عناصر الخطبة
1/ آثار الطلاق السيئة على ترابط المجتمع وتواصله 2/آثار الطلاق السيئة على أمن المجتمع وسلامته 3/ آثار الطلاق السيئة على عفاف المجتمع وطهارته.اقتباس
لَوْ سَأَلْتُمْ فِي الْوَاقِعِ الْيَوْمَ -مَعْشَرَ الْفُضَلَاءِ- لَوَجَدْتُمْ مِمَّنِ امْتَهَنُوا مِهْنَةَ اللُّصُوصِيَّةِ وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى أَمْوَالِ الْآخَرِينَ مِنَ الشَّبَابِ وَالْفَتَيَاتِ كَانَ طَلَاقُ آبَائِهِمْ لِأُمَّهَاتِهِمْ هُوَ الطَّرِيقَ إِلَى تِلْكَ النِّهَايَةِ الْبَائِسَةِ حِينَ لَمْ يَجِدُوا الْمَالَ، فَبَحَثُوا عَنْهُ فِي سُبُلِ الْحَرَامِ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الزَّوَاجَ فِي الْإِسْلَامِ طَرِيقٌ إِلَى الْحَيَاةِ السَّعِيدَةِ، وَمَعْبَرٌ آمِنٌ إِلَى الْعِيشَةِ النَّقِيَّةِ الرَّغِيدَةِ، يَرْبُطُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَأُسْرَتَيْهِمَا بِرِبَاطٍ وَثِيقٍ مِنَ التَّمَاسُكِ وَالْمَوَدَّةِ، وَيَجْعَلُ بَيْنَهُمْ قُوَّةً مُتَعَاوِنَةً فِي الرَّخَاءِ وَالشِّدَّةِ، وَبِذَلِكَ يَمْتَدُّ حَبْلُ التَّعَاضُدِ فِي الْمُجْتَمَعِ وَيَقْوَى، وَتَجْرِي فِي رُبُوعِهِ أَنْهَارُ السَّلَامَةِ فَيَسْتَقِي مِنْهَا حَتَّى يَرْوَى.
غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الرَّابِطَةَ -يَا عِبَادَ اللَّهِ- لَيْسَ لَهَا أَحْيَانًا وَعْدٌ بِالْخُلُودِ وَدَوَامِ الْبَقَاءِ، وَحَافِظٌ يَقِيهَا مِنَ التَّصَدُّعِ وَالِانْتِهَاءِ، فَهِيَ رَابِطَةٌ بَشَرِيَّةٌ قَدْ تُفْصَمُ عُرَاهَا فِي أَيِّ لَحْظَةٍ، وَيَتَبَدَّلُ وِئَامُهَا إِلَى فِرَاقٍ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ بِمُجَرَّدِ لَفْظَةٍ.
وَهُنَاكَ مِنَ الْفِئَاتِ مَنْ يُصِيبُهُ مِنْ لَفْحِ تِلْكُمُ الْآثَارِ السَّيِّئَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى أَمْرِ الطَّلَاقِ كَالْمُجْتَمَعِ الَّذِي تَعِيشُ فِيهِ هَذِهِ الْأُسْرَةُ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الطَّلَاقُ، فَمَا الْآثَارُ السَّيِّئَةُ لِلطَّلَاقِ عَلَى الْمُجْتَمَعِ يَا تُرَى؟
لَا شَكَّ أَنَّ مِنْ أَهَمِّهَا زَعْزَعَةَ تَرَابُطِ ذَلِكَ الْمُجْتَمَعِ وَخَلْخَلَةَ عَلَاقَاتِهِ؛ فَالْإِسْلَامُ -كَمَا لَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ- يَدْعُو إِلَى الِاجْتِمَاعِ وَالِائْتِلَافِ، وَيَنْهَى عَنِ الْفُرْقَةِ وَالِاخْتِلَافِ، وَيُشَجِّعُ عَلَى أَسْبَابِ التَّقَارُبِ وَالْقُوَّةِ، وَيُحَذِّرُ مِنْ عَوَامِلِ التَّبَاعُدِ وَالضَّعْفِ؛ يَقُولُ اللَّهُ -تَعَالَى-: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[آلِ عِمْرَانَ:103-105].
وَعَنْ أَبِي مُوسَى -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى".
وَالزَّوَاجُ مِنْ أَبْرَزِ طُرُقِ الْوُصُولِ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ الْحَمِيدَةِ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ بَعْضُ الْقَبَائِلِ الْعَرَبِيَّةِ مُجْتَمِعَةً فِي سِلْمِهَا وَحَرْبِهَا بِجَامِعِ الْمُصَاهَرَةِ، وَقَدْ عَمِلَ نَبِيُّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهَذَا الْمَبْدَأِ؛ فَتَزَوَّجَ مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى، وَزَوَّجَ بَنَاتِهِ كَذَلِكَ؛ فَقَدْ تَزَوَّجَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ التَّيْمِيِّ، وَبِنْتَ عُمَرَ الْعَدَوِيِّ، وَزَوَّجَ ابْنَتَيْهِ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ الْأُمَوِيِّ، وَبِنْتَهُ فَاطِمَةَ مِنْ عَلِيٍّ الْهَاشِمِيِّ.
بَلْ قَدْ يُؤَدِّي الزَّوَاجُ إِلَى صِلَةِ صَدِيقَاتِ الزَّوْجَةِ وَلَيْسَ أَقَارِبَهَا فَقَطْ، فَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، قَالَتْ: جَاءَتْ عَجُوزٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ عِنْدِي، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ أَنْتِ؟" قَالَتْ: أَنَا جَثَّامَةُ الْمُزَنِيَّةُ، فَقَالَ: "بَلْ أَنْتِ حَسَّانَةُ الْمُزَنِيَّةُ، كَيْفَ أَنْتُمْ؟ كَيْفَ حَالُكُمْ؟ كَيْفَ كُنْتُمْ بَعْدَنَا؟" قَالَتْ: بِخَيْرٍ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَلَمَّا خَرَجَتْ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُقْبِلُ عَلَى هَذِهِ الْعَجُوزِ هَذَا الْإِقْبَالَ؟ فَقَالَ: "إِنَّهَا كَانَتْ تَأْتِينَا زَمَنَ خَدِيجَةَ، وَإِنَّ حُسْنَ الْعَهْدِ مِنَ الْإِيمَانِ".
غَيْرَ أَنَّ الطَّلَاقَ -يَا عِبَادَ اللَّهِ- إِذَا حَصَلَ أَحَالَ هَذَا التَّرَابُطَ إِلَى انْفِكَاكٍ، وَالِاجْتِمَاعَ إِلَى فُرْقَةٍ، وَالْمَحَبَّةَ إِلَى كَرَاهِيَةٍ، وَالصَّفَاءَ إِلَى جَفَاءٍ، فَغَدَا الْمُجْتَمَعُ مُتَرَهِّلَ الْعَلَاقَاتِ، مُنْفَصِمَ الصِّلَاتِ، بَلْ كُلَّمَا ازْدَادَتْ حَوَادِثُ الطَّلَاقِ ازْدَادَ تَفَكُّكًا وَتَفَرُّقًا وَعَدَاوَاتٍ.
فَتَأَمَّلُوا -مَعْشَرَ الْأَخْيَارِ-: كَمْ زَوَاجٍ جَرَى بَيْنَ امْرَأَةٍ وَرَجُلٍ كَانَ سَبَبًا لِذَلِكَ الْخَيْرِ السَّابِقِ! وَلَكِنْ لِلْأَسَفِ مَتَى مَا حَصَلَ بَيْنَهُمَا الطَّلَاقُ تَبَدَّدَ ذَلِكَ الْخَيْرُ وَانْتَهَى؛ وَفِي سَبْيِ غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ خَيْرُ شَاهِدٍ وَأَعْظَمُ دَلِيلٍ: فَقَدْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مِنْ سُبِيَ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ سَيِّدِ الْقَوْمِ، وَقَدْ وَقَعَتْ فِي سَهْمِ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ فَكَاتَبَهَا، فَأَدَّى عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَزَوَّجَهَا، فَأَعْتَقَ الْمُسْلِمُونَ بِسَبَبِ هَذَا التَّزْوِيجِ مِائَةَ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ قَدْ أَسْلَمُوا، وَقَالُوا: أَصْهَارُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: وَمِنْ آثَارِ الطَّلَاقِ السَّيِّئَةِ عَلَى الْمُجْتَمَعِ: عَوَاقِبُهُ السَّيِّئَةُ عَلَى أَمْنِهِ وَسَلَامَتِهِ؛ إِذِ الْأَمْنُ مِنَ الْغَايَاتِ الْأَسَاسِيَّةِ لِحَيَاةِ الْمُجْتَمَعَاتِ، فَبِهِ تُسْتَجْلَبُ النِّعَمُ، وَتُسْتَدْفَعُ النِّقَمُ، وَتَحْصُلُ بِهِ السَّعَادَةُ الْمَعِيشِيَّةُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا)؛ وَلِهَذَا مَنَّ اللَّهُ -تَعَالَى- بِنِعْمَةِ الْأَمْنِ عَلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ: (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)[قُرَيْشٍ:4]، وَوُجُودُ أُسْرَةٍ حَرِيصَةٍ مُتَوَائِمَةٍ فِي أَيِّ مُجْتَمَعٍ، وَاسْتِمْرَارُ الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ فِيهَا سَبَبٌ لِخُرُوجِ جِيلٍ صَالِحٍ مِنْهَا يَأْمَنُ النَّاسُ بِهِ وَمِنْهُ.
وَفِي ظِلِّ الْمُجْتَمَعِ الَّذِي يَنْعَمُ الْأَزْوَاجُ فِيهِ بِالْوِفَاقِ وَالْمَحَبَّةِ يَعِيشُ أَفْرَادُهُ أَمَانًا مُجْتَمَعِيًّا بَعِيدًا عَنْ عُدْوَانِيَّةِ أَبْنَائِهِ عَلَى الْآخَرِينَ، وَالضَّرَرِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَفِي الْمُقَابِلِ أَيُّمَا مُجْتَمَعٍ يَعِيشُ أَزْوَاجُهُ حَالَةً مِنَ الْخِلَافِ وَالشِّقَاقِ ثُمَّ يَنْتَهِي بِهِمُ الْأَمْرُ إِلَى الْبُعْدِ وَالْفِرَاقِ فَسَيَعِيشُ أَفْرَادُهُ قَلَقًا مُجْتَمَعِيًّا بِسَبَبِ عُدْوَانِيَّةِ أَوْلَادِهِ.
وَلَوْ سَأَلْتُمْ فِي الْوَاقِعِ الْيَوْمَ -مَعْشَرَ الْفُضَلَاءِ- لَوَجَدْتُمْ مِمَّنِ امْتَهَنُوا مِهْنَةَ اللُّصُوصِيَّةِ وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى أَمْوَالِ الْآخَرِينَ مِنَ الشَّبَابِ وَالْفَتَيَاتِ كَانَ طَلَاقُ آبَائِهِمْ لِأُمَّهَاتِهِمْ هُوَ الطَّرِيقَ إِلَى تِلْكَ النِّهَايَةِ الْبَائِسَةِ حِينَ لَمْ يَجِدُوا الْمَالَ، فَبَحَثُوا عَنْهُ فِي سُبُلِ الْحَرَامِ، وَحِينَ ذَهَبَتْ عَنْهُمُ الْمُرَاقَبَةُ الْأُسَرِيَّةُ جَرَتْ بِهِمْ أَهْوَاؤُهُمْ كَمَا يَجْرِي الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ!
لِمِثْلِ هَذَا يَذُوبُ الْقَلْبُ مِنْ كَمَدٍ *** إِنْ كَانَ فِي الْقَلْبِ إِسْلَامٌ وَإِيمَانُ
بَلْ بَعْضُهُمْ صَارُوا مُنْضَوِينَ فِي عِصَابَاتٍ مُنَظَّمَةٍ تَسْطُو عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ، وَتَعْتَدِي عَلَى أَرْوَاحِهِمْ بِالْجَرْحِ أَوِ الْقَتْلِ.
وَمَتَى أَصْبَحَ النَّاسُ فِي أَيِّ مُجْتَمَعٍ غَيْرَ آمِنِينَ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ تَكَدَّرَتْ حَيَاتُهُمْ، وَتَنَغَّصَتْ مَعِيشَتُهُمْ، وَأَضْحَوْا فِي بَلَاءٍ عَظِيمٍ. قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)[الْبَقَرَةِ:155].
نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يَحْفَظُ مُجْتَمَعَاتِنَا الْإِسْلَامِيَّةَ مِنْ عَوَامِلِ التَّصَدُّعِ وَالْخَوْفِ، وَأَنْ يَرْبُطَ بَيْنَ قُلُوبِ أَهْلِهَا بِأَسْبَابِ الْوِئَامِ وَالْأَمْنِ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَلِكِ الْعَظِيمِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ الْأَمِينِ الْكَرِيمِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الْآثَارَ السَّيِّئَةَ النَّاتِجَةَ عَنِ الطَّلَاقِ عَلَى الْمُجْتَمَعِ لَا تَقْتَصِرُ فِي ضَرَرِهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا، بَلْ لَهَا آثَارٌ سَيِّئَةٌ أُخْرَى، تَتَعَلَّقُ بِعَفَافِ الْمُجْتَمَعِ وَطَهَارَتِهِ؛ وَحِينَ يَكُونُ الْمُجْتَمَعُ نَقِيًّا طَاهِرًا، عَفِيفًا شَرِيفًا، فَهُوَ مُجْتَمَعٌ آمِنٌ سَعِيدٌ، تَتَوَاتَرُ عَلَيْهِ النِّعَمُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، وَتَنْدَفِعُ عَنْهُ النِّقَمُ فِي كُلِّ حَالٍ، بِخِلَافِ الْمُجْتَمَعِ الَّذِي تَفْشُو فِيهِ الْفَوَاحِشُ، وَتَكْثُرُ فِيهِ الْجَرَائِمُ الْخُلُقِيَّةُ، فَسَيَعِيشُ قَلَقًا عَلَى أَعْرَاضِهِ وَعَفَافِهِ، وَخَوْفًا عَلَى حَقِّهِ وَأَمْلَاكِهِ، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: "أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ، خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا..."(رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ).
وَمِنْ أَسْبَابِ نَقَاءِ الْمُجْتَمَعِ وَطَهَارَتِهِ: الزَّوَاجُ الَّذِي يَحْفَظُ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الِانْسِيَاقِ نَحْوَ مَعَابِرِ الرَّذِيلَةِ وَأَوْدِيَتِهَا النَّتِنَةِ. فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
بَيْنَمَا حِينَ يَحْدُثُ الطَّلَاقُ مَاذَا يَحْدُثُ لِلْعِفَّةِ؟
إِنَّ الزَّوْجَ إِذَا طَلَّقَ وَلَمْ يَتَزَوَّجْ بَدَلًا مِنْ زَوْجَتِهِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ رِقَابَةٌ مِنْ إِيمَانٍ أَوْ خُلُقٍ؛ فَإِنَّهُ سَيَذْهَبُ إِلَى سُوقِ الْفَوَاحِشِ وَالرَّذِيلَةِ؛ لِيُلَبِّيَ نِدَاءَ فِطْرَتِهِ الْمَكْبُوتَةِ، وَالزَّوْجَةُ إِذَا لَمْ تَتَزَوَّجْ بَدَلَ زَوْجِهَا، وَلَمْ تَكُنْ مِنْ أَهْلِ الصِّيَانَةِ وَالتَّمَسُّكِ بِالدِّينِ فَإِنَّهَا سَتَصِيرُ إِلَى ذَلِكَ السُّوقِ نَفْسَهِ، وَبِهَذَا تَكْثُرُ الْفَاحِشَةُ فِي الْمُجْتَمَعِ، وَيَتَدَنَّسُ بِسَبَبِ هَذَا الِانْحِرَافِ.
وَأَمَّا الْأَبْنَاءُ وَالْبَنَاتُ فَالطَّامَّةُ أَعْظَمُ، وَالْخَطْبُ آلَمُ؛ فَكَمْ مِنَ ابْنٍ أَوْ بِنْتٍ بَعْدَ فِرَاقِ أَبَوَيْهِمَا ذَهَبُوا إِلَى أَيْدِي الْعَابِثِينَ، فَدَنَّسُوا طَهَارَتَهُمْ، وَجَرَحُوا عِفَّتَهُمْ، حَيْثُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ الطَّلَاقِ مَنْ يُرَاقِبُ مِنْ أُمٍّ أَوْ أَبٍ، وَرُبَّمَا كَانَتِ الْحَاجَةُ الْمَادِّيَّةُ وَالْإِغْرَاءَاتُ الْمَالِيَّةُ -بَعْدَ ذَهَابِ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ- هِيَ السَّبَبَ فِي وُقُوعِهِمْ فِي الرَّذِيلَةِ، وَحِينَئِذٍ يَتَلَوَّثُ الْمُجْتَمَعُ بِالْجَرِيمَةِ، وَرُبَّمَا تَظْهَرُ وَتَفْشُو فِيهِ.
فَيَا عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ الْخَطْبَ جَسِيمٌ، وَالْحَدِيثَ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ أَلِيمٌ، فَحَافِظُوا عَلَى سَلَامِ مُجْتَمَعِكُمْ وَأَمَانِهِ، وَصُونُوا طَهَارَتَهُ وَعَفَافَهُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى رَابِطَةِ الزَّوْجِيَّةِ؛ فَإِذَا قَدَّرَ اللَّهُ -تَعَالَى- بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ فِي أَنْفُسِهِمْ، وَلْتَزْدَدْ مُرَاقَبَتُهُمْ لِأَبْنَائِهِمْ وَبَنَاتِهِمْ أَكْثَرَ مِنْ ذِي قَبْلُ، وَلْيَحْرُسُوهُمْ مِنْ تَخَطُّفِ الشَّيَاطِينِ، وَأَيَادِي الْمُلْهِينَ الْعَابِثِينَ.
نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يَحْفَظَ عَلَى مُجْتَمَعِنَا سَلَامَتَهُ، وَأَنْ يَحْرُسَ عِفَّتَهُ وَطَهَارَتَهُ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ:56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى النِّعَمِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم