وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم

إبراهيم بن صالح العجلان

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: السيرة النبوية
عناصر الخطبة
1/ أحداث وفاة النبي صلى الله عليه وسلم 2/ ذيوع الخبر وانتشار الأحزان 3/ قيمة الدنيا
اهداف الخطبة

اقتباس

كَيْفَ لا يَبْكُونَ وَهُمْ يَرَوْنَ الْجَمَادَاتِ تَتَصَدَّعُ أَلَمًا عَلَى فِرَاقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! فَهَذَا جِذْعٌ كَانَ يَخْطُبُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا اتّخذَ لَهُ الْمِنْبَرَ تَرَكَ الْجِذْعَ، فَصَاحَ الْجِذْعُ كَمَا يَصِيحُ الصَّبِيُّ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاعْتَنَقَهُ، فَجَعَلَ يَهْذِي كَمَا يَهْذِي الصَّبِيُّ الَّذِي يَسْكُنُ عِنْدَ بُكَائِهِ، فَقَالَ: "لَوْ لَمْ أَعْتَنِقْهُ لَحَنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ" ..

 

 

 

 

الْحَمْدُ للهِ الَّذِي حَكَمَ عَلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ بِالْفَنَاءِ، وَاسْتَأْثَرَ لِنَفْسِهِ خَاصَّةً بِالْبَقَاءِ، أَحْمَدُهُ -سُبْحَانَهُ- وَأَشْكُرُهُ عَلَى تَتَابُعِ النَّوَالِ وَالْعَطَاءِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَسْمَاءِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، سَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ، وَإِمَامُ الْحُنَفَاءِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الْجَزَاءِ.

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- حَقَّ التَّقْوَى بِالْخَوْفِ مِنَ الْجَلِيلِ، وَالْعَمَلِ بِالتَّنْزِيلِ، وَالِاسْتِعْدَادِ لِيَوْمِ الرَّحِيلِ: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [الْبَقَرَةِ: 281].

مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ: إِنَّها -وَإِنْ تَعَدَّدَتِ الْمَصَائِبُ، وَتَلَوَّنَتِ الْمِحَنُ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَكْلُومَةِ الْمَرْحُومَةِ- إِلَّا أَنَّهَا رَزِيَّةٌ كُبْرَى، وَرَزِيئَةٌ عُظْمَى، سَتَبْقَى مَحْفُورَةً فِي سِجِلِّ مَصَائِبِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَاجِعَةٌ لَا عَزَاءَ لَهَا، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْسَاهَا التَّارِيخُ، إِنَّها مُصِيبَةُ الْمُسْلِمِينَ بِفَقْدِهِمْ نَبِيّهِمْ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ كَانَتْ وَفَاتُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعْظَمَ حَدَثٍ مَرَّ بِالْمُسْلِمِينَ فَأَذْهَلَ عُقُولَهُمْ، وَزَلْزَلَ أَرْكَانَهُمْ، وَحَيَّرَ أَفْهَامَهُمْ.

فَهَيَّا -عِبَادَ اللهِ- لِنَعِشْ تِلْكَ اللَّحَظَاتِ الَّتِي وَدَّعَ فِيهَا الْمُصْطَفَى -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذِهِ الدُّنْيَا، الدَّارَ الدَّنِيَّةَ، لَعَلَّهَا تَنْفُضُ غُبَارَ الْغَفْلَةِ عَنِ الْقُلُوبِ، وَلَعَلَّهَا تَكُونُ تَسْلِيَةً لأَهْلِ الْمَصَائِبِ الَّذِينَ فَقَدُوا أَحِبَّاءَهُمْ.

اِصْـبِرْ لِكُلِّ مُصـِيبَةٍ وَتَجَلَّدِ *** وَاعْلَمْ بِأَنَّ الْمَرْءَ غَيْرُ مُخَلَّدِ
وَإِذَا أَتَتْكَ مُصِيبَةٌ تَشْجَى بِهَا *** فَاذْكُرْ مُصَابَكَ بِالنَّبِيِّ مُحَمَّد

فَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْخَمِيسِ!! يَوْمٌ زَارَ فِيهِ الْمَرَضُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَهَا هُوَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُهَوِّدُ مِنَ الْبَقِيعِ بَعْدَمَا شَهِدَ جِنَازَةً لِأَحَدِ أَصْحَابِهِ، وَبَيْنَمَا هُوَ فِي الطَّرِيقِ أَخَذَهُ صُدَاعٌ فِي رَأْسِهِ، وَاتَّقَدَتْ عَلَيْهِ الْحَرَارَةُ، وَبَدَتْ عَلَيْهِ مَعَالِمُ التَّعَبِ وَالْإِعْيَاءِ، وَاسْتَمَرَّتْ مَعَهُ تِلْكَ الْحُمَّى أَيَّامًا عِدَّةً.

وَكَانَ هَذَا الْمَرَضُ وَتِلْكَ الْحُمَّى مِنْ آثَارِ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ الَّتِي أَكَلَ مِنْهَا يَوْمَ خَيْبَر عَلَى يَدِ الْمَرْأَةِ الْيَهُودِيَّةِ.

قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: "مَا زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَر تُعَاوِدُنِي، فَهَذَا أَوَانُ انْقِطَاعِ أَبْهَرِي". أَيْ: عُرُوقِي.

فَرَسُولُ الْهُدَى لَقِيَ رَبَّهُ شَهِيدًا قَتِيلًا مَسْمُومًا بَعْدَ مُؤَامَرَةٍ دَنِيئَةٍ حَاكَتْهَا أَيَادِي غَدْرِ وَخِيَانَةِ قَتَلَةِ الْأَنْبِيَاءِ الْيَهُودِ، الَّذِينَ مَا فَتِئُوا يُؤَلِّبُون الْعَدَاءَ وَيَتَوَاصَونَ بِالِاسْتِعْدَاءِ ضِدَّهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَحَالُهُمْ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ:

أُسَاجِلُكَ الْعَدَاوَةَ مَا بَقِينَا *** وَإِنْ مِتْنَا نُوَرِّثُهَا الْبَنِينَ

إِخْوَةَ الإِيمَانِ: نَعُودُ إِلَى مَرَضِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَفِي يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ -أَيْ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ- زَادَتِ الْحُمَّى فِي بَدَنِهِ، وَاشْتَدَّ بِهِ الْوَجَعُ حَتَّى أُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ، فَقَالَ: "هَرِيقُوا عَلَيَّ سَبْعَ قِرَبٍ مِنْ آبَارٍ شَتَّى حَتَّى أَخْرُجَ إِلَى النَّاسِ فَأَعْهَدَ إِلَيْهِمْ". فَفَعَلُوا.

فَخَرَجَ إِلَى النَّاسِ وَهُوَ بَيْنَ عَلِيٍّ وَالْعَبَّاسِ عَاصِبًا رَأْسَهُ، تَخُطُّ قَدَمَاهُ فِي الْأَرْضِ، حَتَّى جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ الصَّحَابَةُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ- يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ قَدْ هَدَّهُ الْإِعْيَاءُ وَالْمَرَضُ، يَنْظُرُونَ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي أَحْيَا قُلُوبَهُمْ وَأَخْرَجَهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.

وَتَشْرَئِبُّ الْأَعْنَاقُ إِلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَمَاذَا يُرِيدُ أَنْ يَقُولَ؟! وَبِأَيِّ شَيْءٍ يُرِيدُ أَنْ يَعْهَدَ؟! فَكَانَ أَوَّل مَا قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، لا تَتَّخِذُوا قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ".

ثُمَّ عَرَضَ نَفْسَهُ لِلْقصَاصِ فَقَالَ: "مَنْ كُنْتُ جَلَدْتُ لَهُ ظَهْرًا فَهَذَا ظَهْرِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ، وَمَنْ كُنْتُ شَتَمْتُ لَهُ عِرْضًا فَهَذَا عِرْضِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ".

ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ عَبْدًا خَيَّرَهُ اللهُ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَهُ"؛ فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَقَالَ: "فَدَيْنَاكَ بِآباَئِنَا وَأُمَّهَاتِنَا!"، بَكَى الصِّدِّيقُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ بِمَقَاصِدِ كَلَامِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَفَهِمَ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذِهِ الْإِشَارَةِ.

وَفِي يَوْمِ الْخَمِيسِ: اشْتَدَّ بِهِ الْوَجَعُ، فَخَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَالْحُمَّى قَدْ تَخَوَّنَتْ جِسْمَهُ، فَأَوْصَاهُمْ بِثَلَاثِ وَصَايَا:

الْوَصِيَّةُ الْأُولَى: إِخْرَاجُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ: "لَا يَجْتَمِعُ فِي الْجَزِيرَةِ دِينَانِ".

الْوَصِيَّةُ الثَّانِيَةُ: إِجَازَةُ الْوُفُودِ بِنَحْوِ مَا كَانَ يُجْيزُهُمْ.

الْوَصِيَّةُ الثَّالِثَةُ: إِنْفَاذُ جَيْشِ أُسَامَةَ.

ثُمَّ جَاءَ وَقْتُ الْمَغْرِبِ فَصَلَّى بِالنَّاسِ فَقَرَأَ بِهِمْ: (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا) [الْمُرْسَلَاتِ:1]، وَعِنْدَ الْعِشَاءِ ثَقُلَ عَلَيْهِ الْمَرَضُ فَلَمْ يَسْتَطِعِ الْخُرُوجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَقَالَ: "أَصَلَّى النَّاسُ؟!"، قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللهِ هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ، قَالَ: "ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ"، فَفَعَلُوا، فَاغْتَسَلَ، فَذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ.

ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: "أَصَلَّى النَّاسُ؟!"، قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللهِ هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ، فَقَالَ: "ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ"، فَاغْتَسَلَ الثَّانِيَةَ ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ فَقَالَ: "أَصَلَّى النَّاسُ؟!"، قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللهِ هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ، ثُمَّ اغْتَسَلَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: "مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ"؛ فَصَلَّى بِهِمْ أَبُو بَكْرٍ بَقِيَّةَ الْأَيَّامِ.

وَعَاشَ النَّاسُ فِي تِلْكَ الْأَيَّامِ فِي هَمٍّ وَحُزْنٍ خَوْفًا عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كَأَنِّي بِهِمْ -وَاللهِ- وَإِنَّ أَحَدَهُمْ يَتَمَنَّى أَنَّ هَذِهِ الْحُمَّى فِيهِ أَوْ فِي أَحَدِ بَنِيهِ وَلَيْسَتِ فِي رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

وَفِي يَوْمِ السَّبْتِ: وَجَدَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خِفّةً، فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَصَلَّى مَعَ النَّاسِ صَلَاةَ الظُّهْرِ، فَاسْتَبْشَرَ الْمُسْلِمُونَ بِخُرُوجِهِ خَيْرًا، وَهَنَّأَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَرَحًا بِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

وَفِي يَوْمِ الْأَحَدِ: أَعْتَقَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غِلْمَانَهُ، وَتَصَدَّقَ بِسَبْعَةِ دَنَانِيرَ كَانَتْ مَوْجُودَةً عِنْدَهُ، وَوَهَبَ أَسْلِحَتَهُ لِلْمُسْلِمِينَ.

إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: وَبَزَغَ فَجْرُ يَوْمِ الاِثْنَيْنِ آخِرُ يَوْمٍ مِنْ حَيَاتِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَبَيْنَمَا الصَّحْبُ الْكِرَامُ صُفُوفًا خَلْفَ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ، لَمْ يَفْجَأْهُمْ إِلَّا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ كَشَفَ سِتْرَةَ حُجْرَتِهِ فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَكُ كَأَنَّ وَجْهَهُ الْقَمَرُ إِذَا كَمُلَ بَدْرُهُ، فَلَمَّا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ هَمُّوا أَنْ يُفْتَنُوا فِي صَلَاتِهِمْ فَرَحًا بِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ بِيَدِهِ أَنْ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ، ثُمَّ دَخَلَ الْحُجْرَةَ وَأَرْخَى السِّتْرَ.

فَاطْمَأَنَّتْ نُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ، وَسَكَنَتْ قُلُوبُهُمْ، وَظَنُّوا أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ عَادَ إِلَى صِحَّتِهِ وَتَشَافَى مِنْ مَرَضِهِ، وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ النَّظَرَةَ هِيَ النَّظْرَةُ الْأَخِيرَةُ، نَظْرَةُ الْوَدَاعِ، وَأَنَّهُ لَنْ يَخْرُجَ مِنْ هَذِهِ الْحُجْرَةِ أَبَدًا.

وَلَمَّا ارْتَفَعَ الضُّحَى دَعَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ فَسَارَّهَا بِشَيْءٍ فَبَكَتْ، ثُمَّ دَعَاهَا فَسَارَّهَا بِشَيْءٍ فَضَحِكَتْ.

تَقُولُ عَائِشَةُ: فَسَأَلْنَاهَا عَنْ ذَلِكَ -أَيْ: بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: "سَارَّنِي أَنَّهُ يُقْبَضُ فِي وَجَعِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَبَكَيْتُ، ثُمَّ سَارَّنِي فَأَخْبَرَنِي أَنِّي أَوَّلُ أَهْلِهِ يَتْبَعُهُ فَضَحِكْتُ".

ثُمَّ دَعَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، وَأَوْصَى بِهِمَا خَيْرًا، وَدَعَا أَزْوَاجَهُ فَوَعَظَهُنَّ وَذَكَّرَهُنَّ، ثُمَّ بَدَأَ الْوَجَعُ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ وَيَزِيدُ، فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ الْكَرْبَ الشَّدِيدَ الَّذِي يَتَغَشَّى أَبَاهَا قَالَتْ: وَاكَرْبَ أَبَاهُ! فَقَالَ لَهَا: "لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ".

وَبَيْنَمَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَارِعُ وَيَتَجَرَّعُ هَذِهِ الْكُرَبَ أَرَادَ أَنْ يُوصِيَ أُمَّتَهُ بِأَهَمِّ وَصِيَّةٍ وَأَعْظَمِ أَمْرٍ فِي هَذَا الدِّينِ، فَأَخَذَ يُنَادِي بِصَوْتٍ مُنْكَسِرٍ قَدْ هَدَّهُ الْمَرَضُ: "الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ! الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ! الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ!".

وَفِي تِلْكَ اللَّحَظَاتِ دَخَلَ عَلَيْهِ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّه وَابْنُ حِبِّهِ، وَكَانَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- قَدْ جَهَّزَ لَهُ جَيْشًا وَأَمَّرَهُ، فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَفَعَ يَدَيْهِ، وَمَا سَمِعَ لَهُ كَلَامًا، يَرْفَعُ يَدَيْهِ ثُمَّ يَرُدُّهَا، يَرْفَعُهَا ثُمَّ يَرُدُّهَا، قَالَ أُسَامَةُ: فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يَدْعُو لِي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

وَأَسْنَدَتْهُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فِي حِجْرِهَا، فَدَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَبِيَدِهِ سِوَاكٌ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، تَقُولُ عَائِشَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُرِيدُ السِّوَاكَ، فَقُلْتُ: آخُذُ لَكَ؟! فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ، فَتَنَاوَلْتُهُ وَقُلْتُ: أُلَيِّنُهُ لَكَ؟! فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ أَنْ نَعَمْ، فَلَيَّنْتُهُ، فَاسْتَنَّ بِهَا كَأَحْسَنِ مَا كَانَ مُسْتَنًّا.

ثُمَّ بَدَأَ الِاحْتِضَارُ بِرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَزِفَ الرَّحِيلُ، وَحَضَرَ الْأَجَلُ، وَحَانَ الْفِرَاقُ وَالْوَدَاعُ، فَجَعَلَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُدْخِلُ يَدَهُ فِي ركْوَةٍ فِيهَا مَاءٌ فَيَمْسَحُ بِهَا وَجْهَهُ وَيَقُولُ: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ! إِنَّ لِلْمَوْتِ لَسَكَرَاتٍ! اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيَّ سَكَرَاتِ الْمَوْتِ".

ثُمَّ ارْتَفَعَتْ عَلَيْهِ سَكَرَاتُ الْمَوْتِ، وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ النَّزْعُ فَعَرِقَ جَبِينُهُ، وَظَهَرَ أَنِينُهُ، وَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ، وَحَشْرَجَ صَدْرُهُ، وَاقْشَعَرَّ جِلْدُهُ، وَتَشَنَّجَتْ أَصَابِعُهُ، حَتَّى بَكَى لِمَصْرَعِهِ مَنْ حَضَرَهُ، ثُمَّ رَفَعَ أَصْبُعَهُ السَّبَّابَةَ، وَشَخَصَ بَصَرُهُ نَحْوَ السَّقْفِ، وَتَحَرَّكَتْ شَفَتَاهُ، فَأَصْغَتْ إِلَيْهِ عَائِشَةُ فَسَمِعَتْهُ يَقُولُ: "(فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِين) [النِّسَاءِ:69]، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَأَلْحِقْنِي بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى، اللَّهُمَّ الرَّفِيقَ الْأَعْلَى". ثُمَّ مَالَتْ يَدُهُ وَلَحِقَ بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى.

فَأَكَبَّتْ عَلَيْهِ ابْنَتُهُ فَاطِمَةُ وَأَخَذَتْ تُنَادِي بِحَسْرَةٍ وَأَلَمٍ: يَا أَبَتَاهُ! أَجَابَ رَبًّا دَعَاه، يَا أَبَتَاهُ! جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاه، يَا أَبَتَاهُ! إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهُ.

وَمَاتَ حَبِيبُ الرَّحْمَنِ، مَاتَ رَسُولُ الْهُدَى الشَّفِيقُ الرَّحِيمُ بِأُمَّتِهِ، مَاتَ شَمْسُ الْحَيَاةِ وَبَدْرُهَا، مَاتَ مَنْ بَكَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ لِمَوْتِهِ.

وَتَسَرَّبَ هَذَا النَّبَأُ الْفَادِحُ إِلَى الْمَدِينَةِ بِسُرْعَةٍ مُذْهِلَةٍ، وَوَقَفَ الصَّحَابَةُ فِي مَوْقِفٍ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ، وَفِي دَهْشَةٍ عَظِيمَةٍ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وَقَفُوا فِي دَهْشَةٍ وَحَيْرَةٍ وَهُمْ بَيْنَ مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ.

طَوَى الْجَزِيرَةَ حَتَّى جَاءَنِي خَبَرُ *** فَـزِعْتُ فِـيهِ بِآمَالِي إِلَى الْكَذِبِ
حَتَّى إِذَا لَمْ يَدَعْ لِي صِدْقُهُ أَمَلاً *** شَرِقْتُ بِالدَّمْعِ حَتَّى كَادَ يَشْرَقُ بِي

فَمِنْهُمْ مَنِ انْعَقَدَ لِسَانُهُ فَلَمْ يُطِقِ الْكَلَامَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَبِثَ مَكَانَهُ فَلَمْ يُطِقِ الْقِيَامَ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَعِقَ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَادَ أَنْ يُوَسْوَسَ.

وقام عمر على المنبر، وهدد وأرعد وتوعد، وحذر الناس بأن تلك دعوى أطلقها المنافقون، فأصبح الناس في أمر مَريج، وفي فوضى مدلهمة.

وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- غَائِبًا فِي مَزْرَعَتِهِ، وَمَا أنْ سَمِعَ الْخَبَرَ حَتَّى جَاءَ عَلَى فَرَسِهِ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَرَأَى هَلَعَ النَّاسِ وَاضْطِرَابَهُمْ، فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا حَتَّى دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ، فَرَأَى رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُغَطّى بِثَوْب حبرَةٍ، فَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ أَكَبَّ عَلَيْهِ وَقَبَّلَهُ وَبَكَى، ثُمَّ قَالَ: "بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي! وَاللهِ لَا يَجْمَعُ اللهُ عَلَيْكَ مَوْتَتَيْنِ أَبَدًا! أَمّا الْمَوْتَةُ الّتِي كُتِبَتْ عَلَيْكَ فَقَدْ مِتّهَا".

ثُمَّ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّاسِ وَعُمَرُ قَائِمٌ يُهَدِّدُ وَيَتَوَعَّدُ، فَقَالَ: اجْلِسْ يَا عُمَرُ، فَأَبَى عُمَرُ أَنْ يَجْلِسَ، فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ، فَأَقْبَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ وَتَرَكُوا عُمَرَ.

فَتَكَلَّمَ الصِّدِّيقُ، تَكَلَّمَ رَجُلُ السَّاعَةِ، تَكَلَّمَ بَطَلُ الْمَوْقِفِ، فَقَالَ:

أَمَّا بَعْدُ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ اللهَ فَإِنَّ اللهَ حَيٌّ لا يَمُوتُ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) [آلِ عِمْرَانَ:144-145].

فَلَمَّا سَمِعَ عُمَرُ هَذِهِ الْآيَةَ سَقَطَ عَلَى الْأَرْضِ حَتَّى مَا حَمَلَتْهُ رِجْلُهُ، وَتَيَقَّنَ النَّاسُ الْخَبَرَ فَضَجُّوا بِالْبُكَاءِ وَارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ.

يَقُولُ أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيُّ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَلأَهْلِهَا ضَجِيجٌ بِالْبُكَاءِ كَضَجِيجِ الْحَجِيجِ أَهَلُّوا جَمِيعًا بِالْإِحْرَامِ، فَقُلْتُ: مَهْ! قَالُوا: قُبِضَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

كَيْفَ لا يَبْكُونَ وَهُمْ يَرَوْنَ الْجَمَادَاتِ تَتَصَدَّعُ أَلَمًا عَلَى فِرَاقِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟! فَهَذَا جِذْعٌ كَانَ يَخْطُبُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلَمَّا اتّخذَ لَهُ الْمِنْبَرَ تَرَكَ الْجِذْعَ، فَصَاحَ الْجِذْعُ كَمَا يَصِيحُ الصَّبِيُّ، فَنَزَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاعْتَنَقَهُ، فَجَعَلَ يَهْذِي كَمَا يَهْذِي الصَّبِيُّ الَّذِي يَسْكُنُ عِنْدَ بُكَائِهِ، فَقَالَ: "لَوْ لَمْ أَعْتَنِقْهُ لَحَنَّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ".

حَتَّى الْمَحَارِيبُ تَبْكِي وَهِيَ جَامِدَةٌ *** حَتَّى الْمَنَابِرُ تَرْثِي وَهِيَ عِيدَانُ

أَمَّا حَالُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ وَفَاتِهِ فَلا تَسْأَلْ عَنْ حَالِهِمْ، تَغَيَّرَتْ عَلَيْهِمُ الدُّنْيَا، وَأَظْلَمَتْ عَلَيْهِمُ الْمَدِينَةُ، وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ.

يَقُولُ أَنَسٌ: رَأَيْتُهُ يَوْمَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ فَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا قَطُّ كَانَ أَحْسَنَ وَلا أَضْوَأَ مِنْ يَوْمٍ دَخَلَ عَلَيْنَا فِيهِ، وَشَهِدْتُهُ يَوْمَ مَوْتِهِ فَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا كَانَ أَقْبَحَ وَلا أَظْلَمَ مِنْ يَوْمٍ مَاتَ فِيهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

تَكَدّرَ مِن بَعْدِ النّبِيِّ مُحَمَّدٍ *** عَلَيْهِ السَّلَامُ كُلُّ مَا كَانَ صَافِيًا

يَنْظُرُونَ إِلَى آثَارِهِ، إِلَى حُجُرَاتِهِ، إِلَى مِنْبَرِهِ، إِلَى مُصَلَّاهُ وَمَمْشَاهُ، إِلَى ذِكْرَيَاتِ كَلامِهِ، فَلَمْ يَرَوْا ذَلِكَ الْمُرَبِّيَ وَالْمُعَلِّمَ، وَلَمْ يَعُودُوا يَرَوْنَ ابْتِسَامَاتِ وَجْهِهِ الَّذِي كَانَ كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ.

وَاسْتَمَرَّتْ مَعَهُمْ تِلْكَ الأَحْزَانُ وَالأَشْجَانُ زَمَنًا طَوِيلاً، فَهَذَا عُثْمَانُ يَقُولُ: "بَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ فِي أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ قَدْ بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، إِذْ مَرَّ بِي عُمَرُ فَسَلَّمَ عَلَيَّ فَلَمْ أَشْعُرْ بِهِ؛ لِمَا بِي مِنَ الْحُزْنِ وَالْغَمِّ".

أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) [الزُّمَر:30-31].

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِهَدْيِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ.

 

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ للهِ وَكَفَى، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى عَبْدِهِ الْمُصْطَفَى، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اجْتَبَى.

أَمَّا بَعْدُ:

فَيَا عِبَادَ اللهِ: إِنَّ فِي مَوْتِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَعِبْرَةً لِمَنْ تَأَمَّلَ وَتَفَكَّرَ، وَعِظَةً لِمَنْ تَعَقَّلَ وَتَذَكَّرَ، فَمَا أَحْوَجَنَا أَنْ نَذْكُرَ وَنَتَذَكَّرَ هَذَا الْمَصِيرَ الْمَحْتُومَ، وَالنِّهَايَةَ الْمَكْتُوبَةَ!!

إِنَّهُ الْمَوْتُ! تِلْكَ الْكَلِمَةُ الَّتِي تَرْتَجُّ لَهَا الْقُلُوبُ، وَتَقْشَعِرُّ مِنْهَا الْجُلُودُ، وَتَفِيضُ مِنْ هَوْلِهَا الْعُيُونُ، كَيْفَ لَا وَقَدْ أَسْمَاهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي كِتَابِهِ بِالْمُصِيبَةِ، قَالَ -تَعَالَى-: (فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ) [الْمَائِدَةِ:106].

مَا ذَكَرَ إِنْسَانٌ الْمَوْتَ إِلَّا أَحَسَّ بِالْوَجَلِ، وذَلِكَ مِنْ طُولِ الْأَمَلِ، وَنَدِمَ عَلَى تَفْرِيطِهِ فِي الْعَمَلِ.

كَفَى بِالْمَوْتِ وَاعِظًا، وَعَنِ الْهَوَى زَاجِرًا! كَفَى بِهِ قَاطِعًا للأُمْنِيَاتِ، وَمُزَهِّدًا فِي الْمَلَذَّاتِ.

تَذَكُّرُ الْمَوْتِ -إِخْوَةَ الْإِيمَانِ- يَرْدَعُ عَنِ الْمَعَاصِي، وَيُلَيِّنُ الْقَلْبَ الْقَاسِيَ، وَيُهَوِّنُ عَلَى الْعَبْدِ مَصَائِبَ الدُّنْيَا فَلا يَتَحَسَّرُ عَلَى شَيْءٍ فَاتَ مِنْهَا.

فَيَا غَافِلاً فِي مَلَذَّاتِهِ، يَا سَادِرًا فِي شَهَوَاتِهِ، يَا مُضَيِّعًا لِصَلَوَاتِهِ، تَذَكَّرِ الْمَوْتَ وَسَاعَتَهُ، وَهَوْلَهُ وَسَكْرَتَهُ، وَصُعُوبَةَ كَأْسِهِ وَمَرَارَتَهُ.

اِعْلَمْ -أَخِي- أَنَّهُ مَهْمَا طَالَتْ سَلَامَتُكَ سَيَأْتِي الْيَوْمُ الَّذِي فِيهِ سَتُصْرَعُ، وَعَنِ الْعَمَلِ وَالْخَيْرِ سَتُمْنَعُ، وَلِكَأْسِ الْمَنِيَّةِ سَتَبْلَعُ.

سَيَأْتِي الْيَوْمُ الَّذِي سَتُحْمَلُ فِيهِ عَلَى الأَكْتَافِ، وَيُقَالُ عَنْكَ: "رَحِمَهُ اللهُ"، وَسَتَبْقَى رَهْنَ عَمَلِكَ، مُجَنْدَلًا فِي قَبْرِكَ، مُتَحَسِّرًا عَلَى وِزْرِكَ.

وَكُلُّ فَتًى وَإِنْ أَثْرَى وَأَمْشَى *** سَتَخْلجُهُ عَنِ الدُّنْيَا الْمَنُونُ

فَبَادِرْ أَخِي الْمُقَصِّرَ -وَكُلُّنَا ذَاكَ الْمُقَصِّرُ- بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وَالْعَوْدَةِ الْحَمِيدَةِ إِلَى طَرِيقِ الطَّاعَةِ وَنُورِ الِاسْتِقَامَةِ، فَرَبُّكَ الرَّحِيمُ الْكَرِيمُ يَفْرَحُ بِعَبْدِهِ إِذَا تَابَ، وَصَدَقَ مَعَ رَبِّهِ وَأَنَابَ.

وَاعْلَمْ -أَخِي الْمُبَارَكَ- أَنَّ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا، بِمُلْكِهَا وَزَهْرَتِهَا، وَلَذَّاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا لا تُسَاوِي عِنْدَ مَنْ عِنْدَهُ ذَرَّةُ عَقْلٍ غَمْسَةً وَاحِدَةً مِنْ غَمَسَاتِ جَهَنَّمَ، أَعَاذَنَا اللهُ مِنْ جَهَنَّمَ.

لَا تَغْتَرَّ -أَخِي الْمُبَارَكَ- أَنَّكَ تَتَقَلَّبُ فِي صِحَّةٍ وَعَافِيَةٍ وَآمَالٍ وَإِمْهَالٍ.

فَـكَمْ مِنْ صَحِيحٍ مَاتَ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ *** وَكَمْ مِنْ سَـقِيمٍ عَاشَ حِينًا مِنَ الدَّهْرِ
وَكَمْ مِنْ فَتًى أَمْسَى وَأَصْبَحَ ضَاحِكًا *** وَأَكْفَانُهُ فِي الْغَيْبِ تُنْسَجُ وَهُوَ لا يَدْرِي

نسأل الله أَنْ يُحْسِنَ خَاتِمَتَنَا، وَيَرْضَى عَنَّا، وَيُجِيرَنَا مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الْآخِرَةِ.

عِبَادَ اللهِ: صَلُّوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى خَيْرِ الْبَرِيَّةِ، وَأَزْكَى الْبَشَرِيَّةِ.
 

 

 

 

المرفقات
وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم1.doc
التعليقات
زائر
21-10-2021

جزاكم الله خيرا

زائر
05-05-2022

جزاكم الله خير وبـارك الرحمن فيكم 

أخوكم منصور من مصـر 🇪🇬

زائر
20-10-2022

بارك الله فيكم وجزاكم الله خير الجزاء 

زائر
04-05-2023

جزاكم الله خيرا

 

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life