عناصر الخطبة
1/ استخلاف الإنسان في الحياة 2/ عمارة الإنسان للحياة الدنيوية والدينية 3/ مشروعية استمرار العبادة حتى الموت 4/ حث الإسلام على المبادرة بالعمل عند قيام الساعة 5/ تحذير الإسلام من اليأس والإحباط 6/ إباحة الإسلام للحزن عند المصيبة وضوابط ذلك 7/ تشجيع الإسلام وتحفيزه على الثبات عند المصائب والأزمات 8/ عدم الاستسلام للكوارث والمصائب وكيفية التعامل معها ومقاومتهااهداف الخطبة
اقتباس
أيها الأحباب الكرام: إن المسلم له وظيفة لا تنقطع، ولا ينبغي أن يتوقف عنها، ما دام في صدرك نفس يتردد، ما دام بين جنبيك قلب ينبض، فإنه مطلوب منك أن تعمل، مهما كان وضع الإنسان، مهما كان حاله، مهما كانت وظيفته، مهما كانت قوته، فكل واحد له...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد:
أيها المسلمون -عباد الله-: لما خلق الله -سبحانه وتعالى- آدم -عليه السلام- نادى في الملائكة، وقال: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة: 30]، ويعني به آدم وذريته، فهم خلفاء الأرض، الإنسان خليفة خلف من قبله ممن سبقوه في الحياة على هذه الأرض، وهو خليفة يخلف بعضه بعضا في ميراث هذه الحياة إلى أن تقوم الساعة، ويرث الله الأرض ومن عليها.
وقد جعله الله -سبحانه وتعالى- عامر هذه الأرض؛ كما قال صالح -عليه السلام: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود: 61]، أي جعلكم عمارا لها تبنونها، وتستغلونها، وتستفيدون منها، وهذه هي وظيفة الإنسان في هذه الحياة، أن يعمر هذه الأرض يعمرها أولا بالإيمان، يعمرها بالتوحيد، يعمرها بطاعة الله وعبادته، يعمرها بذكر الله، وإقامة شعائر الدين، يعمرها بالامتثال لمقصود الرب -تبارك وتعالى- في هذه الحياة.
وكذلك يعمرها بإحيائها ببنائها وتشيدها، باكتشاف مجهولها واختراع، وصنع ما ينفعه، وينفع غيره من الخلق، وكلا العمارتين مهم وضروري، وأهمهما أولهما؛ كما قال الله -سبحانه وتعالى-: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [التوبة: 19].
وهذه الوظيفة -أيها الأحباب- وظيفة دائمة مستمرة لا تنتهي إلا بموت الإنسان وفراقه لهذه الدنيا، أو بفناء هذه الدنيا عند قيام الساعة، ففي جانب العمارة الدينية، يقول ربنا -تبارك وتعالى-: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99]، أي حتى يأتيك الموت.
يقول الحسن البصري -رحمه الله-: "لا يكون لعمل المؤمن أجل دون الموت" أي ليس لعمله وعبادته انتهاء إلا بالموت، ثم قرأ قول الله -تبارك وتعالى-: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99].
ولا تسقط التكاليف الشرعية عن الإنسان إلا بموت حقيقي، أو بموت حكمي بجنون أو بزوال العقل، وما عدا ذلك فإن الأحكام الشرعية لازمة له في كل حال وفي كل وقت، هناك أحكام لا بد له من القيام بها، ففي حال الصحة هناك أحكام، وفي حال المرض هناك أحكام، في حال الشدة والبلاء هناك أحكام، وفي حال الأمن والرخاء هناك أحكام، في حال الإقامة هناك أحكام، وفي حال السفر هناك أحكام، فلا يزال الإنسان يتقلب ويدور مع أحكام الله -تبارك وتعالى-، حتى في سكرات الموت هناك أحكاما ينبغي له أن يقوم بها، ينبغي أن يصبر ويتحمل ويحتسب، وأن يحسن الظن بالله -تبارك وتعالى-، وأن يقول: لا إله إلا الله، فيختم له بها، ومن كان آخر كلامه من الدنيا: "لا إله إلا الله" دخل الجنة.
فعمل الإنسان مستمر إلى آخر هذه اللحظات، وما أجمل ذلك الموقف الذي سطره ذلك الإمام العلامة ابن جرير الطبري -رحمه الله- وهو على فراش الموت قبل موته بساعة واحدة، يدخل عليه الزائر، فيذكر له مسألة علمية، فينادي ابن جرير بمحبرة وصحيفة ليكتب هذه الفائدة، فيقال له: أفي هذا الحال في هذا الوقت وأنت على فراش الموت تكتب العلم؟ فقال رحمه الله: "ينبغي للإنسان ألا يدع اقتباس العلم حتى يموت"، من المهد إلى اللحد، لا ينبغي أن يتوقف حتى لو كان في سكرات الموت.
وهذا أبو الريحان الخوارزمي يدخل عليه فقيه وهو في سكرات الموت، فيذكر له مسألة فقهية في المواريث، فيطلب منه أبو الريحان أن يعيدها عليه فيحفظها، فيقول له: في هذه الحالة؟ في هذا الوقت؟ فيقول أبو الريحان: "يا هذا! يا فلان! أدع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة ألا يكون خيرا من أن أخليها وأنا جاهل بها؟!"، فأملى عليه المسألة، فحفظها فما إن خرج هذا الفقيه من عنده، إلا وسمع صراخ أهل البيت: قد مات أبو الريحان -رحمه الله-!
هذه هي الهمة، وهذا هو الذي ينبغي أن يكون عليه حال المؤمن عمل دائب مستمر، لا ينقطع حتى يلقى الله -تبارك وتعالى-.
وكذلك أيضا -أيها الأحباب- في عمارة الدنيا بإحيائها بغرسها وبنائها وتشيدها لا ينتهي هذا، ولا ينقطع إلا بفناء الدنيا، أو موت الإنسان، واسمعوا لهذا الحديث الغريب الذي يأمرنا فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- بأمر يثير الدهشة والعجب.
في مسند الإمام أحمد -رحمه الله- من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه وأرضاه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إذا قامت الساعة" لاحظ: "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة" أي نبتة صغيرة "فإن استطاع ألا تقوم" أي لا تقوم الساعة "حتى يغرسها فليفعل".
سبحان الله! نبتة صغيرة كم تحتاج إلى أن تكبر وتنمو لينتفع الناس بها؟ الساعة الآن تقوم القيامة تقوم والناس سيمتون خلال لحظات! والأرض ستفنى وتذهب! ومع ذلك يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- فليغرسها.
لا تترك العمل حتى في هذه اللحظات، فليس المهم أن ترى هذه النبتة قد كبرت، ليس المهم أن ترى ثمرتها وفائدتها، إنما المهم أن تقوم بوظيفتك أن تؤدي رسالتك في هذه الحياة، فلا تخرج من هذه الدنيا إلا وقد قمت بها حق القيام.
أيها الأحباب الكرام: إن المسلم له وظيفة لا تنقطع، ولا ينبغي أن يتوقف عنها ما دام في صدرك نفس يتردد، ما دام بين جنبيك قلب ينبض، ما دام في جسدك روح، فإنه مطلوب منك أن تعمل، مهما كان وضع الإنسان، مهما كان حاله، مهما كانت وظيفته، مهما كانت قوته، فكل واحد له وظيفة بحسبه، مطلوب منه أن يقوم بها، وأن يؤديها، لا مجال للانقطاع، لا مجال لليأس والإحباط، بل لا بد من الاستمرار والدوام على العمل.
وانظروا -أيها الأحباب- إلى عظمة الإسلام كيف أنه لم ينفر من اليأس والإحباط وحسب، بل جعله إثما، بل عده كبيرة من الكبائر، ربنا -تبارك وتعالى- يقول: (إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف: 87].
ابن مسعود -رضي الله عنه وأرضاه-؛ كما روى عنه البيهقي في "شعب الإيمان" يقول: "الكبائر؛ الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله" هذه من الكبائر العظيمة لماذا؟
لأن اليأس يضعف العزيمة؛ لأن اليأس يقعد بالإنسان عن العمل؛ لأن اليأس يقطعه عن المضي والاستمرار في هذه الحياة، فلهذا نهت الشريعة نهيا شديدا عن اليأس والإحباط.
وانظروا إلى جانب آخر أيضا من جوانب عظمة هذا الدين، أباح للإنسان أن يحزن إذا أصابته مصيبة؛ لأن هذه فطرة في كل إنسان، ولكن نهاه عن المبالغة في الحزن، نهاه عن الاستمرار في الحزن حتى لا يكون هذا الحزن سببا لقعوده وانقطاعه عن العمل في أعظم مصيبة يصاب بها الإنسان، وهي مصيبة الموت أباح الشرع للإنسان أن يحزن، أباح له أن يبكي، أباح له أن يفرغ ما في قلبه من العاطفة، كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- لما مات ابنه إبراهيم، فقال: "إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزنون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا".
إلى هذا القدر وكفى، والزيادة على هذا، والاستمرار في الحزن، ليس مما يرغب فيه شرعا، بل ليس مما يباح شرعا، هذا النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول في حق النساء وهن أكثر من يتأثر بالمصائب، ويحزن من أجلها، يقول: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاثة أيام إلا على زوج أربعة أشهر وعشر" الزوج له حق على زوجته، ومطلوب منها أن تبقى في العدة، لتتأكد من عدم وجود حمل هذه قضية خاصة، لكن غير الزوج لا يحل لها أن تحد عليه أكثر من ثلاثة أيام، لا يريد الشرع أن تدوم الأحزان، ليس من مقاصده، ولا مما يطلبه الناس أن يعيشوا في غم وهم، بل يريد أن يكونوا في فرحة وسرور، في حياة طبيعية، تحثهم وتدفعهم إلى العمل وإلى الاجتهاد، وإلى المضي في أمور وشؤون هذه الحياة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا به وتوحيدا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما مزيدا.
وبعد:
أيها الأحباب الكرام: ديننا يريد منا -معاشر المسلمين- أن نكون أهل عمل وأهل جد واجتهاد، الإسلام يريد من المسلمين أن يكونوا أهل ثبات، أهل عزيمة، أهل إصرار لا يضعفون، ولا يتضعضون، مهما عظمت بهم المصائب، ومهما اشتدت بهم الكربات، ومهما نزل بهم من النوازل.
واسمع إلى كلام الرب -تبارك وتعالى- وهو يتحدث عما أصاب المسلمين في يوم أحد من المصيبة العظيمة، قتل منهم سبعون، وحصل لهم ما لم يحصل لهم في سائر الغزوات، فيخاطبهم الله -سبحانه وتعالى-، ويقول لهم: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران: 139 - 140].
انظروا إلى هذا الخطاب العظيم، انظروا إلى هذا التحفيز، انظروا إلى هذا التشجيع كيف يتجاوز بهم هذه المصيبة، يقول لهم: صحيح أنكم أصبتم، صحيح أنكم هزمتم، ولكن هذه ليست نهاية التاريخ، وليست هذه نهاية المطاف، بل هذه مرحلة وجولة من الجولات، وهناك جولات ومراحل أخرى إن كنتم اليوم قد أصبتم فقد أصيب عدوكم قبلكم، وسيصاب كذلك بعد ذلك، فلا تهنوا ولا تحزنوا، ولا تضعفوا ولا تقعدوا.
ولهذا كان لهذا الخطاب أثر عظيم في نفوس المسلمين، هل قعدوا بعد موقعة أحد؟ هل جلسوا وأخذوا ينحون ويبكون على قتلاهم؟ ويندبون حظهم ومصيبتهم؟
لا -والله- بل إن النبي -صلى الله عليه وسلم- في ثاني يوم ينادي في أصحابه: أن يخرجوا للقتال في ثاني يوم مباشرة، ويطلب منهم ألا يخرج إلا من كان قد خرج في غزوة أحد، فيمضي بهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، وينطلق بهم في أعقاب جيش المسلمين، ويصل بهم إلى منطقة تسمى: بحمراء الأسد، وهي على بعد ثمانية أميال من المدينة، ويعسكر بهم في ذلك المكان، فيبلغ خبرهم إلى المشركين فيخافون ويفزعون.
المشركون صحيح أنهم كانت لهم الغلبة في يوم أحد، ولكنهم ذهبوا ثم أخذوا يفكرون، قالوا: ماذا حققنا؟ ماذا فعلنا؟ لم ندخل المدينة؟ لم نستأصل الإسلام؟! فبدؤوا يفكرون بالرجوع إلى المدينة لاستئصال الإسلام، فلما بلغهم خبر مسير النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى حمراء الأسد، خافوا وفزعوا، ودب الخلاف بينهم، ثم استقر أمرهم على الرجوع إلى مكة، ورجعوا إلى ديارهم، لا ينون أمرا، ولا يبحثون إلا عن النجاة.
انظر إلى هذا الموقف العظيم، انظر إلى هذا الثبات أمام هذه المصيبة، انظر إلى سرعة استدراك الأمر، وعدم القعود، أي أمة تكون بهذا الحال؟ بهذه الصفة؟ فإنها أمة غالبة؟
وانظر واسمع ماذا قال عمرو بن العاص عن الروم، سمع عمرو بن العاص -رضي الله عنه وأرضاه- سمع المستورد بن شداد يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "تقوم الساعة والروم أكثر الناس"، فقال عمرو للمستورد: انظر ماذا تقول؟ يعني متأكد من هذا الحديث، قال: "سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال عمرو بن العاص: "لئن قلت ذلك، فإن فيهم خصال أربع" ما هي هذه الخصال الأربع؟ اسمعوا لها -أيها الأحباب- فإننا نحتاج إليها حاجة شديدة في هذه الأيام، قال: "إنهم أحلم الناس عند فتنة" لا يتهورون ، لا يندفعون: "أحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة عند مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة"، لا يستسلمون سريعا إذا أصيبوا سرعان ما يفيقون، وإذا هزموا سرعان ما يعاودون الكرة: "وأسرعهم إقامة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف"، قال: "وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك".
هذه الصفات هي التي جعلتهم أهلا؛ لأن يبقى ملكهم، وأن يكونوا في آخر الزمان أكثر الناس، وإننا نلاحظ مثل هذه الصفات في هؤلاء القوم في منتصف القرن الماضي نشبت حرب طاحنة بين الروم -الأوربيين- أكلت الأخضر واليابس، وقتل فيها عشرات الملايين، ودمرت مدنا بأكملها، ومع ذلك ما إن انتهت هذه الحرب العالمية حتى أخذت كل دولة من تلك الدول تلملم نفسها، وتعيد ترتيب حياتها، وتعمر ما خُرب منها، ولم تمض سنوات معدودة، حتى عادت هذه الدول مثل ما كانت، بل أفضل مما كانت.
بينما نجد -أيها الأحباب- أننا معاشر المسلمين والعرب خصوصا لا زلنا ننوح على مصائب من عشرات السنين، لا زلنا نبكي عليها، ونندب حظنا، لا زلنا نحملها أخطاءنا وتقصيرنا وقعودنا، ولم نفق بعد من مصائبنا.
فما أحوجنا -أيها الأحباب- إلى العمل، ما أحوجنا إلى أن نبني، ونصنع مجدنا كما صنع أجدادنا مجدهم، وأقاموا حضارتهم.
المسلمون هزموا يوم أحد، ثم انقلبت هذه الهزيمة نصرا في اليوم الثاني.
المسلمون بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- نزلت بهم نازلة عظيمة ارتدت منها قبائل من العرب عن الإسلام، فما ضعفوا وما استكانوا، وما قعدوا، بل أخذوا وجاهدوا، وأعادوا الناس إلى حظيرة الإسلام، وحافظوا على بيضة الدين.
المسلمون في فترة من الفترات من التاريخ اكتسح التتار بلدهم، بل والعالم، وخربها ودمرها، فما هي إلا سنوات حتى أفاقوا وأعادوا بناء أنفسهم، وهزموا وكسروا التتار في موقعة عظيمة خالدة في التاريخ.
المسلمون احتل الصليبيون مسجدهم الأقصى، وبيت المقدس، فما استكانوا وما قعدوا، بل عملوا واجتهدوا، وأعادوا بيت المقدس إلى حظيرة الإسلام، في معركة عظيمة وواقعة هزت أوربا كلها.
سقطت الأندلس في الغرب بأيدي الصليبيين، فذهب المسلمون إلى الشرق، وفتحوا القسطنطينية التي هي أحسن معاقل النصارى، وأقاموا فيها خلافة عظيمة، أرعبت أوروبا لقرون عدة.
هكذا كان المسلمون لا يستسلمون، لا ييأسون لا يقعدون، بل كانوا يعملون مثابرين، يجتهدون إن مرت بهم فترة ضعف ألحقوها بفترة قوة وعزة! إن هزموا في مرة أعقبوا الهزيمة بنصر وفتح مبين! إن تغلب عليهم أعداؤهم في زمن انتصروا عليه بعد ذلك!
فلا يأس مع الحياة، ولا وقوف لعجلة العمل والسعي، فأنت في هذه الحياة مطلوب منك أن تؤدي وظيفتك كما أمرك الله، فابذر بذور الخير، وأوقد مشاعل الهداية، وارسم علامات الطريق، والله -سبحانه وتعالى- سيجعل بعد عسر يسرا: (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [التوبة: 105].
أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يصلح أحوالنا كلها.
نسأله سبحانه وتعالى أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيها أهل طاعته، ويذل فيها أهل معصيته، ويؤمر فيها بالمعروف، وينهى فيها عن المنكر.
التعليقات