اقتباس
وإنك لتجد الكثيرين من رواد الدعوة وقادتها حال التأصيل والتنظير، ومناقشة أوضاع الدعوة، والنظر في أساليبها وطرقها، يجعلون ربط الناس بالمصالح والاهتمام بالجانب المادي من أولى الأولويات، وأقوى الأسباب، وأهم التوصيات؛ بينما المتتبع لدعوة الأنبياء من خلال كتاب الله وسنة نبيه وما ورد في كتب التاريخ، يجد أنه لم يكن لهذه النقطة كبير اعتبار، ولا عظيم أهمية.
الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الآمين وعلى آله وصحبه والتابعين وسلم تسليماً كثيراً، وبعد:
الدعوة إلى الله -تعالى- شرفٌ لأصحابها، وتاج على رؤوس أهلها، وهي مظهر لقناعتهم بدين الإسلام، وعلامة لرغبتهم في شريعة سيد الأنام، وهي سبيل النجاة من الغرق في بحار المعاصي والشهوات، يصدق هذا ما ورد في حديث النعمان بن بشير -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَثَلُ القَائِم في حُدُودِ اللَّه والْوَاقِع فيها، كَمثل قَومٍ اسْتَهَموا على سَفِينَةٍ، فَأَصابَ بَعْضُهم أعْلاهَا، وبعضُهم أَسْفلَهَا، فكان الذي في أَسفلها إذا استَقَوْا من الماء مَرُّوا على مَنْ فَوقَهمْ، فقالوا: لو أنا خَرَقْنا في نَصِيبِنَا خَرقا ولَمْ نُؤذِ مَنْ فَوقَنا؟ فإن تَرَكُوهُمْ وما أَرَادوا هَلَكوا وهلكوا جَميعا، وإنْ أخذُوا على أيديِهِمْ نَجَوْا ونَجَوْا جَميعا" (رواه البخاري).
وبالتالي؛ فلا غرابة في أن وسم الله الدعوة إليه بأنها أحسن القول وأطيبه، حيث قال -سبحانه-: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [فصلت:33]، وجعلها وظيفة المصطفين الأخيار، وتركة الأنبياء الكرام، على رأسهم سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا) [الأحزاب:45-46].
كما جعلها مهمة الصحب والأبرار ومن جاء بعدهم من الأئمة الأعلام، وكل من اتبع رضوان الله فهُدي إلى سبل السلام؛ ففي حديث تميم بن أوس الداري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الدين النصيحة"، ثلاثا، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم" (رواه مسلم).
والدعوة إلى الله واجبة على عموم الأمة؛ لكنها في حق العلماء والدعاة أوجب وآكد. وحقاً وشهادةً، من خلال قراءتنا لسيرهم وحياتهم نتبين أنها كانت لسان قولهم وواقع حالهم، وأنهم كانوا معتقدين أنها من أهم الفرائض وآكد الواجبات؛ كونها الحصن الحصين لحمى الشريعة، فهي سدها المنيع، تدفع عنها وتحرسها.
لذا؛ فالمسلم الحق هو من جعل رسالة الدعوة ومهمة النصح ووظيفة البلاغ ضمن برامج يومه وليلته، وواجباً شرعياً يمارسه في كل وقت وحين في مجتمعه، مع أهله وأسرته، وفي عمله مع موظفيه وزملائه، وفي مسجده وطريقه وسوقه، وفي كل حياته، في ظعنه وإقامته، حتى تصبح سلوكا وثقافة له.
ومن ينظر لبيعة أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- له، يدرك كيف أن النبي -عليه والصلاة والسلام- كان يأخذ عهداً وميثاقاً بخصوص الدعوة إلى الله -تعالى- والنصيحة للمسلمين مِن كل من جاءه مبايعاً يريد الإسلام؛ فهذا جرير بن عبد الله -رضي الله عنه-، قال: "بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة، وأن أنصح لكل مسلم" (البخاري ومسلم). وكونه -صلى الله عليه وسلم- يأخذ على كل من بايعه عهداً على النصح فذك أكبر دليل قاطع على أهميتها.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "والدعوة إلى الله واجبة على من اتبع الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهم أمته، وقد وصفهم الله بذلك، كقوله -تعالى-: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ)" (مجموع الفتاوى (20/5)).
وبفضل الله -تعالى- لا تزال في الأمة مشاهد مشرقة وفي مجتمعاتنا نماذج ملفتة؛ منارات هدى ومصابيح نور، تلمس فيها الحرقة على دين الله وتقرأ عليها الهم للمسلمين، تستغرق وقتاً وتفكر عميقاً: كيف تأخذ بأيدي الحيارى التائهين إلى مواطن اليقين، وبأيدي الغرقى الهالكين إلى شواطئ النجاة والأمان، ومن طرق الاعوجاج إلى سبل الاستقامة والرشاد.
وكل هذه بشارات بوجودها يسعد القلب ويستأنس، ويثلج الصدر وينشرح، خصوصاً يوم ترى روادها يتحدثون عنها، وتسمع رموزها يدندنون حولها؛ فصارت هاجسهم، وحديث مجالسهم، وخواطر أفكارهم، ومداد كتاباتهم.
كيف لا؛ والنبي -عليه الصلاة والسلام- قد حمل هذه الأمة عموما -وعلماءها خصوصاً- نقل هذه التركة للعالمين، وأوعز إليهم واجب البلاغ، وجعلهم شركاءه في دعوة العباد، حتى يأذن الله للدنيا بالزوال، فقال: "العُلماءَ ورثةُ الأنبياءِ، إنَّ الأنبياءَ لم يورِّثوا دينارًا ولا دِرهمًا إنَّما ورَّثوا العِلمَ، فمن أخذَ بِهِ فقد أخذَ بحظٍّ وافرٍ" أخرجه ابن حبان في صحيحه عن أبي الدرداء.
قال ابن القيم –رحمه الله-: "هذا من كمال الأنبياء، وعظم نصحهم للأمم، وتمام نعمة الله عليهم وعلى أممهم أن أزاح جميع العلل، وحسم جميع المواد التي توهم بعض النفوس أن الأنبياء من جنس الملوك الذين يريدون الدنيا وملكها، فحماهم الله -سبحانه وتعالى- من ذلك أتم الحماية".
لكن، مما يؤسف له، ما يُلحظ في بعض الحريصين، خصوصاً في خضم الصراعات القائمة، وموجة التجاذبات الحاصلة بين المكونات الفكرية على المستوى الداخلي والإقليمي والعالمي، وحضور سنن التدافع الكوني والشرعي بقوة؛ حيث تجد جميع المكونات تسعى واقعاً وفطرة وحاجة للحصول على أتباعٍ ومناصرين، وإيجاد حاضنة شعبية وجماهير مؤيدة.
كما تلحظ أن الجميع يعمل بما لديه من مقومات وما يتوفر لديه من إمكانات لذلك الكسب، فأحيانا يجرون أتباعهم قهراً لما يمتلكون من مراكز نفوذ ومصادر قوة، كما وصف الله بعضهم: (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) [الأحزاب:67].
وأحيانا يستقطبونهم بالمصالح الدنيوية والأطماع المالية لمن يتولى سلطة المؤسسات المالية ومقدراتها، قال الله: (فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) [الشعراء:41-42].
وأحيانا بوسيلة الاستغلال لمصالح الشعوب وحاجاتها، قال الله: (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الزخرف:51]، وهكذا.
ونظرا لهذه السياسة العامة والثقافة المجتمعية السائدة تأثر المكون الإسلامي السني في أساليبه الدعوية وطرقها، وأثر ذلك في خطابه ومنهجيته وسياسته، ومن ذلك -وهي أشدها- قناعتهم بالتركيز على الأمور المادية، وربط المدعوين بها، وتعليقهم عليها، وأنا لا أتحدث هنا عن كونها وسيلة من الوسائل المصاحبة والطرق الجاذبة والسبل المختصرة والمحببة للناس إذا تيسرت وتوفرت؛ لكني أستنكر حين يكون الحديث عنها كركيزة هامة، وأنها الوسيلة الأهم والأولى في أركان دعوتنا، وشرط لازم بحيث لا تقوم الدعوة إلا بها، وأن أي قصور يظهر في نتائج دعوتنا فإنه يعود لها، وأن أي إبداع فهو بفضلها، وأي مخرجات مقبولة فبوجودها.
وإنك لتجد الكثيرين من رواد الدعوة وقادتها حال التأصيل والتنظير، ومناقشة أوضاع الدعوة، والنظر في أساليبها وطرقها، يجعلون ربط الناس بالمصالح والاهتمام بالجانب المادي من أولى الأولويات، وأقوى الأسباب، وأهم التوصيات؛ بينما المستقرئ لدعوة الأنبياء من خلال كتاب الله وسنة نبيه وما ورد في كتب التاريخ، يجد أنه لم يكن لهذه النقطة كبير اعتبار، ولا عظيم أهمية.
وهنا أحببت أن أُلفِتْ عناية دعاتنا الكرام إلى العودة السريعة والفاحصة لمنهج رسل الله وأنبيائه، متذكرين أن دعوتهم قامت بما يلي:
أولاً: على الوضوح والشفافية؛ حيث كانت دعوتهم للحق صافية، وللتوحيد ظاهرة، وللخير الصرف، دون ذكر أي عوائد دنيوية أو مصالح شخصية أو مكتسبات عاجلة لهم ولأقوامهم، وإن وجدت فهي نادرة لا تمثل منهجا أو تقرر نظاماً، إنما وسيلة في عامتها تتخذ مرة وتهمل مراراً، والحاصل أنهم كان يربطونهم بما عند الله -تعالى- من فضل دنياه العاجل وثواب آخرته الآجل، وكان نداؤهم بصوت واحد ونداء واحد رغم كثرتهم وبعد أزمانهم وتفاوت أماكنهم واختلاف شرائعهم: (وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الشعراء:109].
وهذا هو شأن كل داع إلى الله، ومبلغ لدينه، ومبين لآياته، وهاد لطريقه المستقيم، إلى الحد الذي بين الله أن أهم علامة لدعاة الحق، وأوضح دليل على صدقهم، عدم سؤالهم أي أجر أو ثواب من الناس على دعوتهم، قال الله على لسان مؤمن آل ياسين مخاطباً قومه: (اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُون) [يس:21].
ثانياً: دعوة الأنبياء قامت على ربط الناس بالله -تعالى-، وتعليقهم به -سبحانه- وبالالتجاء إليه؛ فهو رب جميع الخلق، دعاتهم ومدعويهم، وهو القائم على كل نفس، وإنهم لا يملكون نفعهم ولا ضرهم ولا رزقهم، وأنهم عباد مثلهم، وأن الجميع يقصد الله في قوام عيشه، ومصدر حياته، ومصالح دنياه وأخراه.
ثالثاً: دعوة الأنبياء قامت على الموعود الأخروي والجزاء الأخروي؛ فلم تُبن دعوتهم على الطمع في الدنيا العاجلة، ومتاعها الزائل، وحطامها المنتهي؛ بل طمعت الناس إلى ما عند الله، ورغّبتهم في ثوابه الأخروي، فعند الله النعيم المقيم، والمتاع الباقي، والجزاء الوافي.
وهكذا قامت دعوة المصطفى منذ اللحظة الأولى؛ فقد روى طارق بن عبد الله المحاربي قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في سوق ذي المجاز وعليه حلة حمراء وهو يقول: "يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا". (الوادعي: صحيح دلائل النبوة).
رابعاً: دعوة الأنبياء لم تكتف بكونها لا تعطي فقط؛ بل زهّدَت الناس في الدنيا وحطامها الفاني، ورغّبَتْهم في الباقي، وقررت -في كل دعوتها- أن الربَّ هو الذي يتولَّى الخَلْق بالبذْل والعطايا والإيجاد والإمداد، وأن استغناءهم عن أخذ الأجر ليس زُهْداً فيه، بل طمعاً فيما عند الكريم، وأن يأخذوا أجرهم من الله الذي أرسلهم، لا من خلقه المرسلين إليهم.
أيها الكرام: ما أحببت بخواطري أن أنكأ جرحاً أو أدميه، أو أزيد ألماً أو أعيده؛ بل أردت أن أقف على جرح لأشارك في تطبيبه، وألم لأساهم في دوائه؛ فالسفينة مركب الجميع، ونحن ربانها جميعاً، وتعريضها للخطر من أحدنا هو خطر على كل من فوقها من ربان وركبان.
أسأل الله -تعالى- الكريم المنان أن يجعلنا ممن استعملهم في طاعته، وخدمة دينه، ونصرة أوليائه وعباده الصالحين!.
كما أساله بلطفه وقوته أن ينجي المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، ويبرم لهذه الأمة أمراً رشداً يعز فيه أهل طاعته، ويهدى فيه أهل معصيته، ويذل فيه أعداؤه.
وسلامٌ على المرسلين والحمدلله رب العالمين.
التعليقات