وما هي إلا ذكرى للبشر

عبدالله محمد الطوالة

2023-02-13 - 1444/07/22
عناصر الخطبة
1/آيات الله الدالة على قدرته وعظمته 2/لحظات مع زلزال تركيا وسوريا 3/رسائل الزلازل للعباد ونذارته لهم 4/أسباب حدوث الزلازل وغيرها من الكوارث التي تقع 5/للابتلاءات والمصائب حكم كثيرة

اقتباس

ولا شك أنَّ الركونَ إلى التفسير المادّي والتحليلِ العلميّ، والبعدَ عن العِظَة والذِّكرى أن ذلك من تزيينِ الشيطان، كما قال سبحانه: (فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)، وقال تعالى: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)؛ فيعللون الظواهرَ تعليلاً...

الخطبة الأولى:

 

الحمدُ للهِ، الحمدُ للهِ أبدعَ ما أوجدَ، وأتقنَ ما صنَعَ، وأحسنَ كلَّ شيءٍ خلقَه وأحكمَ ما شرعَ، وذلَّ كلُّ شيءٍ لجبروته وخضَعَ، سبحانهُ وبحمده، في رحمته الرجاءُ، وفي عفوِه الطمعُ؛ فكم من خيرٍ أفاضَ، وكم من مكروهٍ دفَعَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريك له، تعالى في مجده وارتفعَ، وأحاط بكل شيءٍ علماً ووسع، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ اللهِ ورسولهُ ومصطفاه وخليله، أفضلُ مُقتدًى به وأكملُ مُتَّبَعٍ، صلَّى اللهِ وسلَّم وبارَكَ عليهِ وعلى آله وأصحابهِ أولو الفضلِ والتّقَى والورَعِ، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ، وكل من التزم بمنهجِ الحقِّ واتَّبَع، وسلَّم تسليمًا كثيراً..   

 

أما بعد: فأوصيكم -عبادَ اللهِ- ونفسي بتقوى اللهِ؛ فاتقوا اللهَ -رحمكم اللهُ-؛ فتقوى الله فرجٌ ورزق: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)، وتقوى الله توفيقُ وتيسيرٌ، (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا)، وتقوى اللهِ مغفرةٌ وأجرٌ كبيرٌ، (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا)، وتقوى الله نجاةٌ وسلامة: (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).

 

معاشر المؤمنين الكرام: صدقَ الله، ومن أصدقُ من الله قيلا: (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا)؛ فإذا كان اللهُ -جلَّ جلالهُ- هو الذي يُمسِكُ السمواتِ والأرضَ أن تزولا، فهو الذي يمسكُ الأرضَ أن لا تهتزَ وتضطرب، وهو -سبحانهُ وتعالى- إنما يُري عباده من آياته ما يُري، لينتبهوا ويعتبروا، وليتوبوا ويرجعوا؛ فالسعيدُ والله من تنبهَ وتاب، وعادَ من قريبٍ وأناب، والشقي من غفلَ ولها، وأصرَّ وتمادى، (أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ).

 

فكم نسمعُ من الحوادث، ونشاهدُ من العبر، حروبٌ مدمرة، وكوارثٌ مُهلكة، وأعاصيرُ وفيضاناتٌ جارفة، وأمراضٌ وأوبئةٌ فتاكة، وبراكينَ وزلازلَ مروعةٌ مرعبة، آياتٌ وعبر، وحوادثٌ وغير، تضربُ هنا وهناك بكل قوة؛ فلا يملك أحدٌ ردَّها، ولا يستطيعُ إنسانٌ أن يسيطر عليها؛ فهي من جند الله؛ (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ).

 

آياتٌ وعبر، يظهرُ فيها شيءٌ من عظمة الجبارِ وقوّته، وعظيمِ سلطانِه وكمالِ قدرتُه، يُقَلِّبُ الله بها أحوالَ عبادهِ، ويُريهم من سطوتهِ ما يخلعُ القلوب، ويهزُ النفوس، لعلهم يرجعون ويئوبون، وعساهم يعودَون ويتضرَّعون؛ (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا) ..

 

وظاهرةُ الزلازل آيةٌ من آياتٌ الله العظيم، وقدٌّر من أقدار الله الحكيم، يُصيبُ اللهُ بها من يشاءُ من عباده عدلاً وحكمة، أو رأفةً ورحمة، نعم؛ ففي الحديث الصحيح، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أُمَّتِى هَذِهِ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ؛ لَيْسَ عَلَيْهَا عَذَابٌ فِي الآخِرَةِ، عَذَابُهَا فِي الدُّنْيَا الْفِتَنُ وَالزَّلاَزِلُ وَالْقَتْلُ".

 

إنها هزةٌ للقلوب الغافلة، وصيحةٌ قويةٌ مزلزلة، لأهل الفساد والعناد، ومن يحب أن تشيع الفاحشة في البلاد، ولأهل الخمور والمسكرات، والمجاهرين بالفحش والمنكرات، والمستمرئين لأكل الربا والمحرمات، والهاجرين للبيوت الله التاركين للصلوات، وللكاسيات العاريات، المائلات المميلات، ولكل المفرطين والمقصرين والعصاة.

 

إنها قدرة الله الباهرة، وحكمته البالغة؛ حيث يأذنُ لهذه الأرض أن تتحرك لبضع ثوانٍ قليلة، فينتجَ عن ذلك نتائج مروعة، دمارٌ هائل، وخسائرٌ فادحة؛ فضحايا الزلزال الأخير بلغت أكثر من 17 ألف قتيل، و85 ألف مصاب، وأكثر من 12 ألف مبنى انهيارٌ كليٌ أو شبه كلي، وليصل عدد المتضررين إلى ما يزيد عن العشرين مليون إنسان، والأرقام مرشحة للارتفاع؛ فلا زال مصير الكثيرين مجهولا.

 

إنها -يا عباد الله- رسائلٌ إنذارٍ من الملك الجبار؛ (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا)، ولا شك أن ظاهرة الزلازل من أعظم ما يوقظُ النفوس، ويحرك القلوب؛ فمنظرُ الأرضِ وهي تهتزُ وترتج، وتتشقق وتتصدع، تلك الأرض التي طالما كانت ساكنة، آمنةً وادعة، إذا بها في لحظةٍ خاطفة، ينقلبُ حالُها رأساً على عقب، وإذا بكلِّ ما عليها يتمايل ويترنح، وإذا بالجدران تتساقط، وإذا بالسقوف تتهاوى، وإذا بالبنايات الضخمة تتحولُ إلى ركامٍ وحطام.

 

لحظاتٌ قليلةٌ ولكنها رهيبةٌ مرعبة، أذهلت العقول، وأزاغت الأبصار، وبلغت معها القلوب الحناجر؛ يخرجُ الناس من بيوتهم سِراعاً، لا يلوون على شيء، مذهولين مذعورين، يسيرون بلا هدف، يركضونَ كالسكارى وما هم بسكارى، ولكن الهولَ شديد، فلا إله إلا الله، كم في هذه الآية من مواعظَ ورسائل، وعظاتٍ وعبر.

 

إنها رسالةٌ قويةٌ لكل البشر، أنه لا أعظمَ ولا أكبرَ من الله -جلَّ في علاه-، وأنه لا أشدَّ منه بطشاً، ولا أعظمَ منهُ قوة، إنه الله الواحد القهار، ذلَّ كلُّ شيءٍ لعظمته، وخضعَ كلُّ شيءٍ لـمشيئَتِه، لا دافِعَ لمَا قَضَى، ولا مانِعَ لِمَا أعطى، يفعلُ في مُلْكِهِ ما يُريدُ، ويحكُمُ في خلقِهِ ما يشاءُ؛ (وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ)، وإذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، خرَّتْ لعظمته الجبالُ الراسيات، وتصدعت من خشيتِه الصخورُ الصم القاسياتْ.

 

لكأن الزلزال حين يرجفُ بالأرض وأهلها، يخاطبهم خطاباً فصيحاً بليغاً، يقول لهم: ألا ما أعجزَ الانسان، وما أشدّ ضعفه، وما أقلَّ حيلته؛ فمهما تعلَّم الانسانُ وعلا، ومهما تقدَّم وارتقى، فسيبقى ضعيفاً عاجزاً، ليس له من دون الله من ولي ولا نصير، وحتى إن رصدَ أماكن الزلازل، وقاس درجاتها، وحدَّد أماكنها وعرفَ أسبابها؛ لكنه سيظلُ أمامها ضعيفاً عاجزاً، فلا قوةَ توقفه، ولا أجهزةَ تخففه، ولا حيلةَ تحرفه، أو حتى تؤخِّره.

 

ورسالةٌ أخرى تقولها لنا هذه الزلازلُ المرعبة: أن كلَّ ما نراه اليومَ من دمارٍ هائل، ومشاهدَ مروعة، ما هو إلا جزءٌ يسير، ومشهدٌ قصير، من زلزالِ قيامِ الساعةِ العظيم، وإذا كان أهلُ الأرضِ جميعاً قد فُجِعوا بحركاتٍ أرضيةٍ قليلة، وهزَّاتٍ سطحيةٍ يسيرة، وفي بقاعٍ محدودة؛ فكيف؛ (إذا رُجَّت الأرض رجَّاً، وبُسَّت الجبالُ بسَّاً، فكانت هباءً منبثاً)!  كيف سيكون الحال: (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا)! كيف سيكون الحال: إذا (حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً)! كيف سيكون الحال: (يوم ترجفُ الراجفة، تتبعها الرادفة)! (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ)! كيف سيكون الحال: (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا)!

 

لقد وصفَ الجليلُ الجبار ذلك الزلزالَ بأنه عظيم، وأن كل مرضعةٍ ستذهلُ من هوله عن رضيعها، وتضع كل ذات حملٍ حملها، وتشيب من هوله رؤوس الولدان، فاسمع بقلبك وعقلك هذا الوصف الرهيب؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ) .. 

 

ونصوص الكتاب والسنة تؤكدُ أن كلَّ ما يصيبُ العبادَ من المصائب والكوارث، إنما هو بسبب ذنوبهم وبما كسبت أيديهم، قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)، وكونها تقعُ لأسبابٍ معروفةٍ فلا يخرجَها عن كونها مقدّرةً من الله -سبحانه- على العباد لذنوبهم، فهو مُسببٌ الأسباب سبحانه، قال جلَّ وعلا: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)؛ فإذا أراد الله شيئًا أوجدَ سببه، ورتبَ عليه نتيجته، كما قال تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا).

 

ولا شك أنَّ الركونَ إلى التفسير المادّي والتحليلِ العلميّ، والبعدَ عن العِظَة والذِّكرى أن ذلك من تزيينِ الشيطان، كما قال سبحانه: (فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)، وقال تعالى: (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)؛ فيعللون الظواهرَ تعليلاً ماديًّا صِرْفًا، لا ينتجُ عنه إلا مزيدٌ من الغفلة والقسوة وقلة الاتعاظ؛ (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ).

 

أمَّا ماذا وراء هذه الكواري وما هي حكمتها؟ من دبِّرها ولماذا أرسلها؟ فليسوا من ذلك في شيء .. فأين قول العظيم الجبَّار: (وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا)! أين قول المدبر الحكيم: (وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا)! أين قولُ من لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)!

 

لقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن هذه الأمةَ سيكون فيها خسفٌ ومسخٌ وقذفٌ؛ فلم يقل أن السببَ هو تصدعُ الأرض وضعفُ قشرتها، إنما نصَّ على أن السببَ هو المعاصي، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "يَكونُ في أمَّتي خسفٌ ومَسخٌ وقذفٌ؛ إذا ظَهَرتِ القِيانُ والمعازِفُ وشُرِبَتِ الخمورُ، والحديث صحيح، وفي صحيح البخاري، قال -صلى الله عليه وسلم-: "بيْنَما رَجُلٌ يَجُرُّ إزارَهُ مِنَ الخُيَلاءِ، خُسِفَ به، فَهو يَتَجَلْجَلُ في الأرْضِ إلى يَومِ القِيامَةِ".

 

وعندما استغرب الصحابة هزيمتهم في يوم أحدٍ، أنزل الله -تعالى- قوله: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم؛ (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ).

 

أقول ما تسمعون …

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله كما ينبغي لجلاله وجماله وكماله وعظيم سلطانه ....

 

أما بعد فاتقوا الله -عباد الله- وكونوا مع الصادقين، وكونوا من (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) ..

 

معاشر المؤمنين الكرام: من فضل الله ورحمته أنه لا يؤاخذُ الناسَ بكل ذنب، ولكن إذا نسوا وغفلوا وتمادوا خوفهم وذكرهم بالآيات والمصائب والابتلاءات؛ فحين سٌئل -صلى الله عليه وسلم-: أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: "نعم، إذا كثرُ الخبث"، والخبثُ هو المعاصي، قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).

 

ثم إنَّ المصائب والكوارث ليست بالضرورة عذاباً أو انتقاماً، بل قد تكونُ ابتلاءً واختباراً: قال تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)، وفي الحديث الصحيح: إن الله إذا أحبَّ قوماً ابتلاهم.

 

ولا شك أن في لهذه الابتلاءات والمصائب حكماً كثيرة:

منها التمييز والتمحيص؛ (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ).

 

ومن حكم هذه المصائب والابتلاءات: تكفيرُ الذنوب ومحو السيئات، ففي الحديث الصحيح، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنةِ في نفسِهِ وولدِهِ ومالِهِ حتَّى يَلقى اللَّهَ وما عليْهِ خطيئةٌ".

 

ومن حكم هذه المصائب والابتلاءات: تعظيمُ الأجور ورفعُ الدرجات؛ ففي الحديث الصحيح: "إنَّ عِظَمَ الجزاءِ مع عِظَمِ البلاءِ؛ وإنَّ اللهَ -تعالى- إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رضيَ فله الرِّضَى، ومن سخِط فله السُّخطُ".

 

ومن حكمها أيضاً: إيقاظُ القلوب الغافلة وتنبيهها، لئلا تركن إلى الدنيا، وتغفلَ عن الآخرة؛ فالمصائب توقظ الغافلين، وتجعلهم يعملون لدارٍ لا مصائبَ فيها ولا ابتلاءات، كما أن فيها إنذارٌ وتحذير؛ فالمقصر يتدارك، والمتراخي يجتهد، والمخطئ يتراجعُ ويُصلح، قال تعالى: (فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ)..

 

فاتقوا الله -عباد الله- واحذروا غضب الجبار، واستدفعوا البلاءَ بكثرة الاستغفار؛ فهو القائل سبحانه: (وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)، واتقوا كوارث الدَّهر ومصارع السوء بصنائع المعروف، والاستقامة على أمر الله والإصلاح؛ فهو سبحانه القائل: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) ..

 

ألا وإن مِنْ أَعْظَمِ آدَابِ الْإِسْلَامِ، وَمِنْ أَقْوَى مَظَاهِرِ الْإِيمَانِ: مُوَاسَاةُ المُؤْمِنِ لِأَخِيهِ المُؤْمِنِ، فَيَقِفُ مَعَهُ فِي كُرْبَتِهِ، وَيُوَاسِيهِ فِي مِحْنَتِهِ، ويلبي حَاجَتَهُ، وَيُخَفِّفُ عنه مُصَابَهُ، وَيَسُدُّ خُلتهُ، فإنما المؤمنون إخوة، واللهُ في عَونِ المَرءِ ما كان في المرءُ في عَونِ أَخيه.

 

أما وقد فتح ولي أمرنا وفقه الله وسدده، فتح أبواب العون والمساعدة، فلنقم بما أَوجَبَهُ اللهُ علينا تِجاهَ إِخْوَانِنا المنكوبين؛ فقدِ اجتمعَ عليهم خوفٌ وجوعٌ وبردٌ وفَقْدٌ وكرْبٌ، فنفسوا عنهم قدر ما تستطيعون، فـ"مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ"، وتصدقوا إن الله يجزي المتصدقين، وأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِيْن،  (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا).

 

اللهم إنا نستودعُك إخواننَا في تركيا وسوريا والشامِ، اللهم فالطُفْ بهم وتَوَلّ أمرَهم، واجبر مصابهم، اللهم شافي مرضاهُم، وعاف مبتلاهم، وتقبل قَتلَاهُم في الشُهداءِ ..

 

 اللَّهُمَّ لاَ تَقْتُلْنَا بِغَضَبِكَ، وَلاَ تُهْلِكْنَا بِعَذَابِكَ، وَعَافِنَا قَبْلَ ذَلِكَ ..

 

 اللهم صل …

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life