اقتباس
ليس العقل مصدرا للعلم خلافًا للفلاسفة ومن تبعهم من المتكلمين الذين كلّفوه ما لا طاقة له به، وهذا هو أسُّ ضلالهم وجهلهم، ومنبع تيههم وسفههم؛ فالعقل لا يُوَلِّد علما، ولا يُنْتِج معرفة، فمثلاً إذا كان الإنسان لم ير التاجر محلا ولم يسمع به؛ فإنه لا يهتدي إليه بعقله، بل ولا يسنح له ولا يخطر بباله، وإذا...
قالوا: الفلاسفة من أهل العقل والنظر وأولي الحَصافة والنُّهى، فمِمَّ تضاربُهم في الأقوال وتباينُهم في الآراء؟ ولِمَ تنازعوا بينهم هذا التنازعَ المَشِين الذي لم يُسمع بمثله في طائفة من طوائف العلم ولا فئة من فئاته؟
قلت: لأنهم غلطوا في مصادر العلم وعوَّلوا على الخرص والظن، فضلوا وأضلوا.
قالوا: فما هي مصادر العلم؟
قلت: الفطرة، والحواسُّ الخمس، والوحي.
قالوا: كيف حسبت الفطرة مصدرا للعلم، وقد قال الله -تعالى-: (وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [النحل: 78]؟
قلت: المراد بالآية العلم الخارجي الذي يكسبه الإنسان بحواسه، ولم أقصده، وإنما قصدت العلم الجذري المُودع في الخَلْق، فالإنسان مفطور على معرفة ربه والتبتل إليه والتمييز بين الحسن والقبح، والالتذاذ بالخير، والتألم بالشر، قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) [الروم: 30]، وقال: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) [الشمس: 7 - 8].
قالوا: فأين يقع العقل من هذه المصادر؟
قلت: ليس العقل مصدرا للعلم خلافًا للفلاسفة ومن تبعهم من المتكلمين الذين كلّفوه ما لا طاقة له به، وهذا هو أسُّ ضلالهم وجهلهم ومنبع تيههم وسفههم، فالعقل لا يُوَلِّد علما ولا يُنْتِج معرفة، فمثلاً إذا كان الإنسان لم ير التاج محل ولم يسمع به، فإنه لا يهتدي إليه بعقله بل ولا يسنح له ولا يخطر بباله، وإذا وُضِع بين يديه طعام فإنه لن يجد إلى لذته بعقله سبيلا، وكذلك الروائح لا تُشمُّ والملموسات لا تُلمَس بالعقول، وما أعجز العقل وأعياه أن يُلاحق ما وراء الحواس أو يتوهمه توهما.
قالوا: فما هي وظيفة العقل إذاً؟
قلت: إن للعقل أربع وظائف:
1- يحفظ المعلومات المكتسبة من مصادرها.
2- وينسِّق بينها ويوفِّق توفيقا.
3- ثم يطوِّرها وينمِّيها.
4- ويعجم عُودها ويختبرها اختبارا، فمثلا إذا استفاد الإنسان أن "أ" تساوي "ب" وأن "ب" تساوي "ج" حفظ العقل كلتا القضيتين، ونسّق بينهما تنسيقًا يطورهما إلى قضية ثالثة، وهي أن "أ" تساوي "ج"، ولو أن امرءًا جعل القضية الثالثة: "أ" تساوي "د" بيّن العقل خطأها.
قالوا: دع التجريد، واشرح أدوار العقل الأربعة بمثال حقيقي؟
قلت: قال الله -تعالى-: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ) [الفتح: 29]، وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ) [النساء: 64]، فحفظ العقل القولين، ونسَّق بينهما، ثم طورهما إلى قول ثالث: "لم يرسل محمد إلا ليطاع بإذن الله"، فإذا عصاه مؤمن نبَّه العقل على خطئه وردَّه إلى الطاعة.
قالوا: بَصِّرنا بغلط الفلاسفة وأذيالهم من المتكلمين في وعي وظيفة العقل.
قلت: ينحصر غلطهم في ثلاث نقاط:
الأولى: ظَنوه مصدرا للعلم، وهل يتوارى عن أحد فشلُ العقل ووهيُ أسبابه وضعفُ قواعده في إدراك ما تدركه الحواس؟ وأنَّى للعقل أن يبصر أو يسمع أو يذوق أو يشم أو يلمس؟ وأنى له أن يتسرب إلى مكامن العلم الفطري، أو يسَّمَّع إلى الوحي الإلهي؟
الثانية: أنهم لم يعرفوا حد العقل:
1- الذي يطوِّر المعلوم ويتوصل به إلى المجهول غير متمكن من أن يُنشئ تحصيلَ المجهول وتطويره.
2- والذي يطوِّر المعلوم ويختبره منحصرًا في دائرة معينة ومقتصرًا عليها غير متجاوز عنها، مجانسًا للحواس الخمس الظاهرة وموازيًا لها، والتي لا تخترق حدودها ولا تتعداها.
الثالثة: أنهم خلطوا بين العقل الشخصي والعقل العلمي.
قالوا: ماذا أردت بالعقل الشخصي والعقل العلمي؟
قلت: العقل الشخصي الذي يصدُر عن عادة شخص أو قوم وميولهم واتجاهاتهم ورسومهم وحضاراتهم، والعقل العلمي هو الذي يستقي مواده من مصادر العلم، الأول هوى، والثاني هو العقل السليم، فمثلا كل إنسان يُفضِّل طعام قومه الذي نشأ عليه ملتذا به، فهذا خنوع للهوى واستخذاء له، وإذا فضّل شخص طعامًا؛ لأنه أوفقُ لجسده صحة وقوة، فهذا اتباع للعقل السليم، وإن أغلب ترجيحات الفلاسفة والمتكلمين وتفضيلاتهم شرقًا وغربًا، وقديمًا وحديثًا من زمرة الاستسلام للأهواء وإعطائها القِياد.
قالوا: هل ينشئ العقلُ العلمَ بالله إنشاءًا؟
قلت: لا، كما لا ينشئ علمَ المحسوسات، وإنما يُكتسَب علمُ كل شيء من مصدره الذي جعله الله له، ثم يقوم العقل بتطوير المعلومات واختبارها، فالعلم بالله -تعالى- مصدره الفطرة، والعقل يطور هذا العلم ويزيده مستعينًا بأدلة أخرى ومنسقًا بينها وموفِّقًا، وهذا هو المنهج الذي علّمنا الله -تعالى- في كتابه، حيث ردَّ العلمَ بنفسه إلى فطرة الناس، وأمدَّه بالاستدلال بآياته المشهودة في خلقه، وبآياته المتلوة في كتابه، ولو لم يكن علم الله ثابتا راسخًا لدى الفطرة لما تحققت دلالة الآيات عليه.
قالوا: أفلم يقرر الفلاسفة والمتكلمون الصانع، وواجب الوجود، وعلة العلل، والعلة الأولى، والمحرِّك الأول بعقولهم؟
قلت: خُدِعتم بإطلاقاتهم الزائغة، واغتررتم بدلالاتها السمجة، ومعانيها المنكرة، وفي بعضها من الانحراف والضلال ما يفتقر إلى تجلية وبيان، وأردأُ من ذلك وأبشعُ منهجُهم في الاستدلال والاحتجاج، والذي إذا دخل الحكمة أفسدها واستجهل موضعها.
قالوا: لو رفعتَ اللثام عن شناعة مقالاتهم وفساد مسالكهم؟
قلت: أبشروا، وقد أعجبني نهمكم للعلم إعجابا، وأمعنوا النظر فيما فسّرت لكم متقنين له إتقانًا.
التعليقات