عناصر الخطبة
1/ تأملات في قصة نبي الله نوح عليه السلام 2/ حث الأبناء على طاعة الآباء في المعروف 3/ وصايا مهمة لشباب الأمة.اهداف الخطبة
اقتباس
أيها الابنُ المُباركُ اسمع إلى نداءِ أبيكَ حينَ يُناديكَ: (يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا)، واحذرْ ممن يقولُ: الزَّمانُ تغيَّرَ، والعقلُ تنوَّرَ، والعلمُ تطوَّرَ، والجيلُ تحضَّرَ، والآباءُ تفكيرُهم تحجَّرَ، فلا واللهِ، بل هم الخيرُ والبركةُ، وعندهم ما لا يتغيَّرُ بتغيِّرِ الزَّمانِ والمكانِ، الدِّينُ والأخلاقُ، فمن حازَهما فقد أفلحَ في الدُّنيا والآخرةِ. (يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا)، واعلم أنكَ من أحبِّ النَّاسِ إليِّ، وأنه لا أحدَ يحبُّ لكَ الخيرَ أكثرَ مني، ولذلكَ فإنِّي لا أحبُ أن يتفوَّقَ عليَّ أحدٌ، ولا يكونُ أحدٌ أحسنَ مني، إلا أنتَ، فإني إن رأيتُكَ في ذلكَ المقامَ، فإنَّ عيني من الفرحِ لا تنامُ...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الذي خَلقَ الكونَ فنظَّمه، وسوَّى الإنسانَ وكرَّمَه، وأكملَ الدِّينَ وعظَّمه، ووضعَ البيتَ وحرَّمه، وسخَّرَ الطيرَ وألهَمَه، وسيَّرَ السَّحابَ وكوَّمه، وأنشزَ العظمَ ورمَّمَه، وأنزلَ الكتابَ وأحكَمَه، ورفعَ القمرَ وتممَّه، وحفظَ إبراهيمَ من النَّارِ وسلَّمَه، ونادى موسى وكلَّمَه، ووهبَ سليمان مُلْكَاً وفهَّمه، وأرسلَ محمداً بالحقِّ وعلَّمَه.
سبحانه ما أعلى مكانَه وأعظَمه، وما أكثرَ جودَه وأكرَمَه، وأعزَّ سلطانَه وأقدَمَه، وما أعظمَ لطفَه وأرحَمَه، سبحانَه من إلهٍ عظيمٍ ما أحلمَه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له شهادةً خالصةً ذُخرًا لقائِلِها عاجلاً وآجلاً، وحالاً ومآلاً.
وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه فتحَ به أعيُنًا عُميًا، وقلوبًا غُلفًا، وآذانًا صُمًّا، وهدَى به ضُلاَّلاً، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وأصحابِه الغُرِّ الميامين الصالحين أعمالاً، والصادقين أقوالاً، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسلَّم تسليمًا كثيرًا مزيدًا يتوالَى.
أما بعد: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ) [القمر: 10- 14].
كلُّ هذا بعدَ أن لبثِ فيهم ألفَ سنّةٍ إلا خمسينَ عاماً يدعوهم إلى توحيدِ اللهِ تعالى ونَبذِ عبادةِ الأوثانِ بكلِّ وسيلةٍ من وسائلِ الدَّعوةِ، كما قالَ عليه السَّلامُ: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا) [نوح: 5- 9].
ثمَّ جاءَه الخبرُ الأكيدُ: (وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [هود: 36]، ولذلكَ دعا اللهَ -عزَّ وجلَّ- بهلاكِهم لأنَّه لا فائدةَ من دعوتِهم، وأن بقاءَهم هو زيادةٌ في الكفرِ والكافرينَ .. (وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا) [نوح: 26- 27]، وسألَ اللهَ تعالى النَّصرَ (قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ) [المؤمنون: 26]، فجاءَته البُشرى.. (فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ) [المؤمنون: 27].
فلما انتهى من بناءِ السَّفينةِ، وحلَّ عذابُ اللهِ تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ * وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ) [هود: 40- 43]، وفي هذا الموقفِ المُخيفِ، الذي أصبحَ فيه الموجُ عظيماً كالجبالِ، يهدمُ البيوتَ ويبتلعُ الرِّجالَ، وقد انهمرَ ماءُ السَّماءِ، وتفجَّرتْ عيونُ الماءِ، رأى نوحٌ عليه السَّلامُ ابنَه وَسَطَ هذه الأجواءِ.
فأَخَذَتْه عاطفةُ الأبُّوةِ، فَرَقَّ لابنهِ ورحمَه، (وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) [هود: 42- 43]، وصدقَ اللهُ تعالى: (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ)، ولكنَّه حنانُ الأبِّ الذي لا يعرفُ المستحيلَ.
ثُمَّ سألَ اللهَ تعالى له النَّجاةَ، (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ)، وكانَ اللهُ سبحانَه قد نهاهُ عن ذلكَ بقولِه: (وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ)، ولكنَّها رحمةُ الأبِّ التي لا تعرفُ اليأسَ، ولذلكَ جاءَ الردُّ: (قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [هود: 45- 46].
وتأملْ في خطابِ نوحٍ عليه السَّلامُ وهو أولُ الرُّسلِ ومن أولي العزمِ منهم لابنِه حينَ قالَ له: (يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ)، وما قالَ: ولا تكنْ من الكافرينَ، فكونُك مع الكافرينَ ولو لم تكنْ منهم، فإنَّه سَيُصيبكَ ما أصابهم من عذابِ اللهِ تعالى وسخطِه.
فيا أيها الابنُ المُباركُ اسمع إلى نداءِ أبيكَ حينَ يُناديكَ: (يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا)، واحذرْ ممن يقولُ: الزَّمانُ تغيَّرَ، والعقلُ تنوَّرَ، والعلمُ تطوَّرَ، والجيلُ تحضَّرَ، والآباءُ تفكيرُهم تحجَّرَ، فلا واللهِ، بل هم الخيرُ والبركةُ، وعندهم ما لا يتغيَّرُ بتغيِّرِ الزَّمانِ والمكانِ، الدِّينُ والأخلاقُ، فمن حازَهما فقد أفلحَ في الدُّنيا والآخرةِ.
(يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا)، واعلم أنكَ من أحبِّ النَّاسِ إليِّ، وأنه لا أحدَ يحبُّ لكَ الخيرَ أكثرَ مني، ولذلكَ فإنِّي لا أحبُ أن يتفوَّقَ عليَّ أحدٌ، ولا يكونُ أحدٌ أحسنَ مني، إلا أنتَ، فإني إن رأيتُكَ في ذلكَ المقامَ، فإنَّ عيني من الفرحِ لا تنامُ.
(يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا)، وعليكَ بتوحيدِ ربِّكَ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، وراقبْه في الخَلواتِ فهو الذي أنعمَ عليكَ ورزقَك، كلُّ نعمةٍ أنتَ فيها فمنْ فضلِه أعطاكَ، وكلُّ نِقمةٍ صُرفتْ عنكَ فبعدلِه حماكَ، خلقكَ لعبادتِه وهو العزيزُ الحكيمُ، وكتبَ على نفسِه الرَّحمةِ وهو القويُّ العليمُ، ويتجاوزُ عن عبادِه وهو الغفورُ الرَّحيمُ، توكَّلْ عليه، والجأ إليه، واعتصمْ به، واستعذ به، واحفرْ في قلبِك: "إن كانَ اللهُ معكَ فلا يضرُّكَ أحدٌ، وإن كانَ اللهُ ضِدَّكَ فلا ينفعُكَ أحدٌ"، وردد:
فقيراً جئتُ بابَك يا إلهي *** ولستُ إلى عبادِك بالفقـيرِ
إلهي ما سألتُ سِواكَ عَوناً *** فحسبي العونُ من ربًّ قديرِ
إذا لم أستعنْ بك يـا إلهي *** فمن عوني سواكَ ومن مُجيري؟
(يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا)، نبيُّكَ وحبيبُكَ وقِدوتُكَ محمدٌ صلى اللهُ عليه وسلمَ، تأملْ في سيرتِه، وكيفَ بذلَ نفسَه وروحَه ووقتَه وراحتَه في سبيلِ هدايةِ البشريَّةِ، هو القدوةُ، وهو الأسوةُ، كما أمرَك اللهُ تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21]، فلا تتخذْ غيرَه قدوةً، فهو أخشى النَّاسِ، وأتقى النَّاسِ، وأكرمُ النَّاسِ، وأشجعُ النَّاسِ، وأجودُ النَّاسِ، وأوفى النَّاسِ، ومدحَ أخلاقَه خالقُ النَّاسِ، (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4]، فمن القدوةُ إلا هو؟:
يَكْفِيْكِ عَنْ كُلِّ مَدْحٍ مَدْحُ خَالِقِهِ *** وَأَقْرَأُ بِرَبِّكَ مَبْدَأَ سُوْرَةِ الْقَلَمِ
أَحْيَا بِكَ الْلَّهُ أَرْوَاحَاً قَدْ انْدَثَرَتْ *** فِيْ تُرْبَةٍ الْوَهْمِ بَيْنَ الْكَأْسِ وَالْصَّنَمِ
لَنْ تَهْتَدِيَ أُمَّةٌ فِيْ غَيْرِ مَنْهَجِهِ *** مُهِمَّا ارْتَضَتْ مِنْ بَدِيْعِ الْرَّأْيِ وَالْنُّظُمِ
مِلْحٌ أُجَاجٌ سَرَابٌ خَادِعٌ خَوْرٌ *** لَيْسَتْ كَمِثْلِ فُرَاتٍ سَائِغٍ طَعِمِ
إِنْ أَقْفَرَتْ بَلْدَةً مِنْ نُوُرٍ سُنَّتِهِ *** فَطَائِرُ الْسَّعْدِ لَمْ يَهْوِيِ وَلَمْ يَحُمِ
(يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا)، وكتابَ اللهِ، أوصيكَ بكتابِ اللهِ تعالى ففيه الهدى والنُّورُ، وبه تنشرحُ الصُّدورُ، فِيهِ حَدِيثُ مَا قَبْلَنا، وَنَبَأُ مَا بَعْدَنا، وَفَصْلُ مَا بَيْنَنا، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَتْبَعُ الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللَّهُ، هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَالذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ؛ من تمسَّكَ به نجا، ومن حادَ عنه هلكَ، يهدي للَّتي هيَ أقومُ، فخُذْ بكتابِ اللهِ، واستمسِكْ به، فإنه كتابٌ عظيمٌ كريمٌ عزيزٌ مجيدٌ مباركٌ، وبركتُه كبيرةٌ في الدُّنيا والآخرةِ، فكن من أهلِ القرآنِ الذينَ هم أهلُ اللهِ وخاصتُه.
هُوَ الكِتَابُ الذِي مَنْ قام يَقْرؤُهُ *** كَأنَّمَا خَاطَبَ الرَّحْمنَ بالكَلِمِ
هُوَ المُنَزَّلُ نُوْرًا بَيِّنًا وهُدَى *** وهُو الشِفَاءُ لِمَا في القَلْب مِن سَقَمِ
(يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا)، واللهَ اللهَ بالصَّلاةِ، فإنها عمودُ الدِّينِ، وشِعارُ المسلمينَ، ووصيةُ خاتمِ المرسلينَ، مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا، كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلا بُرْهَانٌ وَلا نَجَاةٌ، وَيَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكَ الصَّلاةُ، وهي أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ، فَإِنْ صَلُحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ.
واعلم أنكَ كلما انخفضتَ في سجودِكَ للهِ تعالى، كلما ارتفعتْ عندَ اللهِ تعالى وعندَ خلقِه، ومن تواضعَ للهِ رفعَه.
نفعني اللهُ وإياكم بالقرآنِ العظيمِ، وبما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ .. أقولُ ماتسمعون، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم من كلِ ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الذي جعلَ الأبناءَ لعيونِ الآباءِ قُرَّةً، وجعلَهم لقلوبِهم مسرَّةً، وجعلَهم في جَبينِ السَّعادةِ دُرَّةً، وأوصى بهم وبتربيتِهم في الكتابِ والسُّنةِ كرَّةً من بعدِ كرَّةً، والصلاةُ والسلامُ على خِيرةِ الآباءِ، أبي الزَّهراءِ، سيِّدِ الأولياءِ، وأعظمِ الأصفياءِ، وأجلِّ المرَّبينَ النبلاءِ .. أشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه، وسلمَ تسليماً كثيراً.
(يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا)، واعلمْ أن أخلاقَك هي عنوانُكَ، وأنَّه مَا مِنْ شَيْءٍ فِي اَلْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ اَلْخُلُقِ، وإنَّ العبدَ ليبلغُ بحسنِ خلُقِه درجةَ الصائمِ القائمِ، كُنْ بَرَّاً وَصولاً وَقوراً صَبوراً شَكوراً رَضيَّاً حَكيماً رَفيقاً عَفيفاً شَفيقاً، ولا تكنْ لعَّاناً ولا سبَّاباً ولا نَماماً ولا مُغتاباً ولا عَجولاً ولا حَقوداً ولا بَخيلاً ولا حَسوداً، وإِذَا حَسُنَتْ أَخْلَاقُ الْإِنْسَانِ كَثُرَ مُصَافُوهُ، وَقَلَّ مُعَادُوهُ، فَتَسَهَّلَتْ عَلَيْهِ الْأُمُورُ الصِّعَابُ، وَلَانَتْ لَهُ الْقُلُوبُ الْغِضَابُ.
وعندَها تنالُ المقامَ الكريمَ في جنَّاتِ النَّعيمِ، قالَ عليه الصّلاةُ والسَّلامُ: (أَلا أُخبرُكُم بأَحبِّكُم إِليَّ، وأقْرَبِكُم منِّي مجْلِساً يومَ القيامةِ: أحاسِنُكم أَخْلاقاً)، فنعم المجلسِ مجلسُكَ يومئذٍ، ولا تنسَ فيه أباكَ الذي ربَّاكَ.
(يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا)، وصاحبَ الأخيارَ، فإنهم كَحَامِلُ الْمِسْكِ، إمَّا أنْ يُحْذِيَكَ، وَإمَّا أنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإمَّا أنْ تَجِدَ مِنْهُ ريحًا طَيِّبَةً، فَالْمَرْءُ عَلى دِينِ خَلِيلِه، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخالِلُ، اصحبْ من إذا كنتَ معه زانَكَ، وإذا غِبتَ عنه صانَكَ، وإذا كانَ يومُ القيامةِ، فهو الخليلُ الحميمُ الشَّفيعُ كما قالَ تعالى: (الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ) [الزخرف: 67].
جـمعتُ لكَ النصائحَ فامتثلها *** حياتَكَ؛ فهي أفضلُ ما امتثلتا
ولا تأخذْ بتقصيري وسَهوي *** وخـذْ بوصيتي لكَ إن رَشَدتا
(يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا)، وخذها من أبٍّ ناصحٍ: "يا بُنيَّ إن لم ترفعْ رأسي عندَ اللهِ وبينَ النَّاسِ، فأرجو أن لا تُخفضُه".
اللَّهُمَّ إِنّا نَسْأَلُكَ بِأَنـَّا نَشْهَدُ أَنـَّكَ أَنْتَ اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، الواحد الأَحَدُ الْفَرْدُ الصَّمَدُ، الّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ، رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا.
نسألُكَ اللهمَّ أَنْ تَجْزِيَ آبَاءَنا وَأُمَّهَاتِنا عَنـَّا خَيْرَ الْجَزَاءِ، اللَّهُمَّ اجْزِهِمْ عَنـَّا خَيْرَ الْجَزَاءِ وَاغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ كَمَا رَبـُّونا صِغَاراً، اللَّهُمَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ حَيّاً فَمَتِّعْهُ بِالصِّحَّةِ وَالعَافِيَةِ عَلَى طَاعَتِكْ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي دَارِ الْحَقِّ فَتَوَلَّهُ بِرَحْمَتِكَ.
اللَّهُمَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مَرِيضاً فَشَافِهِ وَعَافِهِ يَا رَبَّ العَالَمِينَ، وَأَسْبِلْ عَلَيْهِ ثَوْبَ الصِّحَّةِ وَالعَافِيَةِ يا أَكْرَمَ الأَكْرَمِينَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِوَالِدَيْنَا واجْعَلْنَا بِهِمَا مِنَ البَارِّينَ وَاجْعَلْنَا قُرَّةَ عَيْنٍ لَهُما فِي الدُّنْيا وَالآخِرَةِ.
التعليقات