وفاة الشيخ ابن باز (2)

ناصر بن محمد الأحمد

2014-12-03 - 1436/02/11
عناصر الخطبة
1/الموت مصير كل حي 2/عظمة جنائز علماء أهل السنة 3/جنازة الإمام أحمد 4/جنازة شيخ الإسلام ابن تيمية 5/جنازة الشيخ ابن باز 6/وقفات مهمة مع وفاة الشيخ ابن باز 7/بعض واجبات الأمة تجاه الشيخ ابن باز
اهداف الخطبة

اقتباس

إن مما شهد له التاريخ، هو: أن علماء أهل السنة تكون جنائزهم عجباً من العجب، ويكون ذلك اليوم يوم مشهود، فكم حفظت لنا كتب التاريخ عن قصص نعجب لها حين نقرأها عن بعض جنائز علماء هذه الأمة، ورحم الله الإمام أحمد عندما قال: "قولوا لأهل الـ..."...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ ...

 

أما بعد:

 

قال الله -تعالى-: (كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ)[آل عمران: 185].

 

وسهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء".

 

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ألا إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، وعالماً أو متعلماً"[رواهما الترمذي].

 

قال الشاعر:

 

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته *** يوماً على آلة حدباء محمول

 

أيها المسلمون: لو كان البقاء تكريماً لأحد من خلق الله، لكان أجدر الخلق بهذا التكريم هو محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكن الموت سنة الله لهذه الحياة: (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا)[الأحزاب: 62.

 

إن مما شهد له التاريخ، هو: أن علماء أهل السنة تكون جنائزهم عجباً من العجب، ويكون ذلك اليوم يوم مشهود، فكم حفظت لنا كتب التاريخ عن قصص نعجب لها حين نقرأها عن بعض جنائز علماء هذه الأمة، ورحم الله الإمام أحمد عندما قال: "قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز".

فعندما توفي هو رحمه الله كانت جنازته عجباً!.

 

مرض الإمام أحمد قبل موته أياماً، وضعفت صحته، وكان يتوكأ على ولده صالح للصلاة.

 

فلما تسامع الناس بمرضه ازدحموا على بابه، وكثروا، وصاروا يدخلون عليه أفواجاً يسلّمون عليه، فسمع السلطان بكثرة الناس على بابه، وفي الشوارع المؤدية إلى بيته، فوكّل ببابه وعلى الشوارع الحرس والشُرط، فاجتمع الناس في الشوارع والمساجد، حتى تعطل بعض الباعة، وحيل بينهم وبين البيع والشراء، ووصل الأمر إلى أن من أراد الدخول عليه لم يتمكن، فيضطر للتسلق على الدور المحيطة بداره، حتى يصل إليه من كثرة الخلق.

 

جاءه حاجب الأمير، فقال له: إن الأمير يقرئك السلام، وهو يشتهي أن يراك، فقال: هذا مما أكره، وأمير المؤمنين أعفاني مما أكره.

 

فجاءه رجل من جيرانه يعوده، وقد خضّب لحيته، فدخل عليه، فقال الإمام: إني لأرى الرجل يحي شيئاً من السنة، فأفرح به.

 

وجاء رجل يتلطف ولده صالح ليأذن له بالدخول عليه، وقال: "إني ممن حضر ضربه في المحنة، وأريد أن أستحله، فأُذن له، فقام بين يديه وجعل يبكي، وقال: يا أبا عبد الله أنا كنت ممن حضر ضربك وقد أتيتك، فإن أحببت القصاص فأنا بين يديك، وإن رأيت أن تُحلّني فعلت، فقال: على ألا تعود لمثل ذلك؟ قال: نعم، قال: "إني جعلتك في حل"، فخرج يبكي وبكى من حضر من الناس.

 

وفي يوم الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين ومائتين توفي الإمام أحمد، فلما تسامع الناس الخبر، اجتمعوا في شوارع بغداد.

 

وحضر غسله نحو مائة من بيت الخلافة من بني هاشم، فجعلوا يقبلونه بين عينيه، ويدعون له، ويترحمون عليه.

 

 

وصلى عليه داخل الدار أولاده والهاشميون قبل أن يخرج إلى المصلى، وقد كان الناس رجالاً ونساءً يتزاحمون في الشوارع، منتظرين خروج الجنازة ليصلوا عليها في المصلى، ثم يتبعوها إلى المقبرة.

 

فخرج الناس بنعشه والخلائق من حوله من الرجال والنساء ما لم يعلم عددهم إلا الله، فصُلي عليه، ثم أعاد خلائق الصلاة عليه عند القبر ممن لم يصل عليه، وعلى القبر بعد أن دفن، خلائق لا عدّ لهم.

 

وقد بلغ من حضر جنازة الإمام أحمد مليون وخمسمائة ألف، قال عبد الوهاب الوراق: "ما بلغنا أن جمعاً في الجاهلية ولا في الإسلام اجتمعوا على جنازة أكثر من الجمع الذي اجتمع على جنازة الإمام أحمد!".

 

وازدحم الناس على قبره بعد دفنه لمدة طويلة لم يعرف له في عصره نظير، يقول أبو الحسن التميمي عن أبيه عن جده: "أنه حضر جنازة الإمام أحمد ابن حنبل، قال: فمكثت طول الأسبوع رجاء أن أصل إلى قبره، فلم أصل من ازدحام الناس عليه، فلما كان بعد أسبوع وصلت إلى القبر.

 

أيها المسلمون: وقريب منه جنازة شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أيضاً كانت جنازته عجباً من العجب!.

 

توفي ليلة الاثنين وقت السحر للعشرين من ذي القعدة سنة سبعمائة وثمان وعشرين للهجرة، بقلعة دمشق التي كان محبوساً بها، فذَكر خبر وفاته مؤذن القلعة على المنارة، وتكلم الحرس على الأبراج، فما أصبح الناس إلا وقد تسامعوا بهذا الخطب العظيم، والأمر الجسيم، فبادر الناس على الفور إلى الاجتماع حول القلعة من كل مكان، وأُذن للدخول عليه لبعض الخواص، يقول ابن كثير: "فكنت ممن حضر هناك مع شيخنا الحافظ المزي -رحمه الله-، وكشفت عن وجه الشيخ، ونظرت إليه وقبلته، وقد علاه الشيب أكثر مما فارقناه، ثم شرعوا في غسل الشيخ، فما فُرغ منه حتى امتلأت القلعة، وضج الناس بالبكاء والثناء والدعاء والترحم، ثم ساروا به إلى الجامع الأموي، والخلائق بين يدي الجنازة وخلفها وعن يمينها وشمالها ما لا يحصي عدتهم إلا الله -تعالى-، فصرخ صارخ وصاح صائح: هكذا تكون جنائز أهل السنة، فتباكى الناس وضجوا، ووضع الشيخ في موضع الجنائز قبل آذان الظهر، والجند قد احتاطوا بها يحفظونها من الناس من شدة الزحام، وصُلي عليه أولاً بالقلعة، ثم صُلي عليه بالجامع الأموي، وجلس الناس من كثرتهم وزحمتهم على غير صفوف، بل مرصوصين رصاً لا يتمكن أحد من السجود إلا بكلفة، وذلك قبل أذان الظهر بقليل، وجاء الخلق من كل مكان، ونوى خلق الصيام؛ لأنهم لا يتفرغون في هذا اليوم لأكل ولا لشرب، وكثر الناس كثرة لا تحد ولا توصف، فلما أذن الظهر أقيمت الصلاة مباشرة على خلاف العادة من زحمة الناس؛ لأنهم لم يتمكنوا من الانتظار، ثم تزايد الجمع إلى أن ضاقت الرحاب والأزقة والأسواق بأهلها ومن فيها، ثم حمل بعد أن صُلي عليه على الرؤوس، وخرج النعش، واشتد الزحام، وعلت الأصوات بالبكاء والنحيب، والترحم عليه، والثناء والدعاء له، وذهبت النعال من أرجل الناس، والعمائم من الرؤوس، لا يلتفتون إليها، وصار النعش يتقدم تارة، ويتأخر تارة، وتارة يقف حتى يمر الناس، وخرج الناس من الجامع من أبوابها كلها وهي شديدة الزحام، كل باب أشد زحمة من الآخر.

 

ثم خرج الناس من أبواب البلد جميعها من كثرة الخلائق، وعظم الأمر بسوق الخيل، وتضاعف الخلق، ووضعت الجنازة هناك، وصلي عليها، ثم حمل إلى المقبرة، وكان دفنه قبل العصر بيسير، وذلك من كثرة من يأتي ويصلي عليه من أهل القرى ممن تأخر في الوصول إلى الجامع، وأغلق الناس حوانيتهم، ولم يتخلف عن الحضور إلا من هو عاجز عن الحضور مع الترحم والدعاء له.

 

وحضر نساء كثيرات حزرن بخمسة عشر ألف امرأة.

 

وأما الرجال، فبلغوا مائتي ألف، وتردد الناس إلى قبره أياماً كثيرة ليلاً ونهاراً.

 

أيها الأحبة: وقد يتساءل البعض، ويقول بأن جنازة الإمام أحمد كانت أعظم من جنازة شيخ الإسلام بأضعاف؟

 

فيجيب على هذا الإشكال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تاريخه، فيقول بأن سبب ذلك: هو كثرة أهل البلد الذي توفي فيه الإمام أحمد عن أهل البلد الذي توفي فيه شيخ الإسلام، فالإمام أحمد توفي في بغداد، وشيخ الإسلام في دمشق، وأهل بغداد عشرة أضعاف أهل دمشق.

 

ثم إن الإمام أحمد كانت الدولة تحبه، بينما شيخ الإسلام توفي في السجن محبوساً من قبل الدولة، ومع ذلك اجتمع لجنازته جمعاً عظيماً لو جمعهم سلطان قاهر لما بلغوا هذه الكثرة.

 

وهناك سبب ثالث ذكره ابن كثير، وهو: أن هناك من علماء السلطة ممن كانوا يذكرون عنه أشياء لعامة الناس مما ينفر منها طباع أهل الأديان، فضلاً عن أهل الإسلام، ومع ذلك قيض الله لجنازته هذه الجموع، فكان يوماً مشهوداً لم يُعهد مثله بدمشق.

 

أيها المسلمون: وجنازة والدنا سماحة الإمام الشيخ/ عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى رحمة واسعة- في الجمعة الماضية، كانت جنازة عظيمة، وكان يوماً مشهوداً، فقد بلغ من صلى عليه -رحمه الله- مليوني مسلم، فما أن سمع الناس بخبر وفاته، حتى انطلقوا من كل صوب نحو مكة، وصار حشد هائل من داخل البلاد وخارجها، فحدثونا من حضر الصلاة عليه أن الجموع كانت في الحرم من الصباح الباكر.

 

وقد صلى عليه أولاده وأحفاده في منزله بعد أن تم غسله قبل أن يصلى عليه في الحرم، وصلت جنازته قرابة الساعة الحادية عشر صباحاً، فما أن أُدخل الحرم إلا وهب الناس قياماً ووقفوا على أقدامهم، ولم يستقروا إلا بعد زمن ووضعت الجنازة تحت المكبرية، قريبة من صحن الحرم، وما أن انتهى خطيب الحرم من الصلاة إلا وتدافع الناس نحو الجنازة، كل يريد أن يشارك في حملها، ولم تصل إلى موضع الصلاة في صحن الحرم إلا بعد زمن، قرابة عشرين دقيقة من زحمة الناس، وكان الضجيج وصراخ الناس.

 

فكبر عليه إمام الحرم التكبيرة الأولى للصلاة عليه، وما يزال أصوات الناس مرتفعة، حتى أن البعض قال: أننا ما سمعنا تكبيرة الإمام من ضجيج الناس.

 

فلما كبر التكبيرة الثانية هدئ الناس قليلاً، فلما كبر التكبيرة الثالثة، فإذا بك تسمع البكاء من كل أرجاء الحرم، وأصوات الناس وهم يبكون وقت الدعاء له يسمع من كل مكان، من الدور العلوي ومن تحت الأروقة ومن صحن الحرم، ثم تدافع الناس بشكل كبير لحمله وقت إخراجه من الحرم في حوالي الساعة الواحدة ظهراً، والذي رأى الجنازة رآها تدور وهي على رؤوس الناس، وما خرجت من الحرم إلا بصعوبة، ثم توجهت هذه الحشود الهائلة نحو المقبرة ليشهدوا دفنه -رحمه الله-، واجتمع مئات الآلاف من الناس حول مقبرة العدل بمكة، حيث دفن فيها الشيخ -رحمه الله رحمة واسعة- وبقي الناس حول قبره بعد دفنه لساعات يدعون له، ويترحمون عليه.

 

ووصفوا لنا الطريق حال خروج الناس من مكة بعد انتهاء دفن الشيخ أنه أشد من موسم الحج، والطريق من مكة إلى الطائف لا تكاد السيارات أن تسير فيه من شدة الزحام.

 

وذكر بعضهم الطوابير على محطات البنزين، وأن المطاعم القريبة من مخرج مكة جهة الطائف قد نفد فيها الطعام من كثرة الناس.

 

جبر الله مصيبتنا وأخلفنا خيراً منها، ورحم الله علماء أهل السنة، وأسكنهم فسيح جناته، وجمعنا بهم، في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

 

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم..

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: لاشك أن موت الشيخ/ عبد العزيز ابن باز، ليس بالأمر الهين، وأن الأمة بأسرها فقدت شخصية من أعظم شخصياتها في هذا الوقت، وأن الشيخ لم يكن رجلاً عادياً في عقله وحفظه، وجهده وبذله وعمله، يتعب الذين يعملون معه ويجهدون والشيخ لديه صبر عجيب، وتحمل لا يوصف، وهو في التسعين من عمره.

 

أيها الأحبة: هذه وقفات يسيرة مع هذا الحادث الجلل:

 

أولاً: يجب أن لا نفقد الأمل بالله -عز وجل-، فالذي أخرج لنا ابن باز سيخرج لنا مثله، أو أفضل منه، وما ذلك على الله بعزيز، توفي الإمام أحمد، فقيض الله لهذه الأمة شيخ الإسلام، وتوفي شيخ الإسلام فقيض الله للأمة أمثال ابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب، وفلان.. وفلان.

 

فهذه الأمة أمة ولود، والخير باق فيها إلى يوم القيامة، أمة الغيث لا يدرى خير أوله أم آخره.

 

ولن نكون نحن أغير على الدين والملة من الله -عز وجل-، فهذا دينه، وهذه شريعته.

 

الذي جعلني أقول هذا الكلام، هو بعض العبارات التي سمعناها بعد وفاة الشيخ، والتي توحي إلى شيء من اليأس.

 

وبعض الأبيات ممن رثا الشيخ فيها شيء من ذلك، وكأنه لا تقوم للإسلام قائمة بعده، وكأن كل الموجودين على الساحة لا ينفعون!.

 

هذه نظرة خاطئة، فنحن لا نعتقد العصمة في ابن باز، وأنه لم يظهر ولن يظهر مثله، وسيقيض الله -جل وتعالى- لهذا الدين من يحمله، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله.

 

ثانياً: إن في الأمة قدرات وطاقات، وأحياناً وجود رجلٍ جبل خضم مثل ابن باز يكون سبباً في عدم ظهور وبروز مثل هذه الطاقات، فالكل معتمد بعد الله على ابن باز، والجميع لا يتكلم والشيخ موجود، فلعل الله أراد بالأمة خيراً.

 

ولعلي أضرب مثالاً لتقريب الصورة، أحياناً يكون هناك رب لأسرة أو أحد الأخوة الكبار قائم بجميع شئون هذه الأسرة صغيرهم وكبيرهم، من حبه وحرصه عليهم لا يترك لأحد مجال، وهناك أربعة أو خمسة من الأبناء وكلهم شباب ورجال لا دور لهم، حتى أن الناظر لهذه الأسرة من خارجها ليظن أن هؤلاء الأربعة أو الخمسة لا خير فيهم، ولا ينفعون حتى أنفسهم؛ لأنه يرى أن العمل منصب على قناة واحدة، فيقدر الله -جل وتعالى- فيموت هذا الأب أو هذا الأخ، وإذا بك تفاجأ بتفجر طاقات وقدرات وعقليات، ما كنت تتوقع منها ذلك.

 

السبب أنها أعطيت الآن فرصة، ومن قبل كان هناك من يقوم بالأمر.

 

ثالثاً: كان للشيخ -رحمه الله- طريقة خاصة في معالجة الأمور، خصوصاً فيما يتعلق بإنكار بعض الأشياء، فالشيخ لا يصرّح، ولا يجرّح، ولا يتكلم بعنف، فله أسلوبه وله طريقته التي من خلالها -رحمه الله- أوقف كثيراً من الأشياء، وأغلق أبواباً من الشر لا يعلمها إلا الله.

 

وما يدرينا لعل أن المجتمع والأمة مقبلة على مرحلة قادمة، لا يصلح لها هذا النوع من التغيير، ولا يناسبها هذه الطريقة من المعالجة، فتحتاج إلى شيء من القوة، وإلى شيء من المصارحة أثناء الطرح، تحتاج فيه إلى نمط آخر من العلماء والدعاة والمصلحين، فطريقة الشيخ وسنّه كان مناسباً لمرحلة مضت، وللمرحلة القادمة ما يناسبها ومن يناسبها -والعلم عند الله تعالى-.

 

رابعاً: لقد أتعب الشيخ -رحمه الله- كثيراً ممن جاء بعده من العلماء، فليست القضية قضية رد على أسئلة الناس فقط.

 

لقد كان للشيخ دعاة في مختلف بقاع العالم تابعين له خاصة، غير الدعاة الرسميين التابعين للدعوة والإرشاد، كان يدفع لهم المرتبات، وينفق عليهم ويتابعهم.

 

هذه قضية لا بد للعلماء بعده أن تكون منهم على بال.

 

هناك آلاف الأسر في الداخل والخارج كان الشيخ يصرف لهم المرتبات، ويعطيهم من الزكوات والصدقات، ويتابع شئونهم، لابد للعلماء بعد الشيخ أن تكون منهم على بال أيضاً.

 

الرسائل والمكاتبات التي كان يرسلها الشيخ يومياً تقريباً إلى بقاع شتى من العالم للمراكز الإسلامية والجامعات ورؤساء الدول والحكومات والهيئات والأشخاص.

 

إما إجابة لسؤال، أو نصيحة، أو توجيه، هذه أيضاً نتمنى أن لا تنقطع بعد موت الشيخ، فتكون منهم على بال.

 

كان الشيخ يفتح قلبه قبل بيته، يومياً بعد المغرب وبعد العشاء وبعد صلاة الجمعة لعامة الناس، للإجابة على أسئلتهم، وحل مشاكلهم وغيرها من الأمور.

 

فلا بد أن يسد هذا النقص عدد من العلماء بعد الشيخ، ولا يصلح أن يعاملوا الناس فقط بأوقات الدوام الرسمي، وبقية الأوقات يرتاحون فيها أو يقضونها مع أولادهم، لا بد للعامة من بعض العلماء يبذلون كل أوقاتهم تقريباً.

 

ولعلهم أن يغطوا شيئاً يسيراً من حاجات الناس، والشيخ -رحمه الله- كان من هذا الصنف.

 

وأيضاً مما يجب أن يكون على بال العلماء بعد الشيخ هو: أن الشيخ -رحمه الله- كان يشفع لكل الناس في أمور مختلفة جداً، ولم يقتصر في علاقته مع الناس على الفتوى فقط، فهذا لم يجد لولده مقعداً في الجامعة كان يذهب للشيخ، وهذا لم يجد لمريضه سريراً في المستشفى يذهب للشيخ، وهذا لا يجد نفقةً للزواج يذهب للشيخ، وهذا يجد مضايقة شرعية في عمله الوظيفي يذهب للشيخ، وعشرات الحالات شبيهة بهذا مما لا عد له ولا حصر.

 

ونحن عندما نذكر هذا الكلام لا نذكره على سبيل المبالغة، بل نعلم عن حالات واقعية من هذا الأمور وغيرها شفع فيها الشيخ بشفاعات حسنة نفعت -بإذن الله -عز وجل-.

 

فهذه ثغرة لا بد للعلماء أن يبذلوا فيها جاههم بعد الشيخ لعامة الناس، ولا يقتصروا على أنفسهم أو أقاربهم.

 

خامساً: هداية بعض الناس بموت العلماء، وقد حصل هذا في موت الإمام أحمد، فقد نقل أن أسلم بعض النصارى أو غيرهم بموته وذلك لما شاهدوه في جنازته.

 

ورأينا نحن في جنائز بعض الصالحين ممن كان لهم أثر ظاهر فيمن حولهم حضور بعض المبتدعة لجنازته تأثراً بموته، وقد حصل تغير في أحوال بعض الناس بسبب موت الشيخ عبد العزيز تأثراً بما سمعوه وشاهدوه.

 

ولعل أن هذا يجعلنا نشير إلى أن بعض الناس قد لا تعرف قيمتهم ووزنهم إلا بعد فقدهم، والعلماء الربانيون من هذا البعض، فالناس قد لا يعرفون قيمة عالمهم وما كان له من دور إلا بعد موته.

 

سادساً: عرف الشيخ -رحمه الله- بلين الجانب، وطيب المعشر، ولطف التعامل، لكنه رحمه الله في نفس الوقت كان قوياً شديداً في إنكار البدع، وكلامه في ذلك قوي معروف منشور.

 

فالشيخ كان مظهراً للسنة، منكراً للبدعة، بجميع أشكالها وألونها، لا يتساهل في ذلك، ولا يداهن، ولا يشارك، ولا تأخذه لومة لائم، وقد عصمه الله -جل وتعالى- في آخر حياته عن أمور سقط فيها غيره، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على إمامته.

 

سابعاً: من المناسب جداً أن تلقى بعض المحاضرات الآن وبعد وفاة الشيخ، أو تؤلف بعض الكتب في مناقبه، ويركز على جوانب الاقتداء بهذا الإمام، وكيف أنه جمع بين العلم والخلق والكرم وغيرها من الصفات التي قل ما تجتمع في شخص؟.

 

وشخصية ابن باز من أهم الشخصيات التي يجب أن تبرز الآن، وبكل وضوح لشباب الصحوة في هذا الوقت ليكون موضع القدوة.

 

ثامناً: نشرت بعض الصحف أموراً لا تنبغي ولا يرضاها الشيخ؛ كنشر صورة السيارة التي كان يركبها، أو الكرسي الذي كان يجلس عليه، وبعض التعليقات غير المناسبة ولا اللائقة بحق الشيخ.

 

رحم الله فقيد الأمة، وأسكنه فسيح جناته، وعوضنا خيراً منه، إنه سميع قريب مجيب.

 

اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.

 

اللهم رحمة اهد بها قلوبنا، واجمع بها شملنا، ولمَّ بها شعثنا، ورد بها الفتن عنا.

 

اللهم صل على محمد ...

 

 

 

المرفقات
وفاة الشيخ ابن باز (2).doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life