؛ لأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- شبَّه العائد في هبته في أقبح صورة.
ومن آداب الهدية: اجتناب المَنِّ بها: فالمَنُّ بالهدية من اللؤم وقلة المروءة؛ قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى)[البقرة: 264].
ومن الآداب: العدل بين الأولاد في العطاء: فعن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رضي الله عنهما- أن أباه أراد أن يُعطيه عطيةً، وكان يُحب أن يُشهِد رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- على هذه الأُعطية، فسأله النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا؟". قَالَ: لاَ. قَالَ: "فَاتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ". قَالَ: فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ.(رواه البخاري).
وفي التزام الأب لهذا العدل -بين أولاده في العطاء- ضمان برهم؛ كما جاء في رواية: "اعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلاَدِكُمْ فِي النُّحْلِ؛ كَمَا تُحِبُّون أَنْ يَعْدِلُوا بَيْنَكُمْ فِي الْبِرِّ وَاللُّطْفِ"(صحيح -رواه البيهقي والطبراني).
وقد يضطر المُهدى إليه أحياناً لرد الهدية لسببٍ أو لآخر، فينبغي تبيين السبب عند رد الهدية؛ مراعاة لنفسية المُهدِي، فعَنِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ -رضي الله عنه-؛ أَنَّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حِمَارًا وَحْشِيًّا، وَهْوَ بِالأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ: "إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلاَّ أَنَّا حُرُمٌ"(رواه البخاري ومسلم)؛ لأنَّ المحرم لا يجوز له أن يصيد، ولا أن يأكل صيداً قد صِيدَ لأجله، وهذا الصحابي لا يعرف الحكم، فاصطاد للرسول -صلى الله عليه وسلم- حماراً وحشياً وجاء يُهديه، فبيَّن له سبب رد الهدية.
ومن الآداب: ألاَّ يكون الإهداء بشيء مُحرَّم، أو بهدايا يُحرِّمها الشرع؛ كتلك الهدايا التي تُهدى بمناسبات الكفار؛ كمناسبة رأس السنة الميلادية، وغيرها من مناسبات دينهم، كما يحرم قبول هذه الهدايا أيضاً؛ لأنه من باب التشبه بأهل الكفر، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ"(صحيح - رواه أبو داود).
ومن الإهداء المُحرَّم: هدايا العاملين بغرض المصلحة؛ فعَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ -رضي الله عنه- قال: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- رَجُلاً عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعَى ابْنَ اللُّتَبِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ حَاسَبَهُ، قَالَ: هَذَا مَالُكُمْ، وَهَذَا هَدِيَّةٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "فَهَلاَّ جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ؛ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا"(رواه البخاري ومسلم). فلا يجوز إعطاء الموظف هديةً على واجبه؛ سدًّا لباب الرشوة.
ومن هذا القبيل ما يأخذه بعض الناس من هدايا تُعطى له حين يستخدم جاهه في الشفاعة، وهو ما يُسمِّيه العلماء أخذ الأجرة على الشفاعة، وقد حذَّر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من ذلك بقوله: "مَنْ شَفَعَ لأَخِيهِ بِشَفَاعَةٍ، فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً عَلَيْهَا فَقَبِلَهَا، فَقَدْ أَتَى بَابًا عَظِيمًا مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا"(حسن -رواه أبو داود).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم