عناصر الخطبة
1/ وقفة محاسبة في نهاية العام الهجري 2/ وقفة أولى مع النفس 3/ وقفة أخرى مع الأمة وحقوقهااهداف الخطبة
اقتباس
إن أصحاب المؤسسات والشركات التجارية ورجال المال والأعمال يحددون لهم وقتًا في السنة يراجعون فيه حساباتهم الماضية ويخططون لمستقبلهم؛ فالبضائع الكاسدة والتصرفات الخاطئة هي درس لهم لا يكررونه، بل يسعون في إصلاحه، وأما أعمالهم الناجحة وبضائعهم الرائجة فهي دافع لهم للإكثار منها والسير على نهجها ليكون الربح أكثر والمستقبل أفضل...
الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا، خلق الإنسان من العدم، وأرسل له الرسل، وأنزل عليه الكتب، وهداه النجدين، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وعلى من سار على نهجه إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله في السر والعلن؛ فإن من اتقى الله فقد هدي إلى صراط مستقيم.
عباد الله: إن أصحاب المؤسسات والشركات التجارية ورجال المال والأعمال يحددون لهم وقتًا في السنة يراجعون فيه حساباتهم الماضية ويخططون لمستقبلهم؛ فالبضائع الكاسدة والتصرفات الخاطئة هي درس لهم لا يكررونه، بل يسعون في إصلاحه، وأما أعمالهم الناجحة وبضائعهم الرائجة فهي دافع لهم للإكثار منها والسير على نهجها ليكون الربح أكثر والمستقبل أفضل، يقفون مع حساباتهم هذه الوقفات مع العلم أنه ليس ثمة أحد سيحاسبهم أو يدقق في حساباتهم، وكل هذا في أمور دنيوية زائلة.
وإذا كان الأمر كذلك -أيها الإخوة- فالمسلم أولى بالوقوف مع نفسه وقفة محاسبة ومراجعة، فها هي السنوات تمشى تباعًا واليوم هو آخر جمعة في هذه السنة الواحدة والثلاثين بعد الأربعمائة والألف لهجرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-.
فيا ليت شعري ماذا قدمنا فيما مضى وماذا عزمنا عليه فيما نستقبل؟!
إن على المسلم -مع نهاية هذا العام وبداية العام الجديد- أن يقف وقفتين: وقفة مع نفسه ووقفة مع أمته.
أمَا الوقفة الأولى فهي وقفة مع النفس.
أيها الإخوة: من غفل عن نفسه تصرمت أوقاته ثم اشتدت عليه حسراته، وأيُ حسرةٍ على العبد أعظم من أن يكون عمره عليه حجة، وتقوده أيامه إلى المزيد في الردى والشقاوة، ورد في الأثر: "أربعةٌ من الشقاء: جمود العين، وقسوة القلب، وطول الأمل، والحرص على الدنيا".
وخطب عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يومًا فقال: "أيها الناس: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر مع الله، (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ) [الحاقة: 18]".
من حاسب نفسه في الدنيا خف في القيامة حسابه، وحسن في الآخرة منقلبه، ومن أهمل المحاسبة دامت حسراته وساء مصيره، وما كان شقاء الأشقياء إلا أنهم لا يرجون حسابًا، عاشوا على الأماني الفارغة، فخدعوا أنفسهم ووافتهم المنايا وهم في غمرةٍ ساهون.
أيها الإخوة: نوقن بالموت ثم ننساه، ونتحقق الضرر ثم نغشاه، نخشى الناس والله أحق أن نخشاه، نغتر بالصحة وننسى الأسقام، نتذكر الأحياء وننسى الأموات، سبحان الله -عباد الله-: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ) [الحديد: 16]؟! ألم يأن لأهل الغفلة أن يدركوا حقيقة هذه الدار؟! أما علموا أن حياتها عناء ونعيمها ابتلاء؟! (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) [غافر: 39].
أيها المسلمون: إن المحاسبة الصادقة هي التوبة الصادقة، وعلامة صدقها ندمٌ على الإقدام، ومتابعة لصالح الأعمال، إن من تطاول على الناس بلسانه وجعل أعراضهم فاكهةً له في مجالسه هو ممن ضل سعيه في الحياة الدنيا، ومثله من يؤذي الناس بأفعاله، ويسعى للإضرار بهم، وإفساد ذات بينهم، وأكل أموالهم، وتضييع حقوقهم، وإشاعة المنكرات في أوساطهم، وعدم الوفاء بعهودهم؛ سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- الصحابة يومًا عن مفهوم المفلس فأجابوا -رضي الله عنهم- بالمعنى الظاهري له فقالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فأخبرهم -صلى الله عليه وسلم- عن المفلس الحقيقي بقوله: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار". رواه مسلم.
ما أجمل أن يحاسب كلٌ منا نفسه، ويراجع أقواله وأفعاله، ويتوب إلى الله ويتحلل من الناس ما دام في زمن المهلة، وما أحسن أن يراجع الإنسان ما يدخل في حوزته من أموال فيعرف أهي من الحلال أم من الحرام، من قبل أن تأتي ساعة الحسرة ويوم الحسرة، وإن من أشدِ الناس حسرةً يوم القيامة من كسب مالاً فأدخله النار وورثه من بعده قومٌ صالحون عملوا فيه بطاعة الله فأدخلهم الجنة.
وإن من أوجب الواجبات على المسلم محاسبة نفسه في حق الله، فيما افترضه الله عليه من صلاةٍ وزكاة وبر الوالدين وصلة الأرحام وأداء أمانة ووفاء بعهد، وإن التقصير فيها هو تقصير في حق الله وهو موجب لعقاب الله.
وإن محاسبة النفس -أيها الإخوة- تقتضي الوقوف بها عند حدود الله أمرًا ونهيًا وخضوعًا وتحاكمًا: (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) [الطلاق: 1]، إنه ليس من حق أحد أن يصدر أحكامًا في الدين دون دليلٍ شرعي، وليس من حق أحد أن يتجاوز حدود العبودية وإلا كان التجاوز والطغيان، إن التحاكم يجب أن يكون إلى شرع الله في كل حادثةٍ ونازلةٍ، وكلِ صغيرةٍ وكبيرة: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [النساء: 65].
ومحاسبة الإنسان لجوارحه تعني أن تكون الجوارح تعمل وفق منهج الله في الحلال والحرام: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً) [الإسراء: 36].
وما العمل -أيها المسلمون- وقد فات ما فات ومضى من الأعمار ما مضى؟!
العمل أن نستدرك ما بقي ولا ننشغل بالندم عن العمل، واعلم -أخي المسلم- أن من أصلح ما بقي غُفر له ما مضى، ومن أساء فيما بقي أُخذ بما مضى وبما بقي، قرأ الحسن البصري -رحمه الله- قوله تعالى: (عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ) [ق: 17]، فقال: "يا ابن آدم: بسطت لك صحيفتك، ووكل بها ملكان، أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك، فصاحب اليمين يكتب الحسنات، وصاحب الشمال يكتب السيئات، فاعمل ما شئت أقلل أو أكثر، فإذا مت طويت صحيفتك، وجعلت في عنقك، فتخرج يوم القيامة فيقال لك: (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) [الإسراء: 14]، ثم قال -رحمه الله-: "عدْلٌ واللهِ مَنْ جعلك حسيب نفسك".
فاتقوا الله -يا عباد الله- وتزودوا لآخرتكم، واستعدوا للرحيل، فما هي إلاَ أيام معدودة أو سنوات ممدودة، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ * وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [غافر: 18- 20].
الخطبة الثانية:
ومحاسبة النفس تكون أيضًا في الوقوف معها في قضايا الأمة المختلفة؛ إن المسلم عضوٌ في الجسد المسلم، إن على المسلم أن يشارك في نهضة مجتمعه وأمته مشاركةً إيجابية حية بحسبِ استطاعتهِ وميوله، وأن يكون فعّالاً للخيرِ والإصلاح، وأن يهيئ نفسه للعمل الإيجابي البناء، وإن من الخذلان أن يعيش المسلم عيشة المتعة والشهوة بعيدًا عن الهدف الذي من أجله خلق، بعيدًا عن الأمانة التي حمل إياها، وتكون المصيبة العظمى حين يجد المسلم نفسه مناعًا للخير يحارب الإسلام والمسلمين، أو ينفر الناس من الاستقامة على شرع الله القويم بخطط الأعداء المتربصين: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) [البقرة: 114].
وها هي البشرية تتخبط في دياجير ظلام الشرك والظلم والجبروت والتسلط، وتقود نفسها إلى مصير مجهول في الدنيا ومصير مخيف في الآخرة، إنها تتلهف إلى تشريع ربها ودين خالقها، إنها تبحث عن المنقذ في زمن الإغراق في الشهوات والشبهات، وإن الدعوة إلى الله ونصرة دينه ونبيه وكتابه من أوجب الواجبات على المسلم؛ لأنه مستخلف في هذه الأرض، ومكلف بحمل الأمانة أمانة التبليغ والرسالة: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) [المائدة: 67]، وفي الحديث عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "بلغوا عني ولو آية". رواه البخاري.
ونصرة المسلمين -أيها المسلمون- واجب بمقتضى الأخوة الإسلامية؛ لقول الله -جل الله-: (وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ) [الأنفال: 72]، ونصرة الإخوة في الدين تكون بكل مجال، سواء بالإغاثة العاجلة، أو الوقوف معهم بكل وسيلة مشروعة، أو التعريف بقضيتهم، أو الإنكار على من ظلمهم ومحاكمتهم، والنصرة تكون بسلاح الإعلام والتربية والتعليم وغيرها مما ينصر الأمة ويقوي المسلمين في أي قطر أو مكان.
هذا وصلوا وسلموا على نبيكم...
التعليقات