عناصر الخطبة
1/آدب الجنائزاقتباس
استحباب الثناء على الميت بالخير إن كان أهلا للثناء: رَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: مَرُّوا بِجَنَازَةٍ، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «وَجَبَتْ[29]»، ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا..."
الخطبة الأولى:
إن الحمدَ لله، نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا، ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضللْ فلا هاديَ لهُ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71]، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله -عز وجل-، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمورِ محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النارِ، أما بعدُ:
فحَدِيثُنَا معَ حضراتِكم في هذه الدقائقِ المعدوداتِ عنْ موضوع بعنوان: «آداب الجنائز»، واللهَ أسألُ أن يجعلنا مِمَّنْ يستمعونَ القولَ، فَيتبعونَ أَحسنَهُ، أُولئك الذينَ هداهمُ اللهُ، وأولئك هم أُولو الألبابِ.
اعلموا -أيها الإخوة المؤمنون- أن اللهَ -عز وجل- شرعَ لنا آدابا نتأدب بها عند الجنائز، ومن هذه الآداب: الأدب الأول: عدم النعي:
رَوَى التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ -رضي الله عنه- قَالَ: إِذَا مِتُّ فَلَا تُؤْذِنُوا[1] بِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ نَعْيًا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَنْهَى عَنِ النَّعْيِ[2].
والنعي المنهي عنه: هو المناداة في الطرقاتِ والمآذنِ، ونحوه، أما الإخبار بالهاتف وغيره بلا مناداة فلا بأس به.
الأدب الثاني: عدم لطم الخدود، وشق الجيوب:
رَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ[3]»[4].
الأدب الثالث: عدم النياحة:
رَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ -رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: أَخَذَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عِنْدَ الْبَيْعَةِ أَنْ لَا نَنُوحَ[5]؛ أي لا نرفع أصواتنا عند المصيبة.
ورَوَى مُسْلِمٌ عن أَبَي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ لَا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ[6]، وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ[7]، وَالْاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ[8]، وَالنِّيَاحَةُ»، وَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: «النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ[9] مِنْ قَطِرَانٍ[10]، وَدِرْعٌ[11] مِنْ جَرَبٍ[12]»[13].
الأدب الرابع: استحباب تكثير المصلين عند الصلاة على الميت:
رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «مَا مِنْ مَيِّتٍ تُصَلِّي عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ المُسْلِمِينَ يَبْلُغُونَ مِائَةً كُلُّهُمْ يَشْفَعُونَ لَهُ[14] إلَّا شُفِّعُوا فِيهِ»[15].
ورَوَى مُسْلِمٌ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أَنَّهُ مَاتَ ابْنٌ لَهُ، فَقَالَ: يَا كُرَيْبُ انْظُرْ مَا اجْتَمَعَ لَهُ مِنَ النَّاسِ، قَالَ: فَخَرَجْتُ فَإِذَا نَاسٌ قَدِ اجْتَمَعُوا لَهُ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: تَقُولُ هُمْ أَرْبَعُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَخْرِجُوهُ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «مَا مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيَقُومُ عَلَى جَنَازَتِهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا لَا يُشْرِكُونَ بِاللهِ شَيْئًا إلَّا شَفَّعَهُمُ اللهُ فِيهِ»[16].
ورَوَى أَبُو دَاودَ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ هُبَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَمُوتُ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ صُفُوفٍ مِنَ المُسْلِمِينَ إلَّا أَوْجَبَ»، فَكَانَ مَالِكٌ إِذَا اسْتَقَلَّ أَهْلَ الجَنَازَةِ جَزَّأَهُمْ ثَلَاثَةَ صُفُوفٍ لِهذَا الْحَدِيثِ[17].
الأدب الخامس: أن يحمل الجنازةَ الرجال دون النساء:
رَوَى البُخَارِيُّ عن أَبَي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا وُضِعَتِ الجِنَازَةُ، فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ: قَدِّمُونِي، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ لِأَهْلِهَا: يَا وَيْلَهَا أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا، يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الإِنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَ الإِنْسَانُ لَصَعِقَ[18]»[19].
الأدب السادس: استحبابُ الإسراع بالجنازة إسراعًا وسطًا:
رَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ فَإِنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا، وَإِنْ يَكُ سِوَى ذَلِكَ فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ»[20].
الأدب السابع: يستحبُّ أن يمشي الراكب خلف الجنازة:
رَوَى التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الرَّاكِبُ خَلْفَ الجَنَازَةِ، وَالمَاشِي حَيْثُ شَاءَ مِنْهَا، وَالطِّفْلُ يُصَلَّى عَلَيْهِ»[21].
الأدب الثامن: عدم اتباع الجنازة بما يخالف الشريعة الإسلامية كالموسيقى، والزمر، النيران، والنياحة، ونحوه: رَوَى مُسْلِمٌ عن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رضي الله عنه- وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ المَوْتِ فَبَكَى طَوِيلًا وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ، فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ: يَا أَبَتَاهُ أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِكَذَا، أَمَا بَشَّرَكَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِكَذَا، قَالَ: فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: إِنَّ أَفْضَلَ مَا نُعِدُّ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، إِنِّي كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ[22] ثَلَاثٍ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَشَدَّ بُغْضًا لِرَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنِّي وَلَا أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَكُونَ قَدِ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ فَقَتَلْتُهُ، فَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الحَالِ لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَلَمَّا جَعَلَ اللهُ الْإِسْلَامَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلْأُبَايِعْكَ فَبَسَطَ يَمِينَهُ، قَالَ: فَقَبَضْتُ يَدِي، قَالَ: «مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟».
قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ.
قَالَ: «تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟».
قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي.
قَالَ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنَّ الحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ».
وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ رَسُولِ الله -صلى الله عليه وسلم- وَلَا أَجَلَّ فِي عَيْنِي مِنْهُ، وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَمْلَأَ عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلَالًا لَهُ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ، وَلَوْ مُتُّ عَلَى تِلْكَ الحَالِ لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، ثُمَّ وَلِينَا أَشْيَاءَ مَا أَدْرِي مَا حَالِي فِيهَا، فَإِذَا أَنَا مُتُّ فَلَا تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ وَلَا نَارٌ، فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ[23]، وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ[24] رُسُلَ رَبِّي[25].
وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عن أبي بُرْدَةَ، قَالَ: أَوْصَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ -رضي الله عنه- حِينَ حَضَرَهُ المَوْتُ فَقَالَ: لَا تُتْبِعُونِي بِمِجْمَرٍ[26]، قَالُوا لَهُ: أَوَ سَمِعْتَ فِيهِ شَيْئًا؟ قَالَ: نَعَمْ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-[27].
الأدب التاسع: الدعاء، والاستغفار للميت:
رَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- نَعَى لَهُمُ النَّجَاشِيَّ صَاحِبَ الحَبَشَةِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، وَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ»[28].
الأدب العاشر: استحباب الثناء على الميت بالخير إن كان أهلا للثناء:
رَوَى البُخَارِيُّ ومُسْلِمٌ عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: مَرُّوا بِجَنَازَةٍ، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: «وَجَبَتْ[29]»، ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ: «وَجَبَتْ»، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ -رضي الله عنه- مَا وَجَبَتْ؟ قَالَ: «هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ»[30].
ورَوَى البُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: مُرَّ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ: «وَجَبَتْ»، ثُمَّ مُرَّ بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ: «وَجَبَتْ»، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ قُلْتَ لِهَذَا: وَجَبَتْ، وَلِهَذَا: وَجَبَتْ؟، قَالَ: «شَهَادَةُ الْقَوْمِ، المُؤْمِنُونَ شُهَدَاءُ اللهِ فِي الْأَرْضِ»[31].
الأدب الحادي عشر: أن يقول الذين يدخلون الميت قبره: باسم الله، وعلى سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: روى أبو داود بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ إِذَا وَضَعَ المَيِّتَ فِي الْقَبْرِ قَالَ: «بِسْمِ اللهِ، وَعَلَى سُنَّةِ رَسُولِ الله »[32].
أقول قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي، ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله وكفى، وصلاةً وَسَلامًا على عبدِه الذي اصطفى، وآلهِ المستكملين الشُّرفا، أما بعد: فالأدب الثاني عشر: تذكير الحاضرين، والمشيعين بالموت، وما بعده:
روى أبوداود بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رضي الله عنه- قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ- وَلَمَّا يُلْحَدْ - فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، وَكَأَنَّ عَلَى رُؤُوسِنَا الطَّيْرَ وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: «اسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ » مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ المُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الجَنَّةِ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ المَوْتِ عليه السلام حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ، فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ، وَفِي ذَلِكَ الحَنُوطِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ، يَعْنِي بِهَا، عَلَى مَلَإٍ مِنَ المَلاَئِكَةِ، إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الطَّيِّبُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ، بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ.
فَيَقُولُ اللهُ -عز وجل-: اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الأَرْضِ، فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى، فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ، فَيُجْلِسَانِهِ.
فَيَقُولاَنِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟
فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللهُ، فَيَقُولاَنِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟
فَيَقُولُ: دِينِيَ الإِسْلاَمُ.
فَيَقُولاَنِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟
فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-.
فَيَقُولاَنِ لَهُ: وَمَا عِلْمُكَ؟
فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللهِ، فَآمَنْتُ بِهِ، وَصَدَّقْتُ.
فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ: أَنْ صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الجَنَّةِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا، وَطِيبِهَا، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيَابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ.
فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالخَيْرِ.
فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ.
فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي.
وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ مَعَهُمُ المُسُوحُ[33]، فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ المَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الخَبِيثَةُ اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنَ اللهِ وَغَضَبٍ، فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ[34] مِنَ الصُّوفِ المَبْلُولِ، فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ المُسُوحِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَإٍ مِنَ المَلَائِكَةِ إلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الخَبِيثُ؟
فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ فَلَا يُفْتَحُ لَهُ.
ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ)[الأعراف: 40].
فَيَقُولُ اللهُ -عز وجل-: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى، فَتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا. ثُمَّ قَرَأَ: (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)[الحج: 31]، فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟
فَيَقُولُ: هَاهْ هْاهْ لَا أَدْرِي.
فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟
فَيَقُولُ: هَاهْ هْاهْ لَا أَدْرِي.
فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟
فَيَقُولُ: هَاهْ هْاهْ لَا أَدْرِي.
فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ كَذَبَ، فَافْرِشُوا لَهُ مِنَ النَّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا، وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ قَبِيحُ الثِّيَابِ مُنْتِنُ الرِّيحِ.
فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ.
فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ.
فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الخَبِيثُ.
فَيَقُولُ: رَبِّ لَا تُقِمِ السَّاعَةَ»[35].
الدعـاء...
اللهم إنا نعوذ بك من العجز، والكسل، والجُبن، والبخل، والهَرَم، وعذاب القبر.
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكاها، أنت وليُّها ومولاها.
اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يُستجاب لها.
اللهم اهدنا، وسدِّدنا، اللهم إنا نسألك الهدى والسداد.
اللهم إنا نعوذ بك من زوالنعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفجاءة نِقمتك، وجميع سخطك.
اللهم ثبِّت قلوبَنا على الإيمان.
اللهم ارزُقنا العلمَ النافع والعملَ الصالحَ.
أقول قولي هذا، وأقم الصلاة.
[1]إِذَا مِتُّ فَلَا تُؤْذِنُوا بِي: أي لا تخبروا بموتي أحدًا.
[2]حسن: رواه الترمذي (986)، وقال: حسن صحيح.
[3]وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ: أي من النياحة كقولهم: واجبلاه، و: واويلاه.
[4] متفق عليه: رواه البخاري (1294)، ومسلم (103).
[5] متفق عليه: رواه البخاري (1306)، ومسلم (936).
[6]فِي الْأَحْسَابِ: أي في شأنها وسببها، والحسب ما يعده الرجل من الخصال التي تكون فيه، كالشجاعة، والفصاحة، وغير ذلك.
[7]الطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ: أي إدخال العيب في أنساب الناس، وذلك يستلزم تحقير الرجل آباء غيره، وتفضيل آبائه على آباء غيره، وهو ممنوع.
[8] والاستسقاءُ بالنُّجومِ: أي طلب نزول المطر بالنجوم.
[9] سِرْبَالٌ: أي قميص.
[10]مِنْ قَطِرَانٍ: أي من نحاس مذاب.
[11] وَدِرْعٌ: عطف على سربال، والدرع: قميص النساء، والسربال القميص مطلقًا.
[12] مِنْ جَرَبٍ: أي من أجل جرب كائن بها، والمعنى: أنه يسلط على أعضائها الجرب، والحكة بحيث يغطي جلدها تغطية الدرع ويلتزق بها، فتطلى مواقعه بالقطران لتداوى، فيكون الدواء أدوى من الداء؛ لاشتماله على لذع القطران وحدته وحرارته، وإسراع النار في الجلود، واشتغالها ونتن الرائحة، وسواد اللون الذي تشمئز منه النفوس.
[13] صحيح: رواه مسلم (934).
[14] يَشْفَعُونَ لَهُ: أي يدعون له.
[15] صحيح: رواه مسلم (947).
[16] صحيح: رواه مسلم (948).
[17] حسن: رواه الترمذي (1028)، وحسنه.
[18]لصَعِقَ: أي لغشي عليه، أو مات من شدة هول ذلك.
[19] صحيح: رواه البخاري (1316).
[20] متفق عليه: رواه البخاري (1315)، ومسلم (944).
[21] حسن: رواه الترمذي (1031)، وقال: حسن صحيح.
[22] أطباق: أي مراحل.
[23] حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ: أي بدعائكم، واستغفاركم، وسؤالكم لي التثبيت.
[24]مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ: أي أجاوب به.
[25] صحيح: رواه مسلم (121).
[26] بمجمر: هو ما يوضع فيه النار للبخور.
[27] حسن: رواه بن ماجه (1487).
[28] متفق عليه: رواه البخاري (3880)، ومسلم (951).
[29]وَجَبَتْ: أي ثبتت له الجنة.
[30] متفق عليه: رواه البخاري (1367)، ومسلم (9499).
[31] صحيح: رواه البخاري (2642).
[32] حسن: رواه أبو داود (3213)، وَحَسَّنهُ الألباني.
[33] مَعَهُمُ المُسُوحُ: أي اللباس الخشن.
[34] فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ: أي كتنور الحديدة التي يشوى عليها اللحم.
[35] صحيح: رواه أبوداود (4753)، وأحمد (17803)، وصححه الألباني في «صحيح الجامع» (1676).
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم