وكن من الساجدين

ناصر بن محمد الأحمد

2011-02-23 - 1432/03/20
عناصر الخطبة
1/ مكانة السجود عند الله تعالى 2/ معانٍ روحية في السجود 3/ السجود وإزالته للهموم 4/ السجود سلاح المؤمنين 5/ عقوبة الإعراض عن السجود
اهداف الخطبة

اقتباس

تتجلى عظمة ربنا -جل جلاله- يوم القيامة أيما تجلٍّ، فكلٌ أتوه داخرين، وثلاشت قوة كل قوي من العظماء والملوك والسلاطين، واجتمع الخلق كلهم في صعيد واحد، لا تخفى منهم خافية، وكلُّ أمة جاثية، تقطعت بهم الأسباب، فلا خلة بينهم ولا أنساب، فخشعت أصواتهم، وخضعت أعناقهم، وتقطع بينُهم، وتعاظم كربهم، وعظمت مصيبتهم، وطال انتظارهم للحكم فيهم، وتقرير مصيرهم ..

 

 

 

 

إن الحمد لله...

أما بعد:

أيها المسلمون: إن تقوى الله تعالى ملاك كل خير، وهي الزاد لمن جد به إلى الآخرة السير، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، ولباس التقوى ذلك خير.

أيها المسلمون: تتجلى عظمة ربنا -جل جلاله- يوم القيامة أيما تجلٍّ، فكلٌ أتوه داخرين، وثلاشت قوة كل قوي من العظماء والملوك والسلاطين، واجتمع الخلق كلهم في صعيد واحد، لا تخفى منهم خافية، وكلُّ أمة جاثية، تقطعت بهم الأسباب، فلا خلة بينهم ولا أنساب، فخشعت أصواتهم، وخضعت أعناقهم، وتقطع بينُهم، وتعاظم كربهم، وعظمت مصيبتهم، وطال انتظارهم للحكم فيهم، وتقرير مصيرهم، فهرعوا يستشفعون، وعند أبيهم للخلاص يطلبون؛ فاعتذر الأب بأنه هو الذي أخرجهم، وهو سبب ما حل بهم، وأشار عليهم بابنه نوح؛ فاعتذر، وأشار عليهم بالخليل؛ فاعتذر، وأشار عليهم بالكليم؛ فاعتذر، وأشار عليهم بالروح؛ فاعتذر، وكان أولئك الرهط من الأصفياء الأتقياء يقولون مقولة واحدة: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله.

ثم إن عيسى -عليه السلام- أشار على أهل الموقف بسيد الأنبياء، وقدوة الأتقياء، وتاج الأخلاء، محمد -صلى الله عليه وسلم-، فانبرى للشفاعة، بثقة المحب، وطمع المحبوب، لا يغيب عن ذهنه غضب الرحمن، الذي أخاف من شدته من سجدت له الملائكة تكريمًا، وأحجم الموصوف بأنه كان عبدًا شكورًا، وتخلى الأواه المنيب، واتخذه الله خليلاً، وعجز عنها من سأل الرؤية، وكلمه الله تكليمًا، ولم يستطعها روح الله وكلمته، ومعجزته وآيته، فلقد كان الموقف شديدًا عظيمًا.

نعم؛ كان في ذهن الحبيب تخلي الصفوة من الخليقة عن الشفاعة، وكان في ذهنه سبب ذلك التخلي، وهو شدة غضب الرحمن، فإذا غضب الرحمن فأين تذهبون؟! وإذا غضب الرحمن، فبمن تلوذون؟! فكان من المحتم أن يطفئ غضب الرحمن، فكيف يطفئه؟! ولقد علم -صلى الله عليه وسلم- أن الرحمن جبار متكبر عزيز، فألهمه الله إلى ما يطفئ غضب مَنْ هذه صفاته -تقدست صفاته- وهو كمال الذل والخضوع، فخرّ لله ساجدًا، يسبح بحمده ويثني عليه، ويمجده، ويسأله ويطلبه، وهو الذي أنزل إليه في كتابه الذي بلّغه: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) [العلق: 19]، فاقترب من ربه متمثلاً ما أخبر به هو عن ربه بقوله: "أَقرب ما يكون العبد من ربه -عز وجل- وهو ساجد".

فلما مرغ أنفه بذلة السجود للمتكبر، وذلة الخضوع للعزيز، قيل له: ارفع رأسك، وقل يُسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع.

أيها المسلمون: بسجدة واحدة ومحامد وثناء انتهت تلك الأعوام الطويلة من الانتظار، وحكم بين العباد، وسيق أهل الجنة للجنة، وأهل النار إلى النار، وهذا في آخر المطاف، بعد أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، ولا عجب ممن كان السجود ديدنه، وجعلت قرة عينه في الصلاة، وهي الصلة بين العبد وربه، ويقرب العبد من ربه أقرب ما يكون إذا سجد له، يسأل العبد ربه بعد أن أدناه منه، فيستجيب الرب لدعاء العبد ويعطيه ما يتمناه، أفلا نستجلب رحمة ربنا بالسجود؟! أفلا نستمطر عفوه بالسجود؟! أفلا ندفع بلاء أمتنا، وننهي مصائبها بالسجود له تعظيمًا وتكبيرًا؟!

أيها المسلمون: للسجود شأن عظيم، يعرفه من تلذذ به، وملكت ذلته شغاف قلبه، وذاق طعم الخضوع به للرحمن، تعبدًا وإجلالاً، فالتحق بالركب من أولي العلم الممدوحين في كتاب الله تعالى بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً) [الإسراء: 107]، ومتأسيًا بركب عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا، ويبيتون لربهم سجدًا وقيامًا، فيسألونه صرف عذاب جهنم عنهم بالسجود والقرآن، لما عرفوا قيمته، وأدركوا أهميته وذاقوا حلاوته، تمثل فيهم قول مولاهم: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) [الزمر: 9]. وهذه الآية من العجائب، فقد عبر بالقنوت إشارة إلى الإخلاص والتجرد، وذكر وقته -وهو الليل- دليلاً على أفضليته، ودليلاً على إخلاصه، والقنوت يشمل القيام والدعاء والإطالة فيهما، ثم قدم السجود على القيام، مع أن السجود لا يكون إلا بعد قيام؛ لأنه غايته، ولبيان شدة القرب من مولاه لما تجرد له وأخلص، فكأنه دنا واقترب، فعرفه فقام بما تقتضيه العبادة من خوف ورجاء.

وهو في سجوده يعلم يقينًا أنه يزداد بهذا السجود عزًّا، وينال به الحصانة من الشياطين التي تؤز الكافرين أزًّا.

وهو في سجوده يتذكر قول إبليس لعنه الله، وأعاذنا وذريتنا منه: "أُمِر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار". أخرجه مسلم.

أيها الساجدون: كيف يأبى السجود من علم فضله وثوابه، ومنـزلته عند ربه، فعن معدان بن أبي طلحة قال: لقيت ثوبان مولى رسول الله -صلى الله علي وسلم- فقلت: أخبرني بعمل يدخلني به الله الجنة، أو قال: قلت: بأحب الأعمال إلى الله تعالى، فسكت، ثم سألته فسكت، ثم سألته الثالثة، فقال: سألت عن ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "عليك بكثرة السجود؛ فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة". رواه مسلم. وعن ربيعة بن كعب -رضي الله عنه- قال: كنت أبيت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأتيته بوَضوئه وحاجته، فقال لي: "سلني". فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة. قال: "أوَ غير ذلك؟"، قلت: هو ذاك. قال: "فأعني على نفسك بكثرة السجود". رواه مسلم. وعن حذيفة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من حالة يكون العبد عليها أحب إلى الله من أن يراه ساجدًا يعفر وجهه في التراب". رواه الطبراني بإسناده حسن.

فأين من أراد الرفعة، وطلب المحبة، يعفّر وجهه في التراب إرضاءً لربه، وطاعة لمولاه، وتذللاً بين يديه، ورغبة فيما عنده، وطمعًا في جنته ومرضاته.

أيها الساجدون: السجود أصله التذلل، وهو عام في جميع المخلوقات حيوانها وجمادها، لكن ما عدا الثقلين لا يسجد باختياره، بل يسجد لله كرهًا ويسجد بعض الناس لله طوعًا، كما أخبر سبحانه عن ذلك فقال: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ) [الرعد: 15]، فالسجود سمة من سمات الخلق جبلوا عليه، ذلة وصغارًا للواحد القهار: (أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ) [الحج: 18].

ولا يغب عن ذهنك -أخي الحبيب- ختام هذه الآية: (وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) [الحج: 18]؛ فالهوان كل الهوان في ترك السجود، والعز كل العز في السجود، فتأمل حالة الأمة وذلتها بناءً على هذه الآية يستبن لك السبب جليًّا، واربط ذلك مع من ذكرهم الله تعالى في سورة مريم، مثنيًا ومادحًا، لنتأسى بهم، ونقتبس من نورهم، فقال في ختام ذكرهم: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا) [مريم: 58]، أعد: (وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً)، وانظر إلى خَلَفِهم وتأمل ما أضاعوه، وما اتبعوه، وما هي نتيجة ذلك، (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) [مريم: 59]، فلا والله لا تهتدي الأمة إلا بما اهتدت به الرسل، وبما فعلته من السجود والبكاء.

معاشر الساجدين: إذا ضاقت صدوركم، وكثرت همومكم، وتكالبت عليكم أعداؤكم، فدونكم العلاج فتناولوه، وبين يديكم الدواء فاستعملوه: (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ) [الحجر: 97، 98]، ولهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.

وخذ بالسجود -أيها الكريم- لتتقوى به على مكر الأعادي وبطش الحاقدين، وتواجه به قوة الجبابرة، فهذا هو سلاح السحرة حين تبين لهم الحق: (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى) [طه: 70]، فتوعدهم اللعين بالقتل والصلب والعذاب الشديد، ولكن الإيمان قد رسخ في القلوب، ومن ذلت جبهته لرب العالمين أكرمه الله برفعة هامته، وتثبيته على الحق، ونيل كرامته، فقالوا له بكل رسوخ ووضوح: (اقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) [طه: 72].

فيا فوز المعفرين جباههم سجدًا لله وهم داخرون، يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون، يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون، فكان متمثلاً بالملائكة المقربين، والأنبياء والمرسلين، لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون، فما طأطأ جبينه أبدًا إلا للواحد الأحد، فلا والله لا يدخل قلبه خوف ممن سواه، أو رجاء فيما سواه: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً) [الجن: 18].

أيها المسلمون: بأثر السجود مدح الله صحابة نبيه ومصطفاه -صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم وأرضاهم أجمعين-: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) [الفتح: 29]، وإنما طهر البيت الحرام للطائفين والعاكفين والركع السجود، الذين لا يستكبرون، ولعظمته يخضعون، وبآياته يؤمنون، وبه لا يشركون: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) [السجدة: 15]، فحق لهم أن ينتظموا في سلك البائعين نفوسهم وأموالهم لله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ) [التوبة: 111]، والمؤمنون في هذه الآية، الذين هم أهل البيعة، هم الموصوفون في الآية التي بعدها: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ) [التوبة: 112].

فيا أيها المسلم: كن في سلك الساجدين، وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين، واحذر طريق الهالكين، الكافرين المعاندين، الذين (إِذَا قِيلَ لَهُمْ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً) [الفرقان: 60]، فهم لا يؤمنون، وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون.

ولكن الزم غرز الفائزين المستجيبين لأمر ربهم، الخاضعين لهيبته، الطائعين لأمره حين أمرهم فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الحج: 77]، وقال تعالى: (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) [النجم: 62].

واعلموا أنكم في ركب النجاة سائرون، ومن ربكم -جل جلاله- مقرّبون، وبالعز والسؤدد مرفوعون، واقتدِ بالملائكة التي امتثلت أمر ربها بالسجود لآدم فسجدوا، وأبى إبليس أن يكون مع الساجدين فقال له: (فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) [الحجر: 34، 35]، فكان إبليس للمتكبرين عن السجود إمامًا، ويوم القيامة في النار لهم قرينًا.

وتعجب من طائر لا يعقل مثل ما يعقل المعرضون، يأتي سليمان فيقول له: (أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ) [النمل: 22- 25]، وكرِر سؤال الهدد وتعجبه على نفسك مرارًا، وأعده ليلاً ونهارًا، (أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ).


بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي أكرم جباهنا بالسجود لعظمته، ونور قلوبنا بالإيمان به وبمعرفته، وأرغم أنوفنا بالرضا بقدره والتسليم لحكمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المتفرد في أسمائه وصفاته، وإلهيته وربوبيته، شهادة أرجو بها نيل مرضاته، والنظر إلى وجهه، والفوز بالدرجات العلى من جنته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، شهادة مصدقٍ بِه، متبع لسنته، راجٍ شربة هنية من حوضه، ودخولاً في شفاعته، صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وصحابته، ومن سلك سبيلهم، واتبع نهجهم، والصالحين من أمته، وسلم تسليمًا مزيدًا.

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وتمسكوا بحبله المتين، وتقربوا إليه بالسجود له، تنالوا حظًّا وافرًا من خيري الدنيا والآخرة؛ فقد أخرج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن بسر المازني، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ما من أمتي إلا أنا أعرفه يوم القيامة". قالوا: وكيف تعرفهم يا رسول الله في كثرة الخلائق؟! قال: "أرأيت لو دخلت صُبرة فيها خيل دُهم بُهم، وفيها فرس أغر محجل، أما كنت تعرفه منها؟!"، قال: بلى. قال: "فإن أمتي يومئذ غر من السجود، محجلون من الوضوء".

فكن -يا عبد الله- من هؤلاء تفلح، ولا تكن من الخاسرين الذين كانوا يُدعون إلى السجود فلا يستطيعون؛ فإنه في يوم القيامة ينادي منادٍ: ليذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون، فيذهب أصحاب الصليب مع صليبهم، وأصحاب الأوثان مع أوثانهم، وأصحاب كل آلهة مع آلهتهم، حتى يبقى من كان يعبد الله من بر وفاجر، وغُبرات من أهل الكتاب، ثم يؤتى بجهنم تعرض كأنها سراب، فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون؟! قالوا: كنا نعبد عزيرًا ابنَ الله، فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟! قالوا: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون في جهنم، ثم يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟! فيقولون: كنا نعبد المسيح ابنَ الله، فيقال: كذبتم، لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟! قالوا: نريد أن تسقينا، فقال: اشربوا، فيتساقطون، حتى يبقى من كان يعبد الله، من بر أو فاجر، فيقال لهم: ما يحبسكم وقد ذهب الناس؟! فيقولون: فارقناهم ونحن أحوج منا إليه اليوم، وإنا سمعنا مناديا ينادي: ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، وإنما ننتظر ربنا، قال: فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة، فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا، فلا يكلمه إلا الأنبياء، فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه، فيقولون: الساق، فيكشف عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن، ويبقى من كان يسجد لله رياءً وسمعة، فيذهب كيما يسجد، فيعود ظهره طبقًا واحدًا. أخرجه البخاري في صحيحه.

فيا عبد الله: أنت اليوم مدعو للسجود وهو أمر ممكن، فعليك به قبل أن تُدعى إليه فلا يمكنك: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ) [القلم: 42، 43].

ومن لم يستطع سجودًا في الدنيا خلده الله في نار جهنم والعياذ بالله، ففي الصحيح عنه -صلى الله عليه وسلم- في حديث الشفاعة الطويل: حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد، وأراد أن يُخرج برحمته من أراد من أهل النار، أمر الملائكة أن يُخرجوا من النار من كان لا يشرك به شيئًا، ممن أراد الله أن يرحمه ممن يشهد أن لا إله إلا الله، فيعرفونهم في النار بأثر السجود، تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود، حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود. الحديث.

فيا عبد الرحمن: كن من الساجدين للرحمن، ويا عبد الله: كن من الساجدين لله، فلله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون، والنجم والشجر يسجدان، (وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * وَمِنْ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً) [الإنسان: 25، 26].

وصلوا على المختار نبيًا ورسولاً، وصفيًا وخليلاً...
 

 

  

 

المرفقات
وكن من الساجدين.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life