عناصر الخطبة
1/حاجتنا إلى الإيمان والعمل الصالح 2/شروط قبول العمل الصالح وخطر تصحيح أديان الكفار 3/فضل العمل الصالح وبعض مميزاته 4/فضل المؤمن على الكافر وعدم التساوي بينهما 5/كتابة العمل الصالح مهما صغر 6/كل تعب يُصِيب العبد فِي عَمَل صَالِح فَلَهُ أجره وأجر تبعه7/استقبال رمضان واستغلاله بالأعمال الصالحة والحذر من لصوص رمضاناهداف الخطبة
اقتباس
عبادَ اللهِ: وَالْعَمَلُ لَا يَكُونُ صَالِحًا إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِشَرْعِ اللهِ -تعالى-، وَخَالِصًا لِوَجْهِهِ -سبحانه-، فَخَرَجَ عَنْ دَائِرَتِهِ كُلُّ عَمَلٍ لَمْ يَأْتِ بِهِ الشَّرْعُ، أو أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ وَجْهِ اللَّهِ –تَعَالَى-؛ فَقَدْ يُخْلِصُ المُتَعَبِّدُ فِي عِبَادَةٍ مُخْتَرَعَةٍ وَلَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَسيِّدُ الخَلْقِ قد قالَ: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ". وَقَدْ يَعْمَلُ المُسلِمُ عَمَلًا مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ لَكِنَّهُ غَيْرُ مُخْلِصٍ فِيهِ للَّهِ -تعالى- فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ كَذَلِكَ، قالَ اللهُ -تعالى-: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)[البينة:5]. وَمِنْ هُنَا -يا رعاكُمُ اللهُ-: تَظْهَرُ خُطُورَةُ مَنْ...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ للَّهِ الرَّزَّاقِ الْكَرِيمِ؛ اخْتَصَّ المُؤْمِنِينَ بِفَضْلِهِ فَوَفَّقَهُمْ وَهَدَاهُمْ إلى طَريقٍ مُستَقِيمٍ.
نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ امتَنَّ علينا بنِعْمَةِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَبيانِ الشَّرِيعَةِ وَالْأَحْكَامِ.
وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، نَبِيٌّ كريمٌ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ من الذُّنُوبِ والآثامِ، كَانَ أَكْثَرَ النَّاسِ تَقْوًى وَعُبُودِيَّةً لِلمَلِكِ العَلاَّمِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بإحسانٍ وإيمانٍ ما تعاقَبَ الزَّمانُ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ -عبادَ اللهِ- وَأَطِيعُوهُ، وَاحْمَدُوه عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَاشْكُرُوهُ، وَتَمَسَّكُوا بِدِينِكم واعلموا أنَّكم مُلاقُوهُ، فَاعْمَلُوا لِدَارِ إِقَامَتِكُمْ، وَلَا تَغْتَرُّوا بِدَارِ سَفَرِكُمْ: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ)[غافر: 39-41].
عبادَ اللهِ: حَاجَتُنا إِلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ أَشَدُّ مِنْ حَاجَتِنا إِلَى الْهَوَاءِ وَالمَاءِ وَالطَّعَامِ.
وَالْإِيمَانُ بِلَا عَمَلٍ صَالِحٍ ادِّعَاءٌ كاذِبٌ، لَا يَنْفَعُ صَاحِبَهُ، وَلَا يُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ أَلِيمٍ.
وكُلُّ عمَلٍ تُرِيدُ أنْ يكونَ مقبُولاً، فلَا بُدَّ أَنْ يَتَّصِفَ بِالصَّلَاحِ، وَإِلَّا فَإِنَّ الكُفَّارَ يَعْمَلُونَ وَلَا يَنْفَعُهُم ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ -تعالى- شَيْئًا؛ لِأَنَّهُم عَمِلوا عَمَلًا غَيْرَ صَالِحٍ، وَفِيهِمْ قَالَ اللهُ -تعالى-: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا)[الكهف: 103-105].
فَهُمْ يَعْمَلُونَ وَيَجْتَهِدُونَ، وَلَكِنَّ عَمَلَهُمْ هباءً مَنثُورا لِأَنَّهُ لَمْ يَتَّصِفْ بِالصَّلَاحِ.
وَمِنْ هُنَا نُدْرِكُ -يا رعاكُمُ اللهُ-: أَهَمِّيَّةَ الْعِلْمِ المُوْصِلِ إِلَى مَعْرِفَةِ كَوْنِ الْعَمَلِ صَالِحًا، لَا سِيَّمَا إِذَا أدركنا أَنَّ مَنْ يُوَفَّقُ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ هُمُ الْأَقَلُّ، وَأَنَّ الأكثَرُون يَعْمَلُونَ أَعْمَالًا تَفْتَقِدُ إلى شَرْطَ الصَّلَاحِ.
ألم يُقسِمُ اللهُ عَلَى خُسْرِانِ كُلِّ إِنْسَانٍ، واستثنى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ؟
عبادَ اللهِ: وَالْعَمَلُ لَا يَكُونُ صَالِحًا إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِشَرْعِ اللهِ -تعالى-، وَخَالِصًا لِوَجْهِهِ -سبحانه-، فَخَرَجَ عَنْ دَائِرَتِهِ كُلُّ عَمَلٍ لَمْ يَأْتِ بِهِ الشَّرْعُ، أو أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ وَجْهِ اللَّهِ –تَعَالَى-؛ فَقَدْ يُخْلِصُ المُتَعَبِّدُ فِي عِبَادَةٍ مُخْتَرَعَةٍ وَلَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَسيِّدُ الخَلْقِ قد قالَ: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ".
وَقَدْ يَعْمَلُ المُسلِمُ عَمَلًا مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ لَكِنَّهُ غَيْرُ مُخْلِصٍ فِيهِ للَّهِ -تعالى- فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ كَذَلِكَ، قالَ اللهُ -تعالى-: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)[البينة:5].
وَمِنْ هُنَا -يا رعاكُمُ اللهُ-: تَظْهَرُ خُطُورَةُ مَنْ يُصَحِّحُونَ أَدْيَانَ الْكُفَّارِ، أَوْ يَحْتَرِمُونَ عِبَادَاتِهِمْ، أَوْ يَعتَقِدُونَ احْتِمَالَ صِحَّتِهَا، تَحْتَ شِعَارَاتِ حِوَارَاتِ الْأَدْيَانِ وَقَبُولِ الْآخَرِ، فَاللهُ -تعالى- يَقُولُ: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا)[الفرقان:23].
عبادَ اللهِ: الْعَمَلُ الصَّالِحُ، هُوَ الَّذِي يُنجي الْعَبْدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا سَبِيلَ لِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ إِلَّا بالكتَابِ والسُّنَّةِ، وَلِهَذَا أَمَرَ اللهُ -تعالى- الرُّسُلَ -عليهم السلام- بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَمْرُ الرُّسُلِ أَمْرٌ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ؛ لِأَنَّهُمْ سَادَةُ الْبَشَرِ وَقُدْوَتُهُمْ، قالَ اللهُ -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون:51].
وَأَمَرَ نَبِيَّهُ دَاوُدَ وَآلِهِ، فَقَالَ: (وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [سبأ:11].
وَأَمَرَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا أَنْ يُخْبِرَ أُمَّتَهُ أَنَّ مَنْ أَرَادَ عُلُوَّ المَنْزِلَةِ عِنْدَ اللهِ وَعَظِيمَ الْجَزَاءِ، وَرِفْعَةَ الدَّرَجَاتِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا: (فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)[الكهف:110].
فَمَعْرِفَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ سَبَبٌ لِلِازْدِيَادِ مِنْهُ، وَمَعْرِفَةُ مَا يُبْطِلُهُ وَيُنْقِصُهُ سَبَبٌ لِلْحِفَاظِ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَجْتَهِدُ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَلَكِنَّ حَسَنَاتِهِ قد تَذْهَبُ إِلَى غَيْرِهِ، استَمِع إلى الحديثِ الصَّحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَنِ الْمُفْلِسُ؟" قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ لاَ دِرْهَمَ لَهُ، وَلاَ مَتَاعَ لَهُ، فَقَالَ: "الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاَتِهِ وَصِيَامِهِ وَزَكَاتِهِ، فَيَأْتِي وَقَدْ شَتَمَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا، فَيَقْعُدُ، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَ مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ، فَطُرِحَ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ"[رواه أحمدُ وابنُ حبانَ في صحيحِهِ].
يا مؤمنونَ: نحنُ مُقبلِونَ على مَوسمِ حصدِ الحَسَنَاتِ، وَتَتَنَوَّعِ الصَّالِحاتُ، فَالْعَاقِلُ الْفَطِنُ مَنْ يَزْدَادُ مِنَها وَيُحَافِظُ عَلَيْهَا مِنَ النَّقْضِ وَالنَّقْصِ.
عبادَ اللهِ: ومن مُمَيِّزاتِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ: أنَّهُ يَشمَلُ لأعمالِ القُلُوبِ كُلِّها؛ كَالمَحَبَّةِ وَالرَّجَاءِ، وَالْخَوْفِ وَالْخَشْيَةِ.
وأعمالِ اللِّسَانِ كُلِّها؛ كَأَنْوَاعِ الذِّكْرِ والشُّكْرِ، وَأنواعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ.
ويَشمَلُ كَذَلِكَ أعمالَ الْجَوَارِحِ؛ كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ، وَالْجِهَادِ والصَّومِ، والسَّعيِ لأنواعِ الصِّلَةِ والبِرِّ.
اللهُ أكبرُ -عبادَ اللهِ-: وَقَصْدُ تَرْكِ المَعْصِيَةِ خوفاً من اللهِ، ومَحَبَّةً في مَرضاتِهِ، عَمَلٌ صَالِحٌ يُثَابُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ، ففي البُخَاريِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ -عز وجل- أنَّهُ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِئَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً".
وصَدَقَ المولى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [النحل:97].
بَارَكَ اللهُ لنا فِي الْقُرْآنِ العظِيمِ، وبِسُنَّةِ سَيِّدِ المُرسلَينَ، ونَفَعَنَا بِمَا فِيهمَا مِن الآياتِ والذِّكر الحكِيمِ، وأستغفرُ اللهَ لي ولَكُم ولِسائِرِ المُسلِمينَ مِن كُلِّ ذَنْبٍّ وَتَقصِيرٍ فاستَغفِروهُ؛ إنَّهُ هو الغَفُورُ الرَّحيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، نشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ أهلُ البِرِّ والتَّقوى، ونَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ سارَ على الدَّربِ بالتَّقوى.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ -عبادَ اللهِ- وَأَطِيعُوهُ، وَأَكْثِرُوا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ فَإِنَّهَا رَاحَتُكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَذُخْرُكُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَطَرِيقُكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ: (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)البقرة:82].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: لَا يَسْتَوِي المُسْلِمُ وَالْكَافِرُ، وَلَا الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ، لَا يَسْتَوِي عَمَلُ الصَّالِحَاتِ وَاجْتِرَاحُ السَّيِّئَاتِ.
نَعَمْ، لَا يَسْتَوُونَ عندَ اللهِ ولا عندَ عبادِهِ الكرام! فَكَمْ مِنْ أَخَوَيْنِ جَمَعَهُمَا رَحِمٌ واحِدٌ، أَوْ صَدِيقَيْنِ طالَت بينَهُما عِشْرَةٌ وَمَوَدَّةٌ أَوْ زَمِيلَينِ جَمَعَهُما مَكانُ عَمَلٍ واحِدً، أَحَدُهُمَا فِي أَعْلَى عِلِّيِّينَ، وَالثَّانِي فِي أَسْفَلِ سَافِلِينَ؟ فما الذي فرَّقَ بينَ الفَرِيقَينِ؟ وباعَدَ بينَهما بُعدَ المَشرِقَينِ؟
إنَّهُ الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ، ألم يَقُلِ الرَّبُ وهو أصدقُ القائِلينَ: (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)[ص:28].
(وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَّا تَتَذَكَّرُونَ)[غافر:58].
يا مؤمنونَ: وَكُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ مَكْتُوبٌ مُسَطَّرٌ مَهْمَا صَغُرَ، حَتَّى الصَّدَقَةُ بِشِقِّ التَّمْرَةِ، وَالصَّبْرُ عَلَى وَخْزِ الشَّوْكَةِ.
بل والتَّبَسُّمُ الذي لَا يُكَلِّفُ صاحِبَهُ شَيْئًا يَكُونُ لهُ بهِ صَدَقَةٌ.
وَكُلُّ تَعَبٍ يُصِيبُ الْعَبْدَ فِي عَمَلٍ صَالِحٍ فَلَهُ أَجْرُهُ وأَجْرُ تَعَبِهِ، يَسِيرًا كَانَ أو شاقَّاً عَظِيماً، قَالَ اللَّهُ -تعالى-: (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[التوبة 120-121].
قالَ الشَّيخُ السَّعديُّ -رحمه الله-: "ما مفادُهُ في الآياتِ أَشَدُّ تَرغِيبٍ وَتَشوِيق لِعمَلِ الصَّالِحاتِ، واحتسِاَبِ مَا يُصِيبُهم عليهِ، لِرِفعَةِ الدَّرَجَاتِ، فإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الذين أَحسَنُوا في مُبَادَراتِهم إلى أَمْرِ اللهِ، وَقِيامِهم بِما عَليهم مِن حَقِّه وَحَقِّ خَلقِهِ، إذا أَخلَصُوا فيها للِّه، وَنَصَحوا فيها".
وَنَحْنُ الْآنَ -يا كِرمُ- عَلَى أَبْوَابِ رَمَضَانَ، وَهُوَ شَهْرٌ عَظِيمٌ وَمَوْسِمٌ لِلْأَعْمَالِ كَبِيرٌ؛ وَلِلْقُلُوبِ إِدْبَارٌ وَإِقْبَالٌ، فَلنسْتَثْمَر إِقْبَالَهَا، ولنُضَاعِف من أَعْمَالِها، ولنُنَوِّع فيها لِيبقى نَشَاطُها؛ فمن صيامٍ إلى صلاةٍ وتِلاواتٍ، ومن صَدَقاتٍ إلى إطعامٍ، ومن بِرٍّ إلى تَلَمُّسٍ لِحاجاتِ الفُقُراءِ والمُعوِزينَ والأرامِلِ والمُعلَّقاتٍ والمُطلَّقاتٍ، فَللجنَّةِ -بحمدِ اللهِ- ثمانِيةُ أبوابٍ! فَلَعلَّكَ تَدخُلُ من جميعِ الأبوابِ.
في الصَّحيحينِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِي فِي الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ؛ فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّلاَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّلاَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الصَّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ دُعِيَ مِنْ بَابِ الرَّيَّانِ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ يُدْعَى مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ مِنْ ضَرُورَةٍ فَهَلْ يُدْعَى أَحَدٌ مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ كُلِّهَا؟ قَالَ: "نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ".
فاللهم أعنَّا جميعا على ذِكركَ وشُكركَ وحُسنَ عِبادَتِكَ.
وَحَذَارِ -عِبَادَ اللَّهِ- مِمَّا يُنْقِصُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ أَوْ يَنْقُضُهُ؛ فَلِرَمَضانَ سُرَّاقٌ يَتَرَبَّصُونَ بالصَّائِمينَ سُوءَ الضَّلالِ! مِنْ مَجَالِسِ لهْوٍ وَبَاطِلٍ، وَمُتَابَعَاتٍ الشَّاشَاتِ؛ وَهَوسٍ خَلْفَ مُبارياتٍ، حَرِيٌّ أَنْ تأْكُلَ أَعْمَالَكُم الصَّالِحَةَ، وَيَذْهَبَ أَجْرُهَا، فَمَنْ ضَيَّعَ عَلَى نَفْسِهِ رَمَضَانَ فَقَدْ أَضَاعَ خَيْرًا بَاقِيًا، وَاسْتَبْدَلَ بِهِ لَهْوًا فَانِيًا، وَذَلِكَ الخُسْرَانُ المُبِينُ.
ومَنْ بَقي عليه أيامٌ من رمضانَ فليُبادر فلم يَبْقَ إلا أقلَّ القليلِ.
فاللَّهُمَّ سَلِّمْنَا إِلَى رَمَضَانَ، وَسَلِّمْهُ لَنَا، وَتَسَلَّمْهُ مِنَّا مُتَقَبَّلًا.
ثمَّ صلُّوا وسلُّموا -عبادَ اللهِ- على الرَّحمةِ المُهداةِ محمَّدٍ فقد أَمَرَكُم ربُّكم، فقالَ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].
اللهمَ صَلِّ وَسَلِّم وبَارك على محمدٍ وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسانٍ وإيمانٍ إلى يومِ الدينِ.
اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبَنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ.
اللهمَّ إنَّا نَسألُك إيِمانا صَادِقا، وعَمَلا صَالِحَا مُتقَبَّلا.
اللهمَّ ثَبِّتنا بِالقولِ الثَّابت في الحياةِ الدُّنيا وفي الآخرةِ.
واغفر لنا ولِوالدِينا ولجميع المسلمينَ.
اللهم آمنَّا في أوطانِنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واحقن دماء المُسلمينَ، وألف بينَ قلوبهم واهدهم سبل السلام.
(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[العنكبوت:45].
التعليقات