يا لها من خاتمة!

مشعل العتيبي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ الموت يأتي بغتة 2/ وصف خروج الروح 3/ كفى بالموت واعظا 4/ قصص لحسن الخاتمة 5/ قصص لسوء الخاتمة
اهداف الخطبة

اقتباس

رجل أعرفه اتّصلتُ به قبل أيام فذكر لي أن موعد تقاعده من عمله قد اقترب، وقد كان يردد الحمد لله سأتفرغ لعائلتي، وسأعمل كذا وكذا، فبدأ يحدثني عن تخطيطه لمستقبله ووضعه الجديد، حتى جاء ذلك اليوم، يوم تقاعده، ففرحَتْ زوجته وبنياته حيث سيكون معهن يلازمهن ولا يفارقهن؛ بل سيتفرغ لمطالبهن وحاجاتهن. وها هو أول صباح يقبل عليه وإذا بابنته ..

 

 

 

 

 

الحمد لله بارئ البريات وعالم الخفيات، المطلع على الضمائر والنيات، أحمده -سبحانه- وأشكره، وسع كل شيء رحمةً وعلماً، وقهر كل مخلوق عزةً وحُكماً: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) [طه:110]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً خالصة مخلَصة، أرجو بها الفوز بالجنات؛ وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله المؤيد بالمعجزات والبراهين الواضحات، صلَّى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله السادات، وأصحابه ذوي الفضل والمكرمات، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما دامت الأرض والسماوات، وسلم كثير التسليمات.

أما بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فاتقوا الله -رحمكم الله-، اتقوه حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واحذروا المعاصي فإن أجسادنا وأقدامنا على النار لا تقوى، واعلموا أن ملك الموت قد تخطّاكم إلى غيركم وسيتخطّى غيركم إليكم فخذوا حذركم! الكّيس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني.

رجل أعرفه اتّصلتُ به قبل أيام فذكر لي أن موعد تقاعده من عمله قد اقترب، وقد كان يردد الحمد لله سأتفرغ لعائلتي، وسأعمل كذا وكذا، فبدأ يحدثني عن تخطيطه لمستقبله ووضعه الجديد، حتى جاء ذلك اليوم، يوم تقاعده، ففرحَتْ زوجته وبنياته حيث سيكون معهن يلازمهن ولا يفارقهن؛ بل سيتفرغ لمطالبهن وحاجاتهن.

وها هو أول صباح يقبل عليه، وإذا بابنته فرحة مسرورة تردد: يا أبي اليوم أنت الذي ستأخذني إلى المدرسة، لن أذهب مع الحافلة. فاحتضنَها وهو يقول: سآخذك أنت وأختك إلى المدرسة، هيا يا ابنتي. فذهب بهن وأنزلهن، فقال لها -وهى تقبل رأسه- انتبهي على أخيَّتك وسأنتظركن عند الخروج، فقالت: حفظك الله لنا يا والدي.

فعاد الأب إلى بيته، عاد إلى زوجته، عاد وهو لا يدرى ماذا يخبئ له القدر، وإذا بزوجته قد أعدت الإفطار، جلس يفطر ويتحدث معها عن مستقبل البيت والبنات، وفى هذه اللحظات والباب مفتوح إذا بزائر غير مرغوب به يدخل من غير استئذان، يدخل فيتنقل هنا وهناك حتى يصل إلى صاحب الدار الزوج فيقف عند رأسه وهو ينهض يريد أن يغسل يديه بعد إفطاره.

نهض وهو لا يعلم أن أجله قد دنا، وما هي إلا لحظات وإذا به يسقط على الأرض حتى تغير لونه، وغارت عيناه، مال عنقه ولسانه، وإذا بزوجته تنهض مفزوعة تستنجد بالجيران، تتصل بالإسعاف، تقف عند رأسه، تهون عليه، تعطيه من الماء وهو يئن ويشتكى، فيقلب بصره فيمن حوله، وجيرانه ينظرون ما يقاسيه من كرب وشده، ولكنهم عن إنقاذه عاجزون، وعلى منعه لا يقدرون، (فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـاكِن لاَّتُبْصِرُونَ) [الواقعة:85].

وإذا ببصره يرتفع إلى السماء وهو يصارع الموت، يتذكر زوجته وبُنيَّاته وما خلف في هذه الدنيا, يتذكرهن وهن في المدرسة، فمَن سيأتيهن عند خروجهن؟ مَن يعولهن من بعده؟ مَن يرحمُ ضعفهن؟ مَن يجبر كسرهن بعد الله؟ فتستولي عليه الأشجان والأحزان, فيُحمل على الإسعاف، ولكن هيهات!.

لِكُلِّ شَيْءٍ إِذَا مَا تَمَّ نُقْصَانُ *** فَلا يُغَرّ بِطيبِ العيشِ إنسانُ
هِي الأمورُ كَما شاهدتُّها دُوَلٌ *** مَنْ سَرَّهُ زَمَنٌ ساءَتْهُ أَزْمَانُ

يا لها من لحظات وقد كان يعد لمستقبله، ولا يدرى متى لحظته وساعته! يا لها من لحظة عصيبة حين اقتلعت السعادة أطنابها من رحاب ذلك البيت المسلم المبارك! يا لها من لحظة مؤسفة وبُنيَّاته ينتظرن عند بوابة المدرسة ولا يعلمن أن الموت قد أخذ والدهنَّ! هذا هو الموت لا يعترف بالأوقات، ولا ينتظر الأحوال، مات فلان بن فلان! تذكر أيُّها الغافل اللاهي! تذكَّر! (وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ) [ق:19]، تذكر قبل أن يُقال لأهلك: أحسَن اللهُ العزاءَ! وجبرَ اللهُ المُصاب! قبل أن يزورك الزائر الأخير.

لحظات لم يسلم منها رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- وقد كان بينَ يديهِ ركوةٌفيها ماء، فجعل يُدخِلُ يدهُ المباركةِ فيها، ويمسحُ بها وجههُ ويقول: "لا إله إلا الله، إنَّ للموتِ لسكَرات"، ثُمَّ نصب يدهُ وهو يردد: "إلى الرفيقِ الأعلى"،حتى قُبض ومالت يده.

عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى جنازة، فجلس -عليه الصلاة والسلام- جلس على القبر وجلسنا حوله وكأن على رؤوسنا الطير، فقال: "تعوذوا بالله من عذاب القبر". قلنا: نعوذ بالله من عذاب القبر. نعوذ بالله من عذاب القبر، نعوذ بالله من عذاب القبر. ثم قال بعد ما ذكر العبد المؤمن وخروج روحه مطمئنة راضية مرضية: "وإنَّ العبدَ الكافر أو الفاجر إذا كان في انقطاعٍ من الآخرة وإقبالٍ من الدنيا نزلَ إليه من السماءِ ملائكةٌ غلاظ شداد، معهم المسوح؛ فيجلسون منهُ مدَّ البصر، ثُمَّ يجئُ ملَكُ الموت حتى يجلسَ عند رأسه، فيقولُ: أيَّتها النفسُ الخبيثةِ، اخرجي إلى سخطٍ من الله وغضب".

قال: "فتتفرقُ في جسده فينتزعُها كما يُنتزعُ السفودُ من الصوفِ المبلول؛ فيلعنه كل ملك بين السماء والأرض، وتغلق دونه أبواب السماء فيأخذُها؛ حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرجُ منها كأنتنِ ريحِ جيفةٍ وُجدت على الأرض؛ فيصعدون، فلا يمرون على ملأٍ من الملائكة إلاَّ قالوا: ما هذه الروحُ الخبيثة؟ فيقولون: فلانُ بن فلان، بأقبحِ أسمائهِ التي كان يُسمى بها في الدنيا؛ حتى ينتهي بها إلى السماءِ الدنيا؛ فيستفتحُ له فلا يُفتحُ له، فيقول الله -عز وجل-: اكتبوا كتابه في سِجِّين في الأرض السفلى".

ثم تطرح روحه طرحًا، "فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: مَن ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري! فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري! فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول هاه هاه لا أدري! فينادي مُنادٍ من السماء: أنْ كذَب، فافرشوا له من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار، فيأتيه من حَرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، نتن الريح، فيقول: أَبْشِرْ بالذي يسوؤك, هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول: مَن أنت؟ فوجهُك الوجه القبيح يجئ بالشر. فيقول: أنا عملك الخبيث, فوالله ما علمتك إلا كنت بطيئا عن طاعة الله, سريعا إلى معصية الله.

ثم يقيض له أعمى أصم أبكم فى يده مرزبة لو ضرب بها جبل لكان ترابا،فيضربه ضربة حتى يصير بها ترابا، ثم يعيده الله كما كان فيضربه ضربة أخرى فيصيح صيحة يسمعه كل شيء إلا الثقلين، ثم يفتح له بابا من النار،فيصرخ وينادى: رب لا تقم الساعة! رب لا تقم الساعة! (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّى أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون:99-100]".

إنها لحظات الحسرةُ والندامة! إنَّها الخاتمةُ يا عباد الله! الخاتمة التي تسابقت دموعُ العارفين خوفاً منها، الخاتمة، خاتمتي وخاتمتك، فما أهول تلك اللحظات! عشرات الجنائز نصلي عليها في اليوم والليلة، وعشرات الموتى نشيعهم إلى ظلمات القبور، بل إلى ضيق اللحود، وأماكن الدود، ولا نعتبر ولا نتذكر.

ألم نعتبر بكثرة الموتى؟! ألم نعتبر وقد ازدادت الوفيات من حوادث السيارات؟! ومن أمراض انتهكت الشباب قبل الكبار؟!ومن موتى الفجأة والسكتات؟! بقول المؤذن نصلي على قرابة ست جنائز في كل صلاة، وعشرين جنازة في صلاة الجمعة، بل فى الشهر يصل العدد إلى أربعمائة جنازة، وهذا في جامع واحد فقط! أربعمائة جنازة! ولك أن تتخيل العدد فى الجوامع الباقية فى الرياض وغيرها؟ الموتى بالآلاف، بالآلاف قبورنا تُبنى ونحن ما تبنا! قبرك يناديك، قبرك ينتظرك.

يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ما رأيت منظراً قط إلا والقبر أفظع منه" حديث حسن؛ "واللهِ، لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً، ولبكيتم كثيراً". يا مَن تحمل الجنازة اليوم! تذكَّر عندما تُحمل جنازتك، تذكر عندما تؤخذ إلى خشبة الأموات يضعونك على المغسلة بعدما كنت تخلع ثيابك لوحدك، جاءك من يخلع لك ثيابك ، وكل له خاتمه، فشتَّانَ شتان شتان بين خاتمة وخاتمة!.

شاب شاب تعلق قلبهُ بالأذان، وتلذذ وهو يُنادي عباد الرحمن: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح. رافعاً بها صوتهُ، يمُدُّها، ويُرسلُها إلى القاصي والداني، وبعد أيامٍ معدودة، جاءَهُ الابتلاءُ من الرحمن، فأصيب بفقد بصره، وصار يحتاجُ إلى رعاية، والى أحدٍ يقومُ بشُؤونه، ويكفلُ له متطلباته، فانتقل ليسكن عند عمه في بيته؛ فأصبح بعيداً عن الآذان، وبُيوت الرحمن.

يدخل عليه عمه ويجده حزينا، فقد اشتاق إلى مسجده وأذانه فلم يصبر ولم يتحمل، بدأ يشتكى لعمه ويلح عليه: أريد الأذان، أريد العودة إلى مسجدي. فقال له: كيف وأنت لا ترى الطريق؟ فقال: تذهبون بي قبلَ صلاة الفجر إلى مسجدي، ثُمَّ بعد شروق الشمس تأتى إليّ؛ وكذلك صلاة الظُهر، فتتركوني للأذان والإقامة والصلاة؛ فأمكث في المسجد حتى صلاة العشاء فأعود إلى البيت. فوافقَ العمُّ على رغم صعوبة الطلب.

تمر الأيام، وبعد زمنٍ والشابُ خارج من المسجد ينتظر عمه أن يأتيه بعد أن انتهت الصلاة، فوقف على ناصية الشارعوهو لا يرى وقد تأخر عليه عمه في هذه المرة، أراد أن يقطع الشارع فإذا بسيارة تخرج من أحد التقاطعات مسرعة فتصطدم به، فاجتمع الناس عليه فإذا هو يلفظ أنفاسه الأخيرة، وإذا بروحهِ تخرج ولسانه يلهج ويُردد الأذان: أشهدُ أن لا إله إلا الله، حيَّ على الصلاة! فمات على الأذان.

مات على ما تعود لسانه، فانظر في حالي وحالك، وما اعتاد عليه لساني ولسانك، فتأمَّلْ يا صاحب الغيبة والنميمة! تأمل يا صاحب الأغاني والألحان! فوالله إن بابك سيطرق، أجلك قادم، فاعمل لخاتمتك لتكون كهذا المؤذن، اعمل لخاتمتك لتكون حسنة، وإلا فستكون من الذين قبضت أرواحهم وهم على أسوأ الأحوال.

فَشَتَّانَ شتان شتان بين خاتمتين! بين ذلك المؤذن ومَن هم على هديه وبين هذا الذي حدثني عنه أحد رجال الأمن ويقول: دخلنا على رجل في شقته وإذا برائحة من خارج الشقة، رائحة نتنه عفنة، دخلنا فرأينا ذلك الرجل الملقى على الأرض وبجانبه إِبَر المخدِّرات وقد مات قبل أيام ولم يعلم به أحد، ولم يصلِّ عليه أحد.

يقول: جسمه قد غطاه النمل والدود، وقد تعفنت رائحته من خارج شقته، فلا إله إلا الله! أي حياة قضاها؟ وأي ميتة ماتها؟ فماذا أعدَدْتَ لموتتك يا عبد الله! فكُلٌّ سيموت على ما كان عليه، كل سيموت على ما اعتاد عليه.

يحدثني أحد الإخوة عن فتاة أحضروها إلى مغسلة الأموات، يقول: كنت أنظر إلى أبيها وأستغرب عدم تأثره وحزنه، وكأنْ لم يمت له أحد، فاستغربت وقلت له: يا فلان، هذه ابنتك؟ قال نعم. فقلت له: لِم لا أرى على وجهك آثار التأثر ولا علامات الحزن؟ فقال مبتسما: الحمد لله على كل حال، إذا كان هناك من بكاء وحزن فعلينا نحن وبماذا سنقابل الله، أما ابنتي هذه فأبشرك أنها ماتت وهي صائمة، ولم يبق على حفظها للقران إلا سورة البقرة، فكيف تريدني أن أحزن؟! كيف تريدني أن أحزن وأتألم وهذا هو حالها؟! فيا لها من خاتمة!.

اسمع واسمعي يا من هجرتم القرآن! اسمع واسمعي يا مَن ضيعتم الأوقات، وأسرفتم في الشهوات، حتى أتاكم هادم اللذات! اسمعوا يا رجال: فتاة في ريعان الشباب وبعض الرجال تمر عليه الشهور بل السنوات لم يفكر لحظة أن يحفظ شيئا من القرآن، فيا حسرتاه! كيف ستكون أحوالنا؟ كيف سيكون مآلنا؟ فشتَّانَ شتان بين من يموت على القرآن ومن يموت على الأغاني والألحان!.

تأمل وتأملي أُخَيَّتَاه، تأملوا في خواتيم الذين لا يزالون يصرون على الغناء والقنوات، حتى ماتوا على ذلك، ماتوا على ذلك، واللهِ! يحدثنا أحد مغسلي الأموات يقول: أحضَروا إلينا شابا في مقتبل العمر، تبدو على وجهه ظلمة المعاصي، وبعد أن أتممت تغسيله لاحظت خروج شيء غريب يخرج من الأذن، إنه ليس دماً، ولكنه يشبه الصديد، وبكمية هائلة.

يقول: والله لم أر ذلك المنظر في حياتي! توقعت أن مخه يخرج. ما به؟ انتظرت خمس دقائق، عشر، ربع ساعة ولم يتوقف؛ فخفت كثيراً، لقد امتلأت المغسلة صديداً، فيا سبحان الله! مِن أين يأتي كل هذا؟ فإن الدماغ لو أخرج ما بداخله لما استغرق ذلك عشر دقائق، حتى علمت أنها قدرة العلي القدير.

وعندما يئسنا من إيقاف هذا الصديد كفَّنَّاه، بل واللهِ حتى عندما وضعناه في القبر لا يزال الصديد يخرج. يقول: بعدها لمأنم تلك الليلة، وبدأت أسأل عن هذا الفتى الغريب، عن الذي أوصله إلى هذه الحالة؟ فأجاب مقربوه أنه كان يسمع الغناء ليل نهار، صباح مساء، وكان الصالحون يهدون له بعض أشرطة القرآن لكنه يسجل عليها الغناء، نعوذ بالله من ذلك!.

وهكذا يموت المرء على ما كان عليه، إنها رسالة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، شتان بين شاب حياته في الشهوات وشاب حياته وقرة عينه في الصلوات! شاب منغمس في الغناء والألحان، وشاب لذته في الذكر والقرآن! شاب يقضى أوقاته في مقاهي الانترنت في النظر إلى الممنوعات وشاب يراقب الله في الخلوات! شاب جلساته طرب ولهو وبهتان وشاب جلساته دروس ومواعظ وإيمان! شابقدوته لاعب وفنان وشاب قدوته أبى بكر وعمر وعثمان! شاب همه أن لا تفوته المباريات والأفلام وشاب همه أن لا تفوته تكبيرة الإحرام! شاب في تسوُّقه يوزع الأرقام والمعاكسات وشاب في تسوقه يوزع الأشرطة النافعة و المطويات! شاب وقته تفحيط وتدخين وإدمان وشاب وقته علم وتربية ودعوة إلى الرحمن!.

توبوا يا شباب قبل أن يغلق الباب، توبوا يا شباب قبل موعد الحساب، لا إله إلا الله، واللهِ! وأقسم بالله! كم نسمع وتسمعون شبابنا أصبحوا يموتون على معصية الله، شبابنا أصبحوا يموتون على ترك الصلاة، شبابنا أصبحوا يموتون على سخط الله، أصبحت خواتيمهم أليمه، ونهاياتهم سيئة؛ واللهِ مَن كان يتقرب إلى الله فلن يخيبه الله!.

امرأة عجوز أعرفها، فقد كانت من أهل الصلاح و الطاعة، في رمضان الماضي وفى أول ليلة من ليالي القيام وهي في المسجد تصلي انتهت الصلاة وطلبت من ولدها أن ينتظر قليلا فيالمسجد تريد أن تمكث قليلا لتنهي ختمة القرآن، جلست ساعة بعد الصلاة حتى بدأ ولدها يخاف عليها فأرسل أخاه الصغير، ذهب إليها في مصلى النساء، فماذا وجد؟ وجدها ميتة في مكانها والمصحف بين يديها! هنيئا لمن مصحفه في قلبه، لا إله إلا الله! اختار الله لها مكان موتتها، فيا له من مكان طاهر! اختار الله لها وقت موتتها، فيا له من وقت عظيم! ينزل فيه الرب وينادى التائبين وينادى المقبلين، وكلٌّ له خاتمة، فانظر على ماذا ستكون خاتمتك.

تَزَوَّدْ مِن الدُّنْيَا؛ فَإنَّكَ لَا تَدْرِي *** إِذا جَنَّ ليلٌ هَلْ تعيشُ إلى الفجْرِ؟
فَكَمْ مِن عَروسٍ زيَّنُوهالِزوجِهَا *** وقَدْ أُخِذَتْ أرواحهم ليلةَ القدْرِ
وَكَمْ مِن صِغَارٍ يُرتجَى طولُ عُمْرِهِم *** وقَدْ أُدخِلَتْ أرواحُهُم ظُلْمةَ القبرِ
وكَم مِن سليمٍ مات من غيرِ عِلَّةٍ *** وكَم مِن سَقِيمٍ عاشَ حيناً مِن الدَّهْرِ
وَكَمْ مِنْ فَتَىً يُمسِي ويُصْبِحُ لاهِيَاً *** وقد نُسِجَتْأكْفَانُهُ وهْوَ لا يَدْرِي
وكمْ ساكنٍ عند الصباحِ بقصرهِ *** وعند المـَسَا قد كان من ساكِني القبرِ
فداوِمْعَلَى تَقْوَىالإلهِفإنَّها *** أَمَانٌ مِن الأهْوالِ في مَوْقِفِ الحَشْرِ

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الرحمن الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله على آلائه ونعمه، ونصلى ونسلم على أشرف خلقه.

أما بعد: انظر فى حالك يا عبد الله، وفى خلواتك، وفى أوقاتك، ثم فكِّر وتفكَّر: على ماذا ستموت؟ على معيشة ضنكا بين غناء ومحرمات، وسهر وقنوات؟ أم على حياة طيبة بين قرآن وذكر وصلوات؟ ثم إلى ربك يومئذ المساق، إلى جنة عرضها كعرض السماوات، أم إلى نار تلظى لا يصلاها إلا الأشقى؟ فلن ينفعك الندم فتكون مع الذين هم ينادون ويصطرخون: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـالِحاً غَيْرَ الَّذِى كُـنَّا نَعْمَلُ) [فاطر:37]، ينادون ويصطرخون: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَـالِمُونَ) [المؤمنون:107]، ينادون إلهاً طالما خالفوا أمره، وانتهكوا حدوده؛ ينادون إلهًا نزل بهم سخطه وعذابه وغضبه، حتى قال لهم: (قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ) [المؤمنون:108]. فمتى؟ متى أيها المسكين اللاهي؟ متى ستقف مع نفسك؟.

اللهمَّ! يا مَن يغفرُ الذنبَ العظيم، ويقبلُ توبةَ العاصي، اللهمَّ اجعل آخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إلهَ إلاَّ الله، اللهمَّ ارزقنا توبةً قبل الموت، وراحةً بعد الموت، ولذةَ النظرِ إلى وجهكَ الكريم؛ اللهمَّ اغفر لأمهاتنا، واغفر اللهمَّ لآبائنا، اللهمَّ اجزهم عنَّا خيرَ ما جزيتَ محسناً على إحسانه، اللهمَّ من كان منهم حياً فمتعهُ بسمعهِ وبصره وقوته، ومن كان منهم ميتاً فاجعل مثواهُ جناتكَ جنات النعيم، اللهمَّ وسِّع لهُ في قبره، واجعلهُ روضةً من رياضِ الجنة، ولا تجعلهُ حُفرةً من حُفرِ النارِ، يا رب العالمين.

اللهمَّ أصلح لنا ديننا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادُنا، وارزقنا من كلِّ خير، واكتب لنا السلامةَ من كلِّ شرٍ، برحمتك يا أرحمَ الراحمين.
 

 

 

 

 

 

المرفقات
يا لها من خاتمة!.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life