موقع طريق الإسلام
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد:
فقد طالعتنا وكالات الأنباء والصحف بنبأ غرق مجموعة من الشباب المصري الطامح إلى الهجرة إلى إيطاليا للعمل بها، فنسأل الله - عز وجل - لهم المغفرة ولأهلهم الصبر، ولنا مع هذه الظاهرة الوقفات الآتية:
الوقفة الأولى: حكم السفر والإقامة في ديار الكفر دار الكفر هي التي يحكمها الكفار وتجرى فيها أحكام الكفر، ويكون النفوذ فيها للكفار وهي نوعين:
1- بلاد كفار حربيين؛ أي بينهم وبين المسلمين حرب.
2- بلاد كفار مهادنين بينهم وبين المسلمين صلح وهدنة. أما حكم السفر والإقامة في ديار الكفر فعلى التفصيل التالي: أولاً: اشترط أهل العلم فيمن يسافر أو يقيم في ديار الكفر شرطين هما:
الشرط الأول: أن يكون عنده علم يدفع به الشبهات؛ لأن الكفار يوردون على المسلمين شبهات في دينهم، قال - تعالى -: إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ [آل عمران: 149]، وذلك حتى يصير المسلم شاكًا متذبذبًا في دينه، كما قال قائلهم: «لا تحاولوا أن تخرجوا المسلم من دينه إلى دين النصارى، ولكن يكفى أن تشككوه في دينه؛ لأنكم إذا شككتموه في دينه سلبتموه الدين وهذا كاف».
الشرط الثاني: أن يكون عنده دين يحميه من الشهوات، فإذا انعدم دينه، سقط في بحر الرذائل الذي تموج فيه تلك البلاد من شرب للخمر وتعامل بالربى، والزنى بالنساء -والعياذ بالله-.
ثانيًا: قسم أهل العلم السفر والإقامة بين الكفار إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: أن يكون السفر مأمورًا به شرعًا وصاحبه مجاهد في سبيل الله حتى يرجع، وذلك إذا كان الذهاب إلى الكفار بقصد الدعوة إلى الله أو تعلم ما هو وسيلة إلى مرضاة الله وخذلان أعدائه.
الدليل على ذلك:
1- سفر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل الطائف يعرض الإسلام عليهم، وكانت كلها دار كفر في ذلك الوقت.
2- بعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالرسل إلى ملوك أهل الأرض ومن حولهم وهم كفار، فقد بعث عبد الله بن حذافة السهمي إلى كسرى ملك الفرس، ودحية الكلبي إلى قيصر- وهو هرقل- ملك الروم، وحاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس ملك مصر، وشجاع بن وهب بن أسد بن خزيمة إلى الحارث بن أبي شمر الغساني ملك عرب النصارى، وسليط بن عمرو العامري إلى هوذة بن علي الحنفي، وعمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي ملك النصارى بالحبشة.
القسم الثاني: أن يكون السفر مباحًا، وهو من كان سفره لحاجة دنيوية كتجارة أو علاج أو طلب العلم الدنيوي النافع للمسلمين، بشرط أن يتوافر فيه الشرطان السابقان، فيكون عارفًا لدينه بأدلته آمنًا من الفتنة مظهرًا لدينه وذلك بعداوة الكفار والبراءة منهم، قادرًا على التأثير في الكفار دون التأثر بهم.
الدليل على ذلك: سفر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الشام في تجارة يدل على جوازه. وقد يُعترض على هذا الدليل: بأن سفره - صلى الله عليه وسلم - للتجارة كان قبل النبوة فليس فيه حجة.
ويُقال: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتدنس قبل النبوة بحرام، ولا اعتذر عن ذلك حين بُعِثَ ولا منع أحدًا من الصحابة في حياته، ولا منع ذلك أحد من خلفائه بعد وفاته، فقد كانوا يسافرون في فك الأسرى، وفي حمل الرسائل إلى ملوك أهل الأرض، فقد أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عثمان بن عفان - رضي الله عنه - إلى أهل مكة وهم أهل حرب للإسلام والمسلمين، فدل ذلك كما قال القرطبي - رحمه الله - على أن السفر لغرض مباح يكون مباحًا ولغرض مستحب يكون مستحبًا.
القسم الثالث: أن يكون سفره حرامًا وكبيرة من كبائر الذنوب: وذلك من كان سفره لحاجة دنيوية وهو عارف لدينه بأدلته آمن من الفتنة، ولكنه غير قادر على إظهار دينه، وتأدية شعائر الإسلام علانية وبحرية تامة، من فعل للواجبات وترك للمحرمات، وإظهار البغض والعداوة للكفار والبراءة منهم، ويجب أن يعلم المسلم أن المراد بإظهار الدين ليس معناه أن يُترك الإنسان يصلي ولا يقال له اعبد الأوثان فإن اليهود والنصارى لا ينهون من صلى في بلدانهم ولا يكرهون الناس على أن يعبدوا الأوثان- غالبًا- بل المقصود هو التصريح للكفار بالعداوة والبراءة من دينهم، كما قال - تعالى -حاكيًا عن إبراهيم - عليه السلام - ومن معه: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة: 4]، وقال - تعالى -: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة: 130].
الدليل على ذلك:
1- قوله - تعالى -: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا [النساء: 97- 99].
2- عن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية إلى خثعم فاعتصم ناس منهم بالسجود فأسرع فيهم القتل، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر لهم بنصف العقل، وقال: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين». قالوا: يا رسول الله، لم؟ قال: «لا تراءى نارهما». (رواه أبو داود والترمذي وحسنه الألباني).
وجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل سرية إلى قبيلة خثعم وكان بالقبيلة مسلمون يخفون إسلامهم عن قومهم المشركين فخافوا أن يقتلهم المسلمون ظنًا منهم أنهم من المشركين فاعتصموا بالسجود، فظن المسلمون أنهم سجدوا لغير الله فقتلوهم فأمر لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بنصف الدية لأن هلاكهم كان لجناية أنفسهم بمقامهم بين ظهراني الكفار فلم يعرفهم إخوانهم المسلمون، وبجناية المسلمين عليهم، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين»، ثم بين العلة بقوله: «لا تراءى نارهما» أي: لا يمكن التفرقة بينهما.
3- عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله». (رواه أبو داود وحسنه الألباني)، فالحديث محمول على من لم يستطع إظهار دينه.
القسم الرابع: أن يكون السفر ردة وخروجًا عن الإسلام، وهذا ينطبق على من رضي كفر الكافرين وأظهر الموافقة لهم، ومدح ما هم عليه من كفر واستحسن ذلك فوالاهم موالاة المحب لمحبوبه وركن إليهم وأنس بقربه منهم ولم يتميز عنهم بتحريم الحرام وتحليل الحلال فهو منهم.
والدليل على ذلك: قوله - تعالى -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [المائدة: 51]، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ [الممتحنة: 1].
الوقفة الثانية: إلى أي الأقسام ينتمي هؤلاء المهاجرون؟
بعد أن ذكرنا أقوال أهل العلم في حكم السفر والإقامة في ديار الكفر، يتضح أن الغالبية العظمى من المهاجرين إلى ديار الكفر قد انتفى في حقهم الشرطان السابق ذكرهما أو شرط واحد منهما، كما أن من توافر في حقه الشرطان فكثير منهم لا يستطيع إقامة شعائر دينه بحرية في تلك البلاد، وليس أدل على ذلك من قيامهم بأعمالٍ محرمة في غالب الأحيان مثل بيع الخمور ولحم الخنزير، والمجلات الجنسية، ومنهم من يترك الصلاة بالكلية بدعوى عدم وجود وقت يصلى فيه أثناء العمل، ومنهم من يترك الجمعة بدعوى عدم وجود مساجد قريبة من مسكنه وعدم سماعه للأذان، ومنهم من يقدم على الزواج بالمشركات زواجًا مؤقتًا بغرض الحصول على الإقامة، ومن ثم فكثير من هؤلاء يكون سفره حرامًا وكبيرة من كبائر الذنوب، ولاسيما أن ديار الكفر ما فتئت تضيق على الإسلام والمسلمين، والدليل على ذلك ما قامت به فرنسا من حظر ارتداء الحجاب في مدارسها، وكذلك ما فعلته الدانمارك والنرويج من الاستهزاء بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، ثم تبعتهما كثير من الدول الأوربية، بل هناك من يسافر إلى ديار الكفر فتتلقفه أيديهم ويصنع على أعينهم ليكون أحد دعاة التغريب في بلاد المسلمين.
الوقفة الثالثة: حكم الغرقى منهم:
ثار جدال واسع بين فضيلة المفتي وغيره من العلماء والكتاب حول حكم هؤلاء الغرقى؛ فكان هناك إفراط وتفريط، فمنهم من وصمهم بالطمع وبأنهم ليسوا بشهداء، ومنهم من حكم لهم بالشهادة مستدلاً بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «الغريق شهيد». (رواه ابن عساكر في تاريخه وصححه الألباني في صحيح الجامع)، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - أيضًا: «الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله». (أخرجه البخاري ومسلم).
والصحيح في المسألة أن نذكر الضوابط التالية: الأول: لكي يحكم لشخص بالشهادة فلابد من أمرين:
1- الإسلام: فلا يحكم لكافر بالشهادة إذا غرق، حيث إن الشهيد تجب له الجنة والكافر محروم منها، فلا شهادة لكافر، قال - تعالى - حاكيًا عن فرعون: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ [يونس: 90- 92].
2- أن يكون سفره سفر طاعة: فلا يحكم لمن مات متلبسًا بالمعصية وقد تحقق فيه سبب من أسباب الشهادة كالغريق مثلاً بالشهادة، فإذا صحب رجل امرأة ليزني بها فسقطت سيارته في البحر فمات الاثنان فلا يقال عنهما شهداء؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «يُبعث المرء على ما مات عليه».
الوقفة الرابعة: الأسباب التي أدت إلى هذه الحادثة:
1- قلة علم هؤلاء بحكم الشرع في مسألة السفر إلى ديار الكفر والإقامة بها.
2- الانبهار بما عند الغرب من وسائل التقدم والتي جعلت قلوب كثير من الشباب تهفوا إلى إيثار ديار الكفر على ديار الإسلام في العمل واكتساب الرزق مع ما تتمتع به دول إسلامية كثيرة من مصادر للرزق جعلت الغربيين والآسيويين يتطلعون للعمل بها.
3- تقصير الآباء في تربية أبنائهم وتنشئتهم النشأة الإسلامية الصحيحة، وتفقدهم في حياتهم، فقد قال والد أحد الضحايا: «لم أعلم بسفر ابني إلا حينما علمت بوفاته غرقًا »!!
4- ضعف الإيمان في نفوس كثير من الناس، وخاصة إيمانهم بأن الله هو الرزاق، فاعتقدوا أن مكثهم في ديارهم لن يأتيهم بالرزق مع أن كثيرًا من الشباب لم يغادروا بلادهم ومكثوا فيها ورزقهم الله - عز وجل - الرزق الوفير، ولم يتوفر لهم من الأموال ما لهؤلاء الفارين من ديارهم، فقد دفع الواحد منهم أكثر من ثلاثين ألفًا من الجنيهات ثمنًا لفراره من بلده وسفره إلى ديار الكفر، ولو قاموا باستثمار هذا المبلغ في بلدهم وتوكلوا التوكل على الله لكفاهم الله - عز وجل - حيث يقول: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 2، 3].
5- مخالفة ولي الأمر: فيجب طاعة ولي الأمر فيما ليس بمعصية، وحيث وضع ولي الأمر قواعد لتنظيم خط السير في الطرق برًا وبحرًا وجوًا، فيجب على الجميع احترامها، وهذا ما لم يحدث من أصحاب المراكب التي لا يرخص لها بالإبحار في أعالي البحار لعدم صلاحيتها لذلك، وكذا لقيامهم بتحميلها أكثر من سعتها ولاستخدامها في غير الغرض المرخص لها به- وهو صيد الأسماك- وقد طاوعهم الشباب في ذلك مع علمهم بخطورة وسيلة المواصلات هذه على أرواحهم مما جعلهم مقصرين في الحفاظ على أنفسهم مخالفين قوله - تعالى -: وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: 195].
6- التقصير في مراقبة المتاجرين بآمال الشباب ومحاسبتهم وردعهم فلولي الأمر تعزيرهم على فعلهم وإلزامهم الدية لقتلهم هؤلاء الشباب، أو إيقاع القصاص بهم إذا ثبت تعمد إلقائهم في البحر خوفًا من السلطات الإيطالية.
7- عدم إحياء بيت مال المسلمين ومساعدة الشباب بتوفير سبل الحياة الكريمة لهم في بلادهم بدلاً من البحث عنها في ديار الكفر.
وفي النهاية نسأل الله - عز وجل - أن يرزق شباب المسلمين العلم النافع والعمل الصالح، وأن يوفق ولاة أمور المسلمين لما يحب ويرضى، والله الموفق.
التعليقات