عناصر الخطبة
1/أوجه الاختلاف بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة 2/بعض مظاهر السعادة والنعيم يوم القيامة.

اقتباس

يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَإِنْ كَانَ يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا عَلَى الْعِبَادِ فَإِنَّهُ لِمَنْ أَعَدَّ لَهُ الْعُدَّةَ مِنَ الصَّالِحَاتِ، وَاتَّقَى اللَّهَ وَرَاقَبَهُ، فَامْتَثَلَ الْأَمْرَ، وَأَحْسَنَ الْعَمَلَ، وَاجْتَنَبَ النَّهْيَ، وَجَانَبَ الزَّلَلَ؛ فَسَيَكُونُ يَوْمَ سَعَادَةٍ وَوَفَاءٍ وَكَرَامَةٍ وَرِضًى...

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ، كَتَبَ الْفَلَاحَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَحَكَمَ بِالْفَوْزِ لِحِزْبِهِ الْمُتَّقِينَ، وَضَمِنَ السَّعَادَةَ لِأَوْلِيَائِهِ الْمُخْلِصِينَ، أَحْمَدُهُ -تَعَالَى- وَأَشْكُرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّهُ الْإِلَهُ الْحَقُّ الْمُبِينُ، قَسَّمَ عِبَادَهُ فِي الدُّنْيَا إِلَى رَاشِدٍ وَضَالٍّ، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرِيقَيْنِ؛ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا خَيْرُ الْخَلَائِقِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ أَكْمَلَ الطَّرَائِقِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الْغُرَرِ، وَالتَّابِعِينَ إِلَى يَوْمِ الْمَحْشَرِ؛ ثُمَّ أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا النَّاسُ: اتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَرَاقِبُوهُ، وَأَطِيعُوهُ وَلَا تَعْصُوهُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[الْحَشْرِ: 18]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1].

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: فِي الدُّنْيَا لَا سَعَادَةَ دَائِمَةٌ، وَلَا شَقَاءَ مُسْتَمِرٌّ، وَلَا قَرَارَ لِأَحَدٍ فِيهَا عَلَى حَالٍ، وَحَيَاةُ الْعِبَادِ فِيهَا خَلِيطٌ بَيْنَ هَذَا وَذَاكَ؛ فَدَائِمًا مَا يَجْتَمِعُ لِلْعِبَادِ فِيهَا بَيْنَ سَعَادَةٍ وَشَقَاءٍ، وَجُوعٍ وَشِبَعٍ، وَأَمْنٍ وَخَوْفٍ، وَصِحَّةٍ وَسَقَمٍ، وَغِنًى وَفَقْرٍ، وَحَرٍّ وَبَرْدٍ، وَنَوْمٍ وَيَقَظَةٍ، وَلَيْلٍ وَنَهَارٍ، وَغَيْثٍ وَقَحْطٍ، وَحُزْنٍ وَفَرَحٍ؛ (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)[الْأَنْبِيَاءِ: 35].

 

فَأَمَّا مَا يُصِيبُ الْكَافِرَ مِنْ مَكْرُوهٍ فَإِنَّمَا هُوَ عُقُوبَةٌ عَاجِلَةٌ، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَخْزَى، وَأَمَّا مَا يُصِيبُ عُصَاةَ الْمُؤْمِنِينَ فَعُقُوبَةٌ وَكَفَّارَةٌ، وَهُوَ فِي الْقِيَامَةِ بَيْنَ مَشِيئَةِ اللَّهِ إِنْ شَاءَ رَحِمَهُ وَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَأَمَّا مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ الْخَالِصَ مِنْهَا فَهُوَ تَطْهِيرٌ وَرِفْعَةٌ، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَلْقَى جَزَاءَ صَبْرِهِ عَلَى أَقْدَارِهِ وَامْتِثَالِهِ أَوَامِرَ رَبِّهِ وَاجْتِنَابِ مَحَاذِيرِهِ، ثُمَّ يُجْزَى الْجَزَاءَ الْأَوْفَى.

 

عِبَادَ اللَّهِ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَإِنْ كَانَ يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا عَلَى الْعِبَادِ فَإِنَّهُ لِمَنْ أَعَدَّ لَهُ الْعُدَّةَ مِنَ الصَّالِحَاتِ، وَاتَّقَى اللَّهَ وَرَاقَبَهُ، فَامْتَثَلَ الْأَمْرَ، وَأَحْسَنَ الْعَمَلَ، وَاجْتَنَبَ النَّهْيَ، وَجَانَبَ الزَّلَلَ؛ فَسَيَكُونُ يَوْمَ سَعَادَةٍ وَوَفَاءٍ وَكَرَامَةٍ وَرِضًى، وَمَظَاهِرُ السَّعَادَةِ فِيهِ كَثِيرَةٌ؛ مِنْهَا:

أَخْذُهُمْ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ؛ فَبَيْنَمَا الْخَلَائِقُ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ وَالْكُتُبُ تُوَزَّعُ؛ فَآخِذٌ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ وَآخِذٌ بِشِمَالِهِ؛ فَمَنْ أَخَذَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ لَكَ أَنْ تَتَخَيَّلَ كَمْ هِيَ الْفَرْحَةُ الْغَامِرَةُ الَّتِي تَكْتَنِفُهُ وَكَمِ السَّعَادَةُ الْأَبَدِيَّةُ الَّتِي تُرَافِقُهُ وَهُوَ يَصِيحُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ بَيْنَ الْجُمُوعِ: (هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ)[الْحَاقَّةِ: 19-20]؛ هَلْ عَلِمْتَ لِمَاذَا كُلُّ هَذَا الْفَرَحِ؟! لِأَنَّهُ يَعْلَمُ حِينَهَا يَقِينًا مَا الْكَرَامَةُ الَّتِي تَنْتَظِرُهُ؛ (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ)[الْحَاقَّةِ: 21-24].

 

جُلُوسُهُمْ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ؛ كُلُّ الْخَلَائِقِ قَدْ حُشِرُوا عَلَى أَرْضٍ جَرْدَاءَ غَبْرَاءَ لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا، وَالشَّمْسُ دَنَتْ مِنْهُمْ وَهُمْ يَتَصَبَّبُونَ عَرَقًا، قَدْ أَظْلَمَتْ عَلَيْهِمُ الدُّنْيَا وَبَلَغَتْ قُلُوبُهُمُ الْحَنَاجِرَ؛ لَكِنَّ صِنْفًا مِنَ الْعِبَادِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، اخْتَصَّهُمُ اللَّهُ -تَعَالَى- بِهَذِهِ الْمَكَانَةِ؛ رَوَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: "الْمُتَحَابُّونَ فِي جَلَالِي لَهُمْ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ، يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ"(الْأَلْبَانِيُّ).

 

وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-؛ "إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا"(مُسْلِمٌ).

 

الْمُسْتَظِلُّونَ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِ الرَّحْمَنِ؛ قَدْ جَاءَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ فِي خَلَاءٍ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ إِلَى نَفْسِهَا، قَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ"(الْبُخَارِيُّ).

 

وَمِمَّنْ خَصَّهُمُ اللَّهُ -تَعَالَى- أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْمُؤْمِنُونَ بِظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ؛ مَنْ أَمْهَلَ مُعْسِرًا فِي دَيْنٍ إِلَى حِينِ تَيْسِيرِهِ، أَوْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ فَأَعْفَاهُ عَنْ حَقِّهِ أَوْ جُزْءٍ مِنْهُ؛ مُمْتَثِلًا قَوْلَ الرَّبِّ -سُبْحَانَهُ-: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 280]، وَفِي حَدِيثِ أَبِي الْيُسْرِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُظِلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ - فَلْيُنْظِرْ مُعْسِرًا أَوْ لِيَضَعْ لَهُ"(الْأَلْبَانِيُّ).

 

النُّورُ التَّامُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ إِنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمٌ لَا نُورَ فِيهِ وَلَا ضِيَاءَ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ نُورِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِي أَصْحَابِهِ وَبِأَيْمَانِهِمْ؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ)[الْحَدِيدِ: 12].

 

وَفِي الْحَدِيثِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"(الْأَلْبَانِيُّ)، وَقَوْلُهُ: "إِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ"، وَقَوْلُهُ "مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَهْفِ كَانَتْ لَهُ نُورًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ..."(الْأَلْبَانِيُّ).

 

وَمِنْ حَدِيثِ كَعْبِ بْنِ مُرَّةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ شَابَ شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ"(الْأَلْبَانِيُّ)، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- "إِذَا رَمَيْتَ الْجِمَارَ كَانَ لَكَ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ"(الْأَلْبَانِيُّ).

 

اجْتِيَازُ الصِّرَاطِ بِسُرْعَةِ الْبَرْقِ؛ وَكُلُّ أَهْلِ الْمَحْشَرِ مَأْمُورُونَ بِالْمُرُورِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْتَازَ إِلَى الْجَنَّةِ إِلَّا مِنْ خِلَالِهِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ وَسَائِلُ نَقْلٍ بَرِّيَّةٌ وَلَا جَوِّيَّةٌ وَلَا بَحْرِيَّةٌ، وَوَسَائِلُ النَّقْلِ الْمُتَاحَةُ هُنَاكَ هِيَ الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ، وَعَلَى قَدْرِ سِبَاقِكَ فِي الطَّاعَاتِ يَكُونُ سُرْعَةُ مُرُورِكَ عَلَى الصِّرَاطِ؛ قَالَ تَعَالَى: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا)[مَرْيَمَ: 71] (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا)[مَرْيَمَ: 72].

 

وَرَغْمَ ظُلْمَةِ الصِّرَاطِ إِلَّا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ تَأْتِي طَاعَاتُهُمْ عَلَى هَيْئَةِ نُورٍ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ؛ قَالَ الْكَرِيمُ: (يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا)[التَّحْرِيمِ: 8].

 

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ الطَّوِيلِ الَّذِي فِيهِ يَقُولُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "فَيُعْطَوْنَ نُورَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، وَقَالَ: فَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَهُ مِثْلَ الْجَبَلِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَهُ فَوْقَ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَهُ مِثْلَ النَّخْلَةِ بِيَمِينِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطَى نُورَهُ دُونَ ذَلِكَ بِيَمِينِهِ، حَتَّى يَكُونَ آخِرُ مَنْ يُعْطِي نُورَهُ عَلَى إِبْهَامِ قَدَمِهِ، يُضِيءُ مَرَّةً، وَيُطْفَأُ مَرَّةً إِذَا أَضَاءَ قَدَمٌ قَدَّمَهُ، وَإِذَا أُطْفِئَ قَامَ".

 

فَاللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ يَا رَبِّ.

 

قُلْتُ مَا قُلْتُ لَكُمْ، وَلِي وَلَكُمْ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ سَعَادَةَ الْمَرْءِ فِي الْإِيمَانِ، وَوَعَدَ الْمُعْرِضَ عَنْهُ بِالشَّقَاءِ وَالْخُسْرَانِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: وَمِنْ مَظَاهِرِ سَعَادَةِ يَوْمِ الدِّينِ؛ تَحِيَّةُ الْمَلَائِكَةِ لِأَهْلِ الْجِنَانِ وَاسْتِقْبَالُهُمْ عَلَى أَبْوَابِهَا حِينَ يُزَفُّونَ إِلَيْهَا؛ فَمَا أَرْوَعَهُ مِنْ مَشْهَدٍ، وَالْمَلَائِكَةُ فِي انْتِظَارِكَ تَتَلَقَّاكَ بِالتَّحِيَّةِ وَتَسْتَقْبِلُكَ بِالسَّلَامِ؛ قَالَ سُبْحَانَهُ: (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 103]، وَقَوْلُهُ: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ)[الزُّمَرِ: 73].

 

وَمِنْ جَمَالِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَرَوْعَتِهِ أَلَّا يُخْزِيَكَ اللَّهُ فِي ذُرِّيَّتِكَ؛ فَتَرَى ذُرِّيَّتُكَ تَتْبَعُكَ يُشَارِكُونَكَ الْفَرْحَةَ وَالسَّعَادَةَ؛ قَالَ الْكَرِيمُ: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)[الطُّورِ: 21].

 

وَمِنْ رَوْعَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَبَهْجَتِهِ أَنْ تَكُونَ ضَيْفًا مُرَحَّبًا بِكَ وَمَرْغُوبًا فِيكَ، وَأَهْلُكَ مِنَ الزَّوْجَةِ وَالذُّرِّيَّةِ فِي دِيَارِ ضِيَافَةِ الرَّحْمَنِ، وَنِدَاءُ التَّرْحِيبِ وَالْإِكْرَامِ يَطْرُقُ أُذُنَيْكَ؛ (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ)[الزُّخْرُفِ: 70].

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: بَيْدَ أَنَّ الْجَمَالَ كُلَّهُ، وَالنَّضَارَةَ جُلَّهَا حِينَ يَكُونُ رَفِيقُكَ فِي دَارِ الْكَرَامَةِ؛ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَنُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-: (فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)[النِّسَاءِ: 69].

 

حِينَهَا سَتَتَذَكَّرُ مَا كُنْتَ تَتْلُوهُ فِي الدُّنْيَا؛ (أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ)[الْقَصَصِ: 61].

 

أَلَا هَلْ مِنْ مُشَمِّرٍ لِمَكْرُمَاتِ ذَلِكَ الْيَوْمِ؟! وَهَلْ مِنْ مُسْتَعِدٍّ لِفَضْلِهِ وَمُتَعِهِ؟! وَهَلْ مِنْ مُتَّقٍ هَوْلَهُ وَمَخَاوِفَهُ؟!

 

أَلَا فَلْتَسْتَعِدُّوا لِحَيَاةٍ سَرْمَدِيَّةٍ سَعِيدَةٍ فِي جَنَّةٍ فِيهَا مِنَ النَّعِيمِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ.

 

رَزَقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ وَوَالِدِينَا وَوَالِدِيكُمْ وَالْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ الْفِرْدَوْسَ الْأَعْلَى بِرُفْقَةِ حَبِيبِنَا وَرَسُولِنَا مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

 

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ عِيشَةً هَنِيَّةً، وَمِيتَةً سَوِيَّةً، وَمَرَدًّا يَوْمَ لِقَاكَ غَيْرَ مُخْزٍ وَلَا فَاضِحٍ.

 

اللَّهُمَّ يَمِّنْ كِتَابَنَا، وَيَسِّرْ حِسَابَنَا، وَسَهِّلْ عَلَى الصِّرَاطِ مُرُورَنَا.

 

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ رِضَاكَ وَالْجَنَّةَ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ سَخَطِكَ وَالنَّارِ.

 

اللَّهُمَّ وَلِّ عَلَيْنَا خِيَارَنَا، وَلَا تُوَلِّ عَلَيْنَا شِرَارَنَا، وَاجْعَلْ وِلَايَتَنَا فِيمَنْ خَافَكَ وَاتَّقَاكَ وَاتَّبَعَ رِضَاكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ وُلَاةَ أُمُورِنَا، وَأَيِّدْ بِالْحَقِّ وَالْهُدَى إِمَامَنَا وَوَلِيَّ أَمْرِنَا.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ، وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

المرفقات
Y99xZRjHof4ZzRADKj3qSbJftrAsBX2kl3O8hs1m.doc
qnFBpEW8fviHMkpBqujm9Pw3mumyg2rT7ctFGUmK.pdf
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life