عناصر الخطبة
1/التحذير من الاسترسال في المعاصي 2/من آثار الذنوب والمعاصي في حياة الفرداقتباس
ومن آثارها: أنه ينسلخ من القلب استقباحها فتصير له عادة, فلا يستقبح من نفسه رؤية الناس له، ولا كلامهم فيه, وربما تلذذ بذلك حتى يفتخر أحدُهم بالمعصية، ويحدِّثُ بها من لم يعلم أنّه عملها، وهذا الضرب من الناس لا يعافون وتُسدُّ عليهم...
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونتوبُ إليه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالنا، من يهدِهِ اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليماً كثيراً.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإنَّ خيرَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
أيها المؤمنون: فإن الذنوب والمعاصي تلحق بأصحابها العواقب الوخيمة والآثار الخطيرة التي تفسد حياة الفرد والمجتمع، بل والحياة كلها، ولا بد للعاقل أن يتعرف على هذه الآثار ليتقيها ويفر منها، ويكفي أن حياة أهلها بين الحياة الضنكة والمستقبل التعيس في الآخرة؛ كما قال -تعالى-: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)[طه:124], أي: (معيشة ضيِّقة شاقة تعيسة)، قال بعض السلف: "إنّي لأعصي الله فأرى ذلك في خلق دابَّتي وامرأتي".
وحتى يحذر المسلم هذه الآثار والأخطار التي ستلحق بأصحاب الذنوب والمعاصي لا بد أن يعرفها؛ فمن ذلك:
ضياع العلم ونسيانه والتفريط فيه، ولما جلس الإمام الشافعي -رحمه الله- بين يدي الإمام مالك -رحمه الله- ورأى عليه مخايل النجابة والذكاء, قال له ناصحاً: "إني أرى الله قد ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بظلمة المعصية".
فالقلب إما أن يكون موضعاً للطاعة أو موضعاً للمعصية, ولا يزالا يتزاحمان حتى يخرج أحدهما الآخر؛ كما قال ابن القيّم -رحمه الله-:
حُبُّ الكتاب وحُبُّ ألحان الغنا *** في قلبِ عبدٍ ليس يجتمعانِ
ومن آثارها: الظلمة التي يجدها من يقترف الذنوب والمعاصي في قلبه؛ فيعيش بلا بصيرة؛ فتضعف همته وتذبل عزيمته ويعيش في حيرة من أمره حتى يوقعه الشيطان في وحل الضلالات والبدع والأمور المهلكة، قال عبد الله بن عباس: "إنَّ للحسنةِ ضياءً في الوجه, ونوراً في القلب, وسعةً في الرزق, وقوةً في البدن, ومحبةً في قلوب الخلق, وإنَّ للسيئةِ سواداً في الوجه, وظلمةً في القبر والقلب, ووهناً في البدن, ونقصاً في الرزق, وبغضةً في قلوبِ الخلق".
ومن أخطر آثار المعاصي على العبد: استثقال الطاعات ومحبة أهل المعاصي والمنكرات، إضافة إلى ما يجد في قلبه من الوحشة، ولهذا جعل الله الكافر ميتاً غير حي؛ فقال -سبحانه-: (أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء)[النحل:21].
وتأملوا في قول بعض الصالحين: "إنه لتمرّ بالقلب لحظات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي خير عظيم".
ومن آثارها: أنّ العبد لا يزال يرتكب الذنوب حتى تصغر في قلبه, وذلك علامة الهلاك, كما قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إنّ المؤمن يري ذنوبه كأنها في أصل جبل يخاف أن يقع عليه, وإنّ الفاجر يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه فقال به هكذا فطار".
ومن آثارها: أنه يذهب من قلب مرتكب المعاصي استقباحها وبغضها؛ كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: " كل أمتي معافى إلا المجاهرين, وإنَّ من الإجهار: أنْ يسترَ اللهُ على العبد، ثم يصبح يفضح نفسه, ويقول: يا فلان عملت يوم كذا وكذا فتهتك نفسه وقد بات يستره ربه"(البخاري ومسلم).
معاشر المسلمين: ومن آثار المعاصي: أنها تلحق أهلها في دائرة الغافلين, وقد جاء في الحديث عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قَالَ: "إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ, (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)" (الترمذي), قال الحسن: "هو الذنب على الذنب حتى يعمي القلب".
ومن آثارها: أنها تذهب الغيرة من القلب وتورث الاستهانة بها، ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أغير الأمة, والله -سبحانه- أشدّ غيرة منه؛ ففي الصحيح قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغْيَرُ منه, والله أغير منّي".
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ وَاللَّهِ مَا مِنْ أَحَدٍ أَغْيَرُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ" (متفق عليه).
ومن آثارها: انعدام الحياء الذي به حياة القلب، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستحِ فاصنع ما شِئت", والمعنى: (أنَّ من لم يستحِ، فإنه يصنع ما شاء من القبائح, إذ الحامل على تركها الحياء).
ومن آثار المعاصي: أنها تضعف تعظيم الله -سبحانه وتعالى- وتضعف توقيره في قلب صاحبها، ولو أن العاصي عرف قدر ربه ما فعل تلك السيئات، (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ)[الأنعام: 91].
ومنها: أن المعاصي تقود إلى ارتكاب أمثالها، قال بعض السلف: "إن من عقوبة السيئةِ السيئةَ بعدها, وإنّ من ثواب الحسنةِ الحسنةَ بعدها"، ولا شك أن العبدُ إذا عمل سيئة تبعتها أخرى فيتضاعف الوزر وتتزايد السيئات.
ومنها: هوان العبد على ربه وسقوطه من نظره, قال الحسن البصري -رحمه الله-: "هانوا عليه فعصوه, ولو عزّوا عليه لعصمهم", وإذا هان العبد على الله لم يكرمه أحد, قال -تعالى-: (وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ)[الحج: 18]؛ فمن أهانه الله؛ فهو المهين وإن عظمه الناس في الظاهر لحاجتهم إليه، أو خوفاً من شرّهم فهم في قلوبهم أحقرُ شيءٍ وأهونه.
ومنها: أن المعصية تورث المهانة والذل إذ أن العزة تنال بطاعة الله ورضوانه, قال -تعالى-: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا)[فاطر: 10]؛ أي: (فليطلبها بطاعة الله).
وكان من دعاء بعض السلف: "اللهم أعِزّني بطاعتك, ولا تذلني بمعصيتك".
قال الحسن البصري: "إنهم وان طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين؛ فإنّ ذُلَّ المعصية لا تفارق قلوبهم, أبى الله إلا أن يُذلَّ من عصاه".
وقال عبد الله بن المبارك -رحمه الله-:
رأيت الذنوب تميت القلوب *** وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب *** وخير لنفسك عصيانها
أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله لي ولكم، فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله مُعِزِّ من أطاعه واتقاه، ومُذِلِّ من خالف أمره وعصاه، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد، اصطفاه ربُّه واجتباه، وعلى آله وصحبه ومن والاه, وبعد:
عباد الله: وتتمة لما ذكرناه؛ فإن من عقوبات الذنوب والمعاصي وآثارها كذلك: حرمان الرزق, وفي الحديث: "إنّ العبد ليُحرم الرزق بالذنب يصيبه"، وكما أن تقوى الله وطاعته مجلبة للرزق، فترك التقوى بعمل المعصية مجلبة للفقر.
ومن آثارها: أن المعاصي توجب على صاحبها نسيان الله ولقائه، وتلهيه عن العمل ليوم الحساب والمعاد، قال الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ* وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[الحشر:18-19]، وفي هذه الآية الله أمر الله عباده المؤمنين بتقواه والاستعداد ليوم لقاه، وحذر من الغفلة ونسيان المصير.
عباد الله: هذه بعض آثار المعاصي المهلكة للفرد؛ فهل من مشمِّر تائب منيبٍ إلى الله -تعالى-؟ فالله الله -عباد الله- في تقوى الله وطاعته، والحذرَ الحذرَ من الغفلة، والتمادي في معصيته.
أيها المسلمون: فيا من تريدون العزة والعلو في الدنيا والآخرة؛ اعلموا أن ذلك يتحصل بمفارقة الذنوب والمعاصي والإقلاع عنها، والعودة إلى رب البريات ولزوم الطاعات والتزود من الخيرات؛ ففي ذلك الفوز والسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة؛ فاتقوا الله وأطيعوه وامتثلوا أمره ولا تعصوه.
وصلوا وسلموا على البشير النذير؛ فقد أمر بذلك العليم الخبير؛ فقال في كتابه العزيز: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم