عناصر الخطبة
1/الولادة الحقيقية 2/مقارنة بين ولادة البطن وولادة القلب 3/من معينات ولادة القلوب 4/أنواع القلوب من حيث الولادة وعدمها

اقتباس

مَنْ اسْتَجَابَ لِرَبِّ البَرِيَّةِ، وَسَيِّدِ البَشَرِيَّةِ أَنْشَأَهُ اللهُ خَلْقًا آخَر، وَوُلِدَ قَلْبُهُ مِيْلَادًا جَدِيْدًا، وَانْفَصَلَ عَنْ مَشِيمَةِ طَبْعِهِ، وَتَحَرَّرَ مِنْ سِجْنِ الشَّهَوَاتِ، وَتَخَلَّصَ مِنْ أَسْرِ الشُّبُهَاتِ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ ونَتُوبُ إِلَيه، مَنْ يَهْدِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فأُوْصِيْكُمْ وَنَفْسِي بَالصَّبْرِ والتَّقْوَى؛ فَهُمَا مَصْدَرُ العَزَائِمِ، وَبِهِمَا تُنَالُ العَظَائِم (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)[آل عمران:186].

 

عِبَادَ الله: إِنَّهَا الحَيَاةُ الحَقِيْقِيَّةُ والنَّشْأَةُ الأَصْلِيَّةُ؛ يُوْلَدُ بِهَا الإِنْسَانُ مِنْ رَحِمِ الضِّيْقِ والحَسْرَة إلى النَّعِيْمِ وَالبَهْجَة؛ إِنَّهَا وِلَادَةُ القَلْب.

 

قال شَيْخَ الْإِسْلَامِ: “هِيَ وِلَادَةُ الْأَرْوَاحِ والْقُلُوبِ مِنَ الْأَبْدَانِ، وَخُرُوجُهَا مِنْ عَالَمِ الطَّبِيعَةِ: كَمَا وُلِدَتِ الْأَبْدَانُ مِنَ الْبَدَنِ، وَخَرَجَتْ مِنْهُ”.

 

والجَنِيْنُ مُحَاطٌ بِظُلُمَاتٍ ثَلاث: ظُلْمَةِ الْبَطْنِ والرَّحِمِ والمَشِيْمَة، قال عز وجل: (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاث)[الزمر: 6]. وَكَذَلِكَ القَلْب مُحَاطٌ بِظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ، لا بُدَّ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا، وَإِلَّا بَقِيَ مَحْبُوْسًا مَحْصُوْرًا، قالَ ابْنُ القَيِّم: “هِيَ: ظُلْمَةُ النَّفْسِ والطَّبْعِ والهَوَى فَلَا بُدَّ مِنَ الوِلَادَةِ مَرَّتَيْن؛ فَمَنْ لَمْ تُوْلَدْ رُوْحُهُ وَقَلْبُهُ، وَيَخْرُجُ مِنْ مَشِيْمَةِ نَفْسِهِ، وَظُلُمَاتِ طَبْعِهِ؛ فَهُوَ كالجَنِيْنِ الَّذِي لَمْ يَرَ الدُّنْيَا، وَكَمَا كانَ بَطْنُ أُمِّهِ حِجَاباً لِجِسْمِهِ عَنْ الدنيا؛ فَهَكَذَا نَفْسُهُ وَهَوَاه؛ حِجَابٌ لِقَلْبِهِ عَن الآخِرَة”.

 

وَأَعْظَمُ الوِلادَةِ أَنْ يَخْرُجَ الإِنْسَانُ مِنْ رَحِمِ الكُفْرِ والعِصْيَان إلى نُوْرِ الإِسْلَامِ والإِيْمَان، وَلَوْ كُشِفَ حِجَابُ الغَفْلَةِ عَنْ قُلُوْبِ أَكْثَرِ النَّاسِ لَعَلِمُوا أَنَّهُمْ لَمْ يُوْلَدُوا بَعْد، (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)[الْبَقَرَةِ: 257].

 

وَلَمَّا كَانَتْ وِلادَةُ القَلْبِ بِسَبَبِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم كَانَ كَالْأَبِ لِلْمُؤْمِنِينَ (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)[الأحزَاب: 6]. قالَ بْعْضُ المُفَسِّرِين: “وَتَفَرَّعَ على هَذِهِ الأُبُوَّةِ؛ أَنْ جُعِلَتْ أَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُ المُؤْمِنِين، فَإِنَّ قُلُوْبَهُمْ وُلِدَتْ بِهِ وِلَادَةٌ أُخْرَى؛ فَأَخْرَجَهَا مِنْ ظُلُمَاتِ الجَهْلِ والضَّلَالِ، إِلى نُوْرِ العِلْمِ والإِيْمَانِ”.

 

وَالعُلَمَاءُ وَرَثَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: فَهُمْ يُخْرِجُوْنَ النَّاسَ مِنْ بُطُوْنِ الجَهَالَةِ، وَيُشْرِفُوْنَ على تِلْكَ الوِلَادَة؛ فالشَّيْخُ وَالْمُعَلِّمُ وَالْمُؤَدِّبُ: أَبُ الرُّوحِ. وَالْوَالِدُ: أَبُ الْجِسْمِ.

 

مَنْ عَلَّمَ النَّاسَ كَانَ خَيْرَ أَبٍ *** ذَاكَ أَبُو الرُّوحِ لَا أَبُو النُّطَفِ

 

وَتَدَبُّرُ القُرْآن، يُوْلَدُ بِهِ الإِنْسَانُ، مِنْ ظُلُمَاتِ الضَّلَالَة، إلى نُوْرِ الهِدَايَة، قال جل جلاله: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ)[إبراهيم:1].

 

وَلِلذِّكْرِ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي حَيَاةِ القَلْبِ، وَوِلَادَةِ الرُّوْح، قالَ ابنُ القَيِّم: “وَصَدَأُ القَلْبِ بِأَمْرَيْن: بالغَفْلَةِ والذَّنْب. وجِلَاؤُهُ بِشَيْئَين: بالاسْتِغْفَارِ، والذِّكْر”.

 

وَالفِتَنُ تُحِيْطُ بِالقَلْبِ إِحَاطَةَ البَطْنِ بِالجَنِيْنِ؛ وَتَحُوْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وِلَادَتِهِ؛ فَاحْذَرْ أَنْ تُصْغِي إلى شُبْهَةٍ، أو تَتَعَرَّضَ لِشَهْوَةٍ؛ فَالذُّنُوبُ تَحْبِسُ القُلُوبِ؛ كَمَا قالَ جل جلاله: (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ)[البقرة:81] ، وقال صلى الله عليه وسلم: “تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ: كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا؛ فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ”(رواه مسلم). قالَ ابْنُ الجَوْزِيّ: “قَوْلُهُ: كَالحَصِيْر: يَعْنِي أَن الْفِتَنَ تُحِيْطُ بِالقُلُوْبِ؛ فَتَصِيْر الْقُلُوبُ كَالمَحْصُوْرِ الْمَحْبُوْس”.

 

والقُلُوْبُ ثَلاثَةُ أَقْسَام:

الأَوَّلُ: قَلْبٌ لَمْ يُوْلَدْ بَعْد: فَهُوَ جَنِيْنٌ في بَطْنِ الكُفْرِ والعِصْيَان. وَهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)[يوسف:103].

 

الثَّانِي: قَلْبٌ قَدْ وُلِدَ، وَخَرَجَ إِلَى فَضَاءِ الإِيْمَانِ، ومَعْرِفَةِ الرَّحْمَن

 

الثَّالِث: قَلْبٌ يَنْتَظِرُ الوِلَادَةَ، وَلَكِنْها تَعَسَّرَتْ؛ لِغَلَبَةِ النَّفْسِ والهَوَى والشَّيْطَان؛ فَإِذَا جَاهَدَ هَذِهِ الثَّلاثَةِ؛ تَيَسَّرَتْ وِلَادَتُهُ، وَإِلَّا بَقِيَ في بَطْنِ الظُّلُمَات (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا)[الأنعام: 122].

 

والتَّوْبَةُ النَّصُوْحُ: تُسَهِّلُ وِلَادَةَ القُلُوْبِ، وَتَغْسِلُهَا مِنْ دِمَاءِ الذُّنُوْب؛ فَكَمَا أَنَّ النَّجَاسةَ الحِسِّيَّةَ تَزُوْلُ بالماءِ؛ فَكذلك النَجَاسَة المَعْنَوِيّة: تَزُولُ بِماءِ التَّوْبَةِ (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)[البقرة: 222].

 

وَإِذَا وُلِدَتْ القُلُوْبُ، وَخَرَجَتْ مِنْ بَطْنِ الذُّنُوْبِ، وتَابَتْ إِلَى عَلَّامِ الغُيُوْبِ تَنَفَّسَتِ الرَّاحَة، وَخَرَجَتْ إلى السَّعَادَةِ، قال عز وجل: (إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ)[الإنفطار:13-14]. قال بَعْضُهُمْ: “وَلَا تَحْسَبُ أَنَّ هذا مَقْصُورٌ عَلَى نَعِيمِ الْآخِرَةِ وَجَحِيمِهَا فَقَط؛ بَلْ فِي دُورِهِمُ الثَّلَاثَةِ كَذَلِكَ؛ وَهَلِ النَّعِيمُ إِلَّا نَعِيمُ الْقَلْبِ؟ وَهَلِ الْعَذَابُ إِلَّا عَذَابُ الْقَلْبِ؟”.

 

أَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا، وَاسْتَغْفِرُ اللهَ لِيْ وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوْهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم

 

 

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِه، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيْقِهِ وَامْتِنَانِه، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا الله، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُه.

 

عِبَادَ الله: مَنْ اسْتَجَابَ لِرَبِّ البَرِيَّةِ، وَسَيِّدِ البَشَرِيَّةِ أَنْشَأَهُ اللهُ خَلْقًا آخَر، وَوُلِدَ قَلْبُهُ مِيْلَادًا جَدِيْدًا، وَانْفَصَلَ عَنْ مَشِيمَةِ طَبْعِهِ، وَتَحَرَّرَ مِنْ سِجْنِ الشَّهَوَاتِ، وَتَخَلَّصَ مِنْ أَسْرِ الشُّبُهَاتِ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)[الحديد:16].

 

وَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا فَسَيَعُوْدُ إِلَى بَطْنِ أُمِّهِ الهَاوِيَة (وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ)[الْقَارِعَةِ: 10-11].

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمُسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمُشْرِكِيْن.

 

اللَّهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ المَهْمُوْمِيْنَ، وَنَفِّسْ كَرْبَ المَكْرُوْبِين.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا في أَوْطَانِنَا، وأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُوْرِنَا، وَوَفِّقْ وَلِيَّ أَمْرِنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لما تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَاصِيَتِهِمَا لِلْبِرِّ والتَّقْوَى.

 

عِبَادَ الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90].

 

فَاذْكُرُوا اللهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوْهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life