عناصر الخطبة
1/ خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى العمرة 2/ منع قريش دخول النبي وأصحابه إلى مكة 3/ أسباب صلح الحديبية 4/ شروط صلح الحديبية 5/ حكم الصلح والمهادنة مع الكفار 6/ دروس وعبر من صلح الحديبية.اقتباس
وهذا إن دلَّ يدل على عظمة هذا النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي رُمي إسلامه ودينه وشخصيته بالإرهاب، وأنه سفَّاك للدماء، وأن دينه دين يتعطش للدماء – كلا والله – لو صدرت أخطاء من بعض أفراد الأمة فإن الحكم لا يُعمم، فالأمة فيها خير وفيها مَنْ هو عظيم ويزن الأمور بميزانها الحقيقي، ولذلك لو كان -عليه الصلاة والسلام- متعطشًا للدماء لذهب من أيسر السبل، لكنه -عليه الصلاة والسلام- تكبَّد المشاق عبر ثنية وعرة حتى لا يصطدم بقريش، وكان يرسل -عليه الصلاة والسلام- بعض الناس لكي يخبر قريشا أنه لم يأت لقتالهم، وقريش وقعت في أمر حرج، هي تشيع بين الناس بأن محمدا -صلى الله عليه وسلم- لا يعظم البيت،...
الخطبة الأولى:
الحمد لله...
أما بعد: فيا عباد الله: انقضت غزوة الأحزاب، وسبق الحديث عن تلك الغزوة، فلما انقضت تلك الغزوة صدر من النبي -صلى الله عليه وسلم- قول، ماذا قال؟ قال عليه الصلاة والسلام "الآن نغزوهم ولا يغزوننا".
عند هذه الجملة نستشف فوائد جمَّة، وفوائد كثيرة، لا سيما ونحن في زمن نحتاج فيه إلى أن نربط أنفسنا بتلك الأحداث الجارية للنبي -صلى الله عليه وسلم-، حتى نسير حذو سيره فلا نزل ولا نُخطئ، لما قال: "الآن نغزوهم ولا يغزوننا"، دلَّ على أن المرحلة السابقة منه -عليه الصلاة والسلام-- كانت مرحلة دفاع وليست مرحلة هجوم، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يراعي مصالح الأمة من حيث الأحوال ومن حيث الأزمان ومن حيث العواقب ومن حيث المآلات، لا تأتي العاطفة وحدها فتحكم أمرها على الإنسان – كلا – العاطفة الجيَّاشة والحماس الجيَّاش تجاه ما يجري للإسلام وأهله أمر مطلوب، ولكن لابد أن يكون هذا الحماس وتلك العاطفة مربوطة بهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى نُفلح وحتى نهتدي.
ولذا يقول ابن القيم -رحمه الله-: "كان الجهاد في أول أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- محرمًا" يحرم عليه أن يجاهد، لِمَ؟ لأنه في مرحلة نشوء، في مرحة ابتداء، والأمة في تلك الفترة ليست قادرة على الجهاد، ولو شرعت في الجهاد لقضي على أفراد الأمة، ولذلك تلك الآيات جاءت في كلام الله -سبحانه وتعالى- مبينة هذا، وهي صالحة لكل زمان ومكان، متى ما ضعف المسلمون وأصبحت حالتهم كحالة النبي -صلى الله عليه وسلم- في المرحلة الأولى، تطبق هذه النصوص، قرآننا قرآن كامل يستفاد منه في كل عصر وفي كل موقف وفي كل مكان (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) [الحجر: 85]، (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الزخرف: 89]، (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [المائدة: 13]، إلى غير ذلك من هذه الآيات التي لم يؤمر فيها النبي عليه الصلاة والسلام بالجهاد، بل إن الجهاد محرم عليه كما أفاد ذلك ابن القيم رحمه الله.
بعد هذه المقولة أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- في السنة السادسة من الهجرة في أول شهر ذي العقدة، أراد أن يعتمر، لأن لبيت الله الحرام حنينًا في قلب كل مسلم، فأراد أن يعتمر بعد طوال تلك المدة، فهيأ النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه، ومعه ألف وأربعمائة صحابي، فسار -عليه الصلاة والسلام-، وقد ندب بعض الأعراب لكي يصحبوه، لأنه يخشى من أن ترتد قريش عليه فتحاربه، فأعد عدته وأخذ السلاح خيفة من أن يُبطش به -عليه الصلاة والسلام- وبمن معه، لكن هؤلاء الأعراب تثاقلوا، فسار -عليه الصلاة والسلام-، فلما وصل الروحاء، وهو مكان يبعد عن المدينة ثلاثين ميلا، أرسل بسر الخزاعي -رضي الله عنه- لكي يستطلع ردود قريش، وينظر إلى تجهيزاتهم وردود أفعالهم.
فانطلق -رضي الله عنه-، فلما بلغ عليه الصلاة بعد أن أحرم في ذي الحليفة هو وأصحابه، علم أن قريشا أرسلت مجموعة من جيشها نحو ساحل البحر الأحمر، فأراد -عليه الصلاة والسلام- أن يؤمِّن الطريق، فأرسل أبا قتادة -رضي الله عنه- وهو لم يُحرم ومعه مجموعة من الصحابة لكي ينظر، فذهب أبو قتادة ولم ير شيئًا، فلما بلغ -عليه الصلاة والسلام- عُسْفان وهي منطقة بين مكة والمدينة تبعد عن مكة بما يقرب من ثمانين كيلاً – يعني كيلو – أتاه بسر وأخبره أن قريشًا قد جمعت جموعها وهيَّأت أمرها واستعدت لقتاله، وهذا ما كان يخشاه -عليه الصلاة والسلام-، فجمعت جموعها، فذهب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الحديبية.
ويصح أن تنطق الحديبيَّة بالتشديد، ولكن الأشهر التخفيف الحديبية، وهي عبارة عن بئر في ذلك الموطن يبعد المسجد الحرام بما يزيد عن عشرين كيلا، فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يأتي إلى الحديبية لكي لا يصطدم مع قريش، فذهب عبر ثنية وَعِرة، كل ذلك من أجل ألا يقع النبي -صلى الله عليه وسلم- في مصادمة مع قريش.
وهذا إن دلَّ يدل على عظمة هذا النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي رُمي إسلامه ودينه وشخصيته بالإرهاب، وأنه سفَّاك للدماء، وأن دينه دين يتعطش للدماء – كلا والله – لو صدرت أخطاء من بعض أفراد الأمة فإن الحكم لا يعمم، فالأمة فيها خير وفيها مَنْ هو عظيم ويزن الأمور بميزانها الحقيقي، ولذلك لو كان -عليه الصلاة والسلام- متعطشا للدماء لذهب من أيسر السبل، لكنه -عليه الصلاة والسلام- تكبَّد المشاق عبر ثنية وعرة حتى لا يصطدم بقريش، وكان يرسل -عليه الصلاة والسلام- بعض الناس لكي يخبر قريشا أنه لم يأت لقتالهم.
وقريش وقعت في أمر حرج، هي تشيع بين الناس بأن محمدا -صلى الله عليه وسلم- لا يعظم البيت، ومن ثم فإنهم إذا صدوه ناقضوا أنفسهم، وإذا تركوه يعبر حتى يصل إلى البيت الحرام، بان في ذلك ضعفهم ولا سيما بعد غزوة الأحزاب، فأصبحوا في أمر قلقٍ محرجٍ مزعج، لكن الرأي الذي وصلوا إليه أن يردوا النبي -صلى الله عليه وسلم- بأي وسيلة من الوسائل، فأتى بديل الخزاعي، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر قريشا أننا لم نأت لقتالهم، فذهب وأخبرهم فاتهموه بالجهل.
فأرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- خِراش الخزاعي ومثل ما حصل لبديل حصل لِخراش من تلك المقولة، فأراد -عليه الصلاة والسلام- أن يرسل عمر بن الخطاب لكي يتفاوض مع قريش، لكن عمر -رضي الله عنه- أوضح للنبي -صلى الله عليه وسلم- أنه شديد العداء لكفار قريش وأنه سيناصبهم المقولة الصلبة إن هم أخطأوا عليه، ومعلوم أن قومه بني عدي لا يناصرون عمر، ففي نفوسهم شيء على عمر، فعدل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عمر إلى عثمان -رضي الله عنه- فأرسله.
فدخل عثمان -رضي الله عنه- في أمان أَبَان بن سعيد بن العاص، فأخبرهم بما يريده النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكن قريشا حبسته إكرامًا له وليس تعذيبًا أو اضطهادًا له، وسمحوا له أن يطوف بالبيت، قال: "كلا والله لا أطوف بالبيت قبل النبي -صلى الله عليه وسلم-".
فأُشيع بين صفوف الصحابة رضي الله عنهم أن عثمان قُتل، لما حبس ولم يأت، أشيع أنه قتل، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: "من يبايعني على الموت وعلى ألا يفر ولا يهرب"، فبايعه الصحابة كلهم الألف والأربعمائة ما عدا رجلاً واحدًا كان منافقًا، وهو الجد بن قيس، وهذا يدل على أن الأمة الإسلامية لا تخلو مجتمعاتها من المنافقين، فأول من بايع النبي -صلى الله عليه وسلم- أبو سنان الأسدي، عثمان -رضي الله عنه- له مقام رفيع، لأنه قام بمهمة عظيمة، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخذ بيده اليمنى وضرب بها على يده الأخرى وقال: "هذه يد عثمان".
فأصبح عثمان من بين مَنْ بايع تحت الشجرة، وتسمى بيعة الرضوان، ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم بعد هذه البيعة "أنتم خير أهل الأرض"، وقال: "لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة"، فلما كادت أن تتأزم الأمور بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين قريش إذا بعثمان يقدم، فكأن الأمور هدأت، فأرسلت قريش لما أتاها عثمان وبين لها مراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أرسلت عروة بن مسعود الثقفي، فلما أتى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبره النبي -صلى الله عليه وسلم- بما يريد.
فرجع عروة وقال: "يا قوم والله إني قدمت على ملوك فارس والروم وما رأيت أحدًا يعظمه أصحابه مثل ما يعظم أصحاب محمد محمدًا"، هذه إشارة لنا إلى أن اتحاد الصف من حيث الداخل أمر ضروري للأمة، فإن النزاع الداخلي والخلاف والشقاق الذي يحصل في الداخل أمر عظيم، حتى ولو كان هناك بعض ما في النفوس فإن الواجب على أفراد الأمة أن تتحد مع رؤسائها ومع زعمائها ومع ولاة أمرها، حتى يُدحر العدو، وحتى لا يكون له سبيل إلى بلاد المسلمين، فأرادوا أن يرسلوا رجلا اسمه الحليس الكناني، وكان له منعة وقوة في قومه.
فلما رآه النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "إن هذا من قوم يتألهون" يعني يتعبدون "فأرسلوا عليه الهدي وارفعوا أصواتكم بالتلبية" سياسة عظيمة، وهذا مما يجب على المسلمين أن يكونوا سياسيين بحيث ينتهزون الفرص؛ لأن هناك من بين الكفار من هم عقلاء، وليسوا على درجة واحدة، فالمسلم الواعي العاقل السياسي هو الذي ينتهز الفرص التي تعود للأمة بالمصالح الجمة، حتى ولو كان هذا التعامل مع الكفار، فانتهزها النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "فأرسلوا عليه الهدي وارفعوا أصواتكم بالتلبية"، رجع، وقال: "والله! إن هؤلاء قوم لا يُصدون عن البيت"، فقالوا: "اسكت، إنما أنت رجل من الأعراب"، فقال: "والله لأنفرنَّ عليكم قبيلتي نفرة رجل واحد".
انظروا كيف استفاد النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذا السيد، فما كان من قريش إلا أن هدأته، حتى لا تثير عليها هذا الرجل، فأرسلوا رجلاً يسمى بمكرز، فلما رآه النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن هذا رجل فاجر" تصنيف، من باب أن تحذر الأمة في تعاملها مع أصناف الكفار، فما كان من إطلالته إلا أن أتى خلفه سهيل بن عمرو، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لقد سُهِّل عليكم أمركم" استشف واستوحى -عليه الصلاة والسلام- من اسم سهيل أن السهولة آتية.
وهكذا يجب على المسلمين في أحلك وأشد وأصعب الظروف أن يكون التفاؤل أمام أعينهم، اشتدت الأمور، مراسلات، مراسلون، سياسيون، مندوبون، تكاد أن تتأزم القضية، فقال -عليه الصلاة والسلام- قال: "لقد سُهِّل عليكم أمركم"، هذا هو التفاؤل، فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- سهيلا بما يريد.
وكانت قريش قد شدَّدت على سهيل ألا يسمح للنبي -صلى الله عليه وسلم- بالدخول إلى مكة في هذه السنة، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان قد رأى رؤيا في المدينة أنه سيطوف بالبيت وأخبر الصحابة ففرحوا بذلك، فانطلق -عليه الصلاة والسلام- من المدينة إلى مكة.
فأراد أن يبرم صلحًا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان المغيرة واقفًا على رأس النبي -صلى الله عليه وسلم- , والنبي -صلى الله عليه وسلم- جالس، انظروا، والله ليست هناك إغاظة للأعداء من أن يرى العدو تلاحم المسلمين، لا سيما الرعية مع الراعي، المغيرة واقف والنبي -صلى الله عليه وسلم- جالس، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يحذر من أن يقوم له أصحابه، وقال: "لا تتشبهوا بالأعاجم"، لمَ أذن للمغيرة أن يقوم على رأسه -عليه الصلاة والسلام- وهو جالس؟ من أجل أن يظهر للأعداء أنه مع أصحابه في لحمة عظيمة، ولذلك أجاز الشرع بعض المحرمات في الحرب ولم يجزها في السلم حتى يغتاظ العدو.
فأراد -عليه الصلاة والسلام- أن يعطي الصلح صِبغة إسلامية، فأراد أن يكتب – وكان الكاتب علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- – فأراد أن يكتب البسملة (بسم الله الرحمن الرحيم) فقال سهيل ما نعرف (الرحمن) اكتب (باسمك اللهم) (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ) [الرعد: 30]، (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً) [الفرقان60].
فقال -عليه الصلاة والسلام- اكتب "باسمك اللهم" (قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَـنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى) [الإسراء: 110]، انظروا إلى هذا الصلح الذي أُبّرم، والله إن هذا الصلح لو وقف المسلمون ولا سيما شريحة من الشباب التي لها عاطفة جياشة، وتُحمد على ذلك شريطة أن تربط بما يجري للنبي -صلى الله عليه وسلم- حتى نسلم، والله إن هذا الصلح التي تذكر مفرداته الآن لهو شبيه بما يجري لنا لو استفدنا منه، هذه غضاضة على المسلمين، قال: "هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله قريشا"، كتب ذلك علي رضي الله عنه، قال سهيل على رسلك، لو كنا نعتقد أنك نبي لما قاتلناك، لتُمح هذه الكلمة، قال علي "والله لا أمسحها"، أمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بمحوها، فلم يمسحها، ليس هذا عصيانًا للنبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكنه يرى أن هناك ما هو مهين لقدر النبي -صلى الله عليه وسلم-.
لكن لتعلموا – عباد الله – أنه كلما كانت المصلحة العظمى نصب عين القائد للأمة فالجزيئات الأخرى ولو كانت فيها غضاضة على الأمة تترك، لأن الإسلام جاء بالمصالح الكبرى، حتى ولو كان في ثناياها مفاسد صغرى، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعلي "أرنِ كلمة رسول الله"، فأراه إياها فمسحها عليه الصلاة والسلام "وكتب ابن عبد الله".
إما أنه كتب يعني أمر بالكتابة، أو أنه -عليه الصلاة والسلام- كتب بيده – سبحان الله – كيف وهو أُمِّي لا يقرأ ولا يكتب؟ هذا لا يتنافى مع كونه أُمِّيا، لم؟ لأن كلمة "رسول الله"، دائما تتكرر صورتها على عينيه، وأي عامي لا يقرأ ولا يكتب لو رأى كلمة تتكرر أمام عينيه حين مكاتبته أو ما شابه ذلك، يمكن أن يرسمها رسما، فلا يخرج -عليه الصلاة والسلام- عن كونه أُمِّيا – سبحان الله – كيف تكون الأمية ممدوحة؟ قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين "إنَّا أمة أمية"، كيف تمدح الأمية؟ الأمية أنواع، ولذلك يقول شيخ الإسلام -رحمه الله- كما في الفتاوى: "إن أمية النبي -صلى الله عليه وسلم- أمية عظمى" كيف؟ نقول لماذا نقرأ؟ لماذا نكتب؟ أليس من أجل نحفظ وأن نفهم وأن نعقل؟
النبي -صلى الله عليه وسلم- حصلت له هذه الأشياء بدون هذه الوسائل، كون الإنسان يفهم ويعقل ويعلم من غير أن يُتعب نفسه سنين في التعلم في القراءة والكتابة، لا شك أن هذا أمر محمود ولهذا مُدحت هذه الأمة ومُدح النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذه الحيثية، فكتبها النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعمر -رضي الله عنه- يكاد أن يقتله الغضب، وتأتي الطامة الكبرى، أراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكتب في هذا الصلح أن يدخل مكة، فقال سهيل أما هذه فلا، تدخلونها في العام القادم فنخرج منها وليس معكم إلا السيوف في أغمادها وتبقى فيها ثلاثة أيام ثم تخرج.
فوافق النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولذلك كان يقولون لما بركت القصواء عند الحديبية، قالوا خلأت القصواء، قال "ما خلأت القصواء وما ذلك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل، والله لا يصالحونني على أمر يعظمون فيه حرمات الله إلا أعطيتهم إياه"، فوافق النبي -صلى الله عليه وسلم-.
تأتي الطامة الثانية، قال سهيل ولا يأتيك أحد منا مسلما إلا رددته إلينا، ولا يأتينا أحد منك إلا لم نرده إليك، قال الصحابة ولا سيما عمر، قال يا رسول الله أنرد إخواننا إليهم؟! وقبل أن يكتب الكتاب على هذا البند، وقد وافق -عليه الصلاة والسلام- لكنه لم يكتب، يعني كأن النبي -صلى الله عليه وسلم- في بدايته أقره ولكنه لم يكتب بعد، قبل أن يكتب إذا بأبي جندل بن سهيل بن عمرو، ابن هذا الرجل، قد أتى فارا بدينه والسلاسل مكبلة في يديه، فقال يا محمد: أول ما أصالحك أصالحك على هذا، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "إنا لم نكتب الكتاب بعد".
وأراد النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يستشفع بمكرز مع أنه رجل فاجر، لكن المصالح التي تعود لأمة لا بد أن تكون على ساحة السياسة، المصلحة الكبرى هي الأهم بقطع النظر عن الأفراد، فأراد مكرز أن يلين من أمر سهيل، فقال سهيل أما هذه فلا، أول ما أصالحك أصالحك على هذا، فصالحه النبي -صلى الله عليه وسلم- على هذا.
فأتى عمر -رضي الله عنه- النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال يا رسول الله "ألست نبي الله حقا؟ قال بلى، قال: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: بلى، قال: أنرضى الدنيَّة في ديننا؟ أنسلم إخواننا؟ فقال -عليه الصلاة والسلام-: "إن الله هو ناصري ولن أعصيه".
فأتى عمر إلى أبي بكر رضي الله عنه، فكان جواب أبي بكر كجواب النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم قال أبو بكر لعمر "استمسك بغرزه"، يعني بأمره "فإنه على الحق"، فأراد عمر أن يُقرِّب سيفه من أبي جندل لكي يأخذه ويقتل أباه لكنه لم يفعل من الغيظ الذي كان يحمله عمر -رضي الله عنه- سبحان الله! أنا أريد أن أطبق على ما يكون في الواقع، والله إن في قلوبنا ألمًا وحزنًا على ما يجري لإخواننا، ومن لا يحمل في قلبه هذا الشيء فإن في قلبه نفاقًا.
لكن حال الأمة يختلف من زمن إلى زمن آخر، قد يأتي إنسان ويقول لماذا لا تُحَّرك الجيوش؟ المعتصم حرك جيشا جرارا من أجل امرأة مأسورة في سجون الروم ! هذه تقال، لكن في هذا العصر أشبه ما يكون بحال النبي -صلى الله عليه وسلم-، هذا رجل بين يدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين يدي الصحابة -رضي الله عنهم- ومع ذلك يُسلِّمه للكفار.
حتى قال أبو جندل "يا رسول الله: أتتركونني ليفتنني كفار قريش عن ديني؟! فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله جاعل لك ولإخوانك من المستضعفين فرجا"، لم؟ لأن المصلحة هنا مصلحة أمة، ليست مصلحة فرد، أسلمه النبي -صلى الله عليه وسلم-، كل ذلك من مصلحة الأمة فلا يأت إنسان ويقول مطبقا لحادثة من الحوادث التي جرت في التاريخ وهي في حالة قوة للمسلمين، ويقول لماذا لا تطبق في هذا الزمن؟
فكتب الكتاب على أن يستمر الصلح بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين كفار قريش عشر سنين، وأن مَنْ أراد أن يدخل في حزب النبي -صلى الله عليه وسلم- فليدخل ومن أراد أن يدخل في حزب قريش فليدخل، وأنه لا إسلال ولا خيانة ولا سرقة بينهما، ولذلك يقول شيخ الإسلام -رحمه الله ، وهذا رأي له وذهب إليه كثير من المحققين – بأن الهدنة والصلح بين المسلمين وبين الكفار يجوز أن تعقد ولو أكثر من عشر سنين، ولو لم يحدد لها أجل، لكن حيث يجوز تأخير الجهاد، متى يجوز تأخير الجهاد؟ إذا ضعفت قوى المسلمين.
قد يكون لدى المسلمين قوة، ولكنها ليست قوة سلاح ولا قوة عدد ولا عتاد، قد يكون ضعفا قد نخر في نفوسهم، في جمعهم، في تفرقهم، فهذا ضعف، ولذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أتت غطفان كما ذكرنا في غزوة الأحزاب، أراد أن يدفع إليهم مالا من بيت مال المسلمين حتى يعودوا، لم يدفع مالا؟ ولي أمر الأمة النبي -صلى الله عليه وسلم- سيدفع مالاً لغطفان حتى تعود! قد يراها البعض دنية أو ضعفاً أو خوراً – كلا – متى ما رأى الولي المصلحة في ذلك، فهذه هي المصلحة، لأنه ينظر عن كثب وعن قرب للأحداث، لا كمن يأخذ الأحداث من وسائل الإعلام التي تترامى وتتباين توجهاتها.
وهذا ما يحصل في هذا العصر، تجد في المجلس الواحد هذا رجل يتحدث عن حيثية معينة في حدث، وذاك في حيثية أخرى مباينة له في نفس الحدث، لم؟ لأن هذا اطلع على وسائل إعلام تؤيد هذا الأمر، وذاك اطلع على وسائل إعلام تؤيد هذا الأمر، هذا متلقَّانا، بينما القادة ينظرون عن كثب وعن قرب.
فأراد أن يصطلح معهم على أن يدفع مالا، ولذلك قال بعض العلماء لما استشار النبي -صلى الله عليه وسلم- السعدين في ذلك قال دل على أن الأمر يجوز حيث يجوز تأخير الجهاد إذا ضعف المسلمون وليس لهم قوة ولا قدرة على مجابهة الأعداء، فانطلق النبي -صلى الله عليه وسلم- عائدًا إلى المدينة، وانظروا إلى ما يدبره ويخططه الأعداء، أثناء المفاوضات أرادت قريش أن تستفز أعصاب النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنها ترى نفسها في حالة قوة.
فأرسلت سرية قبل انعقاد الصلح في ثناياه مكونة من ثمانين رجلا لتباغت المسلمين، لكن المسلمين سيطروا عليها، فعفا النبي -صلى الله عليه وسلم- عنهم، أتى بعد ذلك ثلاثون شابا وأرادوا أن يفعلوا مثلما فعل الأولون فتمكَّن المسلمون منهم، وعفا النبي -صلى الله عليه وسلم- عنهم، في أثناء المفاوضات أتى أربعة من الرجال لكي يقتلوا النبي -صلى الله عليه وسلم-، فتمُكن منهم وعفا النبي -صلى الله عليه وسلم- عنهم، حتى بعد الصلح بعثوا سبعين رجلا ليباغتوا المسلمين ومع ذلك تمكن المسلمون منهم وعفا النبي -صلى الله عليه وسلم- عنهم، من أجل ماذا؟ من أجل أن تتحقق المصالح والفوائد من هذا الصلح للأمة، صلح بهذه البنود فيه خير للأمة؟ نعم، فيه خير لأمة، كيف؟
نستمع إلى هذا بإذن الله تعالى في الجمعة القادمة، أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يبارك لنا في قرآننا وفي سنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-.
وصلوا وسلموا...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم