وقفات تربوية مع قصة الأعمى في سورة عبس

أحمد عبد المجيد مكى

2022-12-06 - 1444/05/12
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

وهي دليل لما تقرر في أصول الفقه من جواز الاجتهاد للنبي -صلى الله عليه وسلم- ووقوعه، وأنه جرى على قاعدة إعمال أرجح المصلحتين بحسب الظاهر، لأن السرائر موكولة إلى الله -تعالى-، وأن اجتهاده -صلى الله عليه وسلم- لا يخطئ بحسب ما نصبه الله من الأدلة...

 - عَبَس: اسم سورة من سور القرآن الكريم، وهي السُّورة الثمانون في ترتيب المصحف، وهي مكِّيَّة بالاتفاق، عدد آياتها اثنتان وأربعون آية.

 

 - ومعنى عبَس: قطَّب ما بين عينيه وتجهَّم لإبداء الاستياء وعدم الرِّضا، وتولى: أي أعرض ولم يهتم بسؤال سائل وإقبال الزائر.

 - والمراد ب(الأعمى) هو ابن أم مكتوم. أسلم بمكة وهو ضرير البصر، وهاجر إلى المدينة، وكان يُؤَذِّنُ للنبي -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة مع بلال ابن رباح. وكان رسول الله -إذا خرج في غزوة- يستخلفه على المدينة يصلي بالناس.

 

-  وسبب نزول صدر هذه السورة أن قوماً من أشراف قريش كانوا عند النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد طمع في إسلامهم، فأقبل عبد الله بن أم مكتوم، فَكَرِهَ رسول الله أن يقطع عليه ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ كلامه، فعبس وأَعْرَضَ عنه فَنَزَلَتْ الآيات. فكان رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بعد ذلك يكرمه ويقول إذا رآه: مرحبا بمن عاتبني فيه ربي، ويقول له: هل لك من حاجة؟.

 

 - تجدر الإشارة إلى أنَّ ذِكْره بلفظ الأعمى ليس لتحقير شأنه، ولكن للإشعار بعذره في الإقدام على قطع الكلام، فكأنه قيل: إنه بسبب عماه استحق مزيد الرفق والرأفة والتقريب والترحيب، فكيف يليق بك يا محمد أن تَخُصَّه بالعبوس والإعراض!!

 

وفي هذه الآيات دروس ووقفات تربوية كثيرة، وفي السطور التالية اشارة إلى أبرز هذه الوقفات.

الوقفة الأولى- مناط المعاتبة هو العبوس للمؤمن بحضرة المشرك:

     مناط العتاب -الذي تؤتيه لهجة الآية- إنما هو عتاب على العبوس والتولي، وليس على ما حَفَّ بذلك من المبادرة بدعوة، وتأخير إرشاد، لأن ما سلكه النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه الحادثة من سبيل الإرشاد لا يستدعي عتابا، إذ ما سلك إلا سبيل الاجتهاد المأمور به فيما لم يوح إليه فيه. وهو داخل تحت قوله تعالى لعموم الأمة: (فاتقوا الله ما استطعتم).

فلا قِبَل له بعلم المغيبات إلَّا أن يطلعه الله على شيء منها، فلا يعلم أن هذا المشرك مُضْمر الكفر والعناد، وأن الله يعلم أنه لا يؤمن، ولا أن لذلك المؤمن في هذا الوقت- صفاء نفس وإشراق قلب -لا يتهيآن له في كل وقت... فمناط المعاتبة هو العبوس للمؤمن بحضرة المشرك الذي يستصغر أمثال ابن أم مكتوم([1]).

وقد أشار الفخر الرازي (ت 606هـ) إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مأذونا له في تأديب أصحابه، لكن هاهنا- لما أوهم تقديم الأغنياء على الفقراء وانكسار قلوب الفقراء، وكان ذلك مما يوهم ترجيح الدنيا على الدين- فلهذا السبب جاءت هذه المعاتبة ([2]).

 

الوقفة الثانية- التنويه بسمو منزلة المؤمنين وعلو قدرهم:

   من المقاصد الأساسية لسورة عبس: التنويه بضعفاء المؤمنين، وعلو قدرهم، ووقوع الخير من نفوسهم والخشية، والحث على الترحيب بهم والإقبال عليهم وقضاء حوائجهم، وعدم إيثار الأغنياء عليهم([3]).

    ويُروى أنه -صلّى الله عليه وسلّم- ما عبس بعدها في وجه فقير قط، ولا تصدّى لغني. وقد تأدب الناس بأدب الله في هذا تأدبا حسنا. فعن مسروق قال: دخلت على عائشة، وعندها رجل مكفوف تَقْطَعُ له الفاكهة وتُطْعِمُهُ إِيَّاها، فقلت: من هذا يا أم المؤمنين؟ فقالت: ابن أم مكتوم الذي عاتب الله فيه نبيه -صلى الله عليه وسلم-([4]).

 

    وفي السورة -أيضا- كما يقول البقاعي (ت: 885هـ)  إشارة إلى أن الاستغناء والترف أمارة الإعراض وعدم القابلية والتهيؤ للكفر والفجور، وإلى أن المصائب (إشارة إلى عمى ابن أم مكتوم) أمارة للطهارة والإقبال واستكانة القلوب وسمو النفوس لشريف الأعمال، فكل من كان فيها أرسخ كان قلبه أرق وألطف فكان أخشى، فكان الإقبال عليه أحب وأولى ([5])

 

الوقفة الثالثة- اجتهاد النبي جرى على قاعدة إعمال أرجح المصلحتين:

في هذه الآيات" أعْلَمَ الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن ذلك المشرك الذي مَحَّضَه نُصْحه لا يرجى منه صلاح، وأن ذلك المؤمن -الذي استبقى العناية به إلى وقت آخر- يزداد صلاحا تفيد المبادرة به؛ لأنه في حالة تلهفه على التلقي من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أشد استعدادا منه في حين آخر....

 وهي دليل لما تقرر في أصول الفقه من جواز الاجتهاد للنبي -صلى الله عليه وسلم- ووقوعه، وأنه جرى على قاعدة إعمال أرجح المصلحتين بحسب الظاهر، لأن السرائر موكولة إلى الله -تعالى-، وأن اجتهاده -صلى الله عليه وسلم- لا يخطئ بحسب ما نصبه الله من الأدلة، ولكنه قد يخالف ما في علم الله، وأن الله لا يقر رسوله -صلى الله عليه وسلم- على ما فيه مخالفة لما أراده الله في نفس الأمر([6]).

   فالنبي -عليه الصلاة والسلام-كما يقول بن حزم (ت 456هـ) اشتغل بما خاف فوته من عظيم الخير، عما لا يخاف فوته، وهذا غاية النظر في الدين والاجتهاد في نصرة القرآن -في ظاهر الأمر-، ونهاية التقرب إلى الله، الذي لو فعله اليوم منا فاعل، لأُجِر؛ فعاتبه الله -عزّ وجلّ- على ذلك، إذ كان الأولى عند الله -تعالى- أن يقبل على ذلك الأعمى الفاضل البر التقي([7]).

 

الوقفة الرابعة - دلالة القصة على صدق الرسول في تبليغ الوحي:

    بَلَّغَ النبي- صلى الله عليه وسلم- رسالة ربه أتم البلاغ وأكمله، فكان يقرأ على الناس ما أنزل إليه من ربه -كما هو- مهما بلغت شدة العتاب فيه.

 يقول القاسمي (ت 1332هـ): في هذه الآيات ونحوها، دليل على عدم ضَنِّه -صلى الله عليه وسلم- بالغيب. قال بعض السلف: لو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كتم من الوحي شيئا، كتم هذا عن نفسه([8])..

      ويقول محمد بن عبد الله دراز (ت 1377هـ) في بيان مصدر القرآن: وكأني بك ها هنا تحب أن أقدم لك من سيرته المطهرة مثلًا واضح الدلالة على مبلغ صدقه وأمانته في دعوى الوحي الذي نحن بصدده، وأنه لم يكن ليأتي بشيء من القرآن من تلقاء نفسه، من ذلك:

مخالفة القرآن لطبع الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعتابه الشديد له في المسائل المباحة: حيث كانت تنزل به نوازل، وكان يجيئه القول فيها على غير ما يحبه ويهواه؛ فيخطئه في الرأي يراه، ويأذن له في الشيء لا يميل إليه، فإذا تلبث فيه يسيرًا تلقاه القرآن بالعتاب، حتى في أقل الأشياء خطرًا ...

أرأيت لو كانت هذه التقريعات المؤلمة صادرة عن وُجدانه، معبرة عن ندمه ووخز ضميره -حين بدا له خلاف ما يرى- أكان يعلنها عن نفسه بهذا التهويل والتشنيع؟ ألم يكن له في السكوت عنها ستر على نفسه، واستبقاء لحرمة آرائه؟ ... ([9]).

 

الوقفة الخامسة- العروج بالحبيب في معارج التعليم والتأديب:

لو نظرت أخي الكريم "في الأمور التي عوتب فيها النبي لوجدتها تنحصر في شيء واحد، وهو أنه -عليه الصلاة والسلام- كان إذا ترجح بين أمرين- ولم يجد فيهما نص- إنما اختار أقربهما إلى رحمة أهله، وهداية قومه، وتأليف خصمه، وأبعدهما عن الغلظة والجفاء، وعن إثارة الشبه في دين الله، فلم يكن بين يديه نص فخالفه عن قصد، بل هو مجتهدٌ بذل وسعه في النظر، ورأى نفسه مخيرًا فتخير، ... على أن الذي اختاره كان هو خير ما يختاره ذو حكمة بشرية، وإنما نبهه القرآن إلى ما هو أرجح في ميزان الحكمة الإلهية. هل ترى في ذلك ذنبًا يستوجب هذا العتاب؟ أم هو مقام الربوبية ومقام العبودية، وسنة العروج بالحبيب في معارج التعليم والتأديب؟([10]).

      فقد كان صلى الله عليه وسلم في حِجْر (أي في كَنَف وحماية) تربية ربه، لكونه حبيبا؛ فكلما ظهرت نفسه بصفة حَجَبَتْ عنه نور الحق، عوتب وأُدِّب إلى أن تخلق بأخلاقه -تعالى- ([11])

 

الوقفة السادسة- صلاح الفرد وسيلة لصلاح الأمة:

نحن أمام حالين: "حال مؤمن هو مظنة الازدياد من الخير، وحال كافر مصمم على الكفر، تؤذن سوابقه بعناده، وأنه لا يفيد فيه البرهان شيئا.

  وإن عميق التوسم في كلا الحالين قد يكشف للنبي -صلى الله عليه وسلم- بإعانة الله رجحان حال المؤمن المزداد من الرشد والهدي، على حال الكافر الذي لا يغر ما أظهره من اللين -مصانعة أو حياء من المكابرة-؛ فإن كان في إيمان الكافر نفع عظيم عام للأمة بزيادة عددها ونفع خاص لذاته.

وفي ازدياد المؤمن من وسائل الخير وتزكية النفس نفع خاص له، والرسول مخاطب بالحفاظ على مصالح المجموع ومصالح الآحاد، بيد أن الكافر صاحب هذه القضية تنبئ دخيلته بضعف الرجاء في إيمانه لو أطيل التوسم في حاله، وبذلك تعطل الانتفاع بها عموما وخصوصا، وتمخض أن لتزكية المؤمن صاحب القضية نفعا لخاصة نفسه، ولا يخلو من عود تزكية بفائدة على الأمة بازدياد الكاملين من أفرادها...؛   فكان ذلك موقع هذه الوصية المفرغة في قالب المعاتبة، للتنبيه إلى الاهتمام بتتبع تلك المراتب، وغرس الإرشاد فيها على ما يرجى من طيب تربتها، ليخرج منها نبات نافع للخاصة وللعامة([12]).

 

الوقفة السابعة- غاية الدين تزكية النفس بمعرفة الله وعبادته:

التزكية: معناها تطهير النفس؛ يقال: زكا الزَّرعُ: نما وزاد، وزكا الشَّخصُ وتزكَّى: اهتدى وصلُح وتطهّر.

 

وقد اهتمت الآيات الكريمة بموضوع التزكية، يشير إلى ذلك قوله -تعالى-: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى)[عبس: 3-4]، والمعنى: وما يدريك إذا أقْبَلْتَ على الأعمى بالإرشاد، فإنه قد يتزكى تزكية عظيمة كانت نفسه متهيئة لها ساعتئذ، إذ جاء مسترشدا حريصا. إذ الهدى الذي يزداد به المؤمن رفعة وكمالا في درجات الإيمان هو كاهتداء الكافر إلى الإيمان، لا سيما إذ الغاية من الاهتداءين واحدة ...

وجملة (أو يذكر) عطف على (يزكى)، أي ما يدريك أن يحصل أحد الأمرين وكلاهما مهم، أي تحصل الذكرى في نفسه بالإرشاد لما لم يكن يعلمه، أو تذكر لما كان في غفلة عنه ([13]).

كما أشارت الآيات إلى التزكية في قوله -تعالى-: (وما عليك ألا يزكى)؛ أي: لا بأس ولا شيء عليك في ألا يسلم ولا يهتدي، ولا يتطهر من الذنوب، فإنه ليس عليك إلا البلاغ، فلا تهتم بأمر من كان مثل هؤلاء من الكفار.

فدل ذلك على أن من المقاصد الأساسية للدين: تزكية النفس بمعرفة الله وعبادته، وما شرعه من الأعمال والأخلاق والآداب؛ فهذا نبي الله موسى -عليه السلام- يقول لفرعون: (هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى)[النازعات: 19 - 18]، وكان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاها، وَزَكِّها أنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاها، أنْتَ وَلِيُّها وَمَوْلاها" ([14]).

 

نسأل الله أن يثبتنا على دينه، ويميتنا ويحيينا عليه، إنه جواد كريم. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

 

----------------------------------------

([1]) التحرير والتنوير (30/ 114).

([2]) تفسير الرازي (31/ 53).

([3]) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (22/ 325).

([4]) بوب الإمام النووي في كتابه النافع (رياض الصالحين) بابين متتابعين، الأول: باب فضل ضعفة المسلمين والفقراء الخاملين. والثاني: باب ملاطفة اليتيم والبنات وسائر الضعفة والمساكين..... وذكر تحتهما كثير من الآيات والأحاديث.

([5]) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (21/ 249).

([6]) التحرير والتنوير (30/ 112).

([7]) الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/ 18).

([8]) تفسير القاسمي ( محاسن التأويل) (9/ 406).

([9]) النبأ العظيم (ص: 54).

([10]) النبأ العظيم (ص: 54).

([11]) تفسير القاسمي ( محاسن التأويل) (9/ 406).

([12]) بتصرف من التحرير والتنوير (30/ 110).

([13]) التحرير والتنوير (30/ 107).

([14]) رواه مسلم رقم (2722).

 

التعليقات
زائر
21-12-2022

شكرًا لكم على هذه المعلومات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life