عناصر الخطبة
1/ضرورة اغتنام الحياة وحفظ الأوقات 2/الوصية بإصلاح القلب وترقيقه 3/من علامات توفيق الله للعبد 4/الوصية بحسن الخلق 5/تقوى الله خير زاداقتباس
إذا أقبلت الفتنُ فلا تخوضوا فيما لا يعنيكم، والزموا الصمتَ وتمسَّكوا بالسُّنَّةِ، وما أشكل عليكم فِقُفوا وقولوا: اللهُ أعلمُ، وإذا احتجتُم فاسألوا أهلَ العلمِ الثقاتِ الأثباتَ، ولا تتجاوزوهم؛ فالمتعجِّل يقول قبل أن يعلم، ويُجيب قبل أن يَفهم...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، جَعَلَ لكل شيء قَدَرًا، وأحاط بكل شيء خُبْرًا، وأسبل على الخلائق من فضله سِتْرًا، أحمده -سبحانه- على جزيل نعمائه شكرا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة أدخرها ليوم العرض في الأخرى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، أرسله للعالمين كافةً، عُذْرًا ونُذْرًا، فقام بالدعوة إلى الله سِرًّا وجهرا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه، ورضي الله عنهم وأرضاهم وأعظم لهم أجرا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليما كثيرا يترى.
أما بعد: فأوصيكم ونفسي -أيها الناس- بتقوى الله، فاتقوا الله -رحمكم الله-، فتقوى الله هي الوصية الجامعة، والموعظة النافعة، فاتقوه واعلموا أنكم ملاقوه، واحذروه واذكروه، واشكروا له واستغفروه، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)[الطَّلَاقِ: 2-3].
أيها المسلمون: اغتَنِموا حياتَكم، واحفَظُوا أوقاتَكم، فالأيام محدودة، والأنفاس معدودة، وكل دقة قلب ينقص بها العمرُ، وكلُّ نَفَس يُدني من الأجل، واعلموا أن هذا العمل قصير، هو السبيل إلى حياة الخلود، فإما نعيم مقيم، وإما عذاب أليم، عياذًا بوجه الله الكريم، وإذا وازَنَ العاقلُ هذه الحياةَ القصيرةَ بالخلود المنتَظَر عَلِمَ أن كل نَفَسٍ من أنفاسه في هذه الدنيا يَعدِلُ أحقابًا وأحقابًا، وآلافا مؤلَّفة من الأعوام والسنين لا تنقضي ولا تتناهى في نعيم لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، نسأل الله الكريم من فضله، فالعاقل لا يضيع نفيس عمره بغير عمل صالح، وإنه لَيحزن على ما يذهب منه بغير عِوَض.
وإذا كان كذلك -يا عباد الله- فاعتَبِروا بقوارع العِبَرِ، وتدبَّروا بسوابق الخبر، وتفكَّروا في حوادث الأيام والغِيَرِ، ففيها المعتَبَر والمزدَجَر، واحذروا زخارفَ الدنيا الْمُضِلَّة، فمَنْ تَكَثَّرَ منها لم يزدد بها إلا قلةً، فأهل الدنيا ينظرون إلى الرئاسات ويحبون الجمع والثناء والمكاثَرَات، ويقتلهم التحاسد والتنافس، والتهارج والتهارش، وأهل الآخرة لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، و (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الْحَشْرِ: 10].
يا عبد الله: أيُّ نَفْس لم تحمل ظُلما؟! وأي جارحة لم تقترف إثما؟! فرقِّقُوا قلوبَكم -وفَّقَني اللهُ وإياكم- بذكر هاذم اللذات، فعَلَّها أنْ تَلينَ، وعِظُوها بفتنة القبر، فهو حق يقين، وذَكِّروها بيوم الحساب، فهو علم اليقين وعين اليقين، يوم خضوع الرقاب، وتقطُّع الأسباب وقطيعة الأنساب، (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ)[النَّبَإِ: 40]، (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشُّعَرَاءِ: 88-89]، (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ)[الِانْفِطَارِ: 19]، وإن ما توعدون لآت، وليس بين العبد وبين القيامة إلا الممات.
واعلموا -رحمني الله وإياكم- أن من علامات توفيق الله للعبد تيسير الطاعة وموافَقَة السُّنة وصحبة أهل الصلاح، وبذل المعروف، وحفظ الوقت، والاهتمام بشئون المسلمين؛ فكن -يا عبد الله- سليم الصدر، نقي القلب، أَحِبَّ لأخيك ما تُحِبُّ لنفسك، واعلم أن سعادة غيرك لا تأخذ من سعادتك، وغناه لا ينقص من رزقك، وصحتُه لا تُسلب عافيتك، ومن رَفَقَ بعباد الله رَفَقَ اللهُ به، ومن رحمهم رحمه، ومن نفعهم نفعه، ومن سترهم ستره، ومن أحسن إليهم أحسن الله إليه، فالله -تعالى- لعبده كما يكون العبد لخلقه.
وتأمَّلْ قولَه -عز شأنه-: (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ)[الْقَصَصِ: 77]، فجميل أن يكون إحسانُكَ من جنس إحسان الله إليكَ، فإن كان رزقا فتصدَّقْ، وإن كان علما فعَلِّمْ، وإن سعادة فمَنْ حَوْلَكَ أَسْعِدْ.
والتغافل عن الزلات من أرقى شِيَم الكرام، فكلُّ الناس خطاؤون، ومن تتبع الزلات تَعِبَ وأتعب، والعاقل مَنْ ينصرف عن ذلك كله؛ لتصفوَ له عشرتُه، وتحلو له مجالسه، ويسلم له دِينُه وعِرْضُه.
ومن حسب كلامه من عمله قلَّ كلامُه إلا فيما يعنيه، وأعظم ما يدخره العبد صدق الحديث، وترك ما لا يعني، وسلامة قلب، والورع في الخلوات، وحُسْن الخُلُق مع الديانة، وصدق الإخاء مع الأمانة.
معاشرَ الأحبةِ: ومن دلائل ذوق حلاوة الإيمان وتذوق طعم الطاعات: طمأنينة القلب، وانشراح الصدر، والإقبال على الخير، وحُبُّ الدِّينِ، والغَيرة على الحرمات، ومودة أهل الصلاح، والسعي في عز المؤمنين، وقد سئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: ما خير ما أُعطِيَ الإنسانُ، فقال: "حُسْنُ الخُلُقِ" (رواه البخاري في الأدب المفرد بإسناد صحيح).
وإن من علامات حسن الخلق: قلة الخلاف وترك تطَلُّب العثرات، والتماس الأعذار، واحتمال الأذى، وطلاقة الوجه، ولين الكلام، والانشغال بعيوب النفس.
والعلاقات تدوم بالتغاضي، وتزداد بالتراضي، وتمرض بالتدقيق، وتموت بالتحقيق، وليس عيبًا أن تُخطئ، ولكن من العيب ألا تتعلم من أخطائك، فإذا جهلتَ فاسأل، وإذا غضبتَ فأمسك، والكريم لا يمُنُّ، والمخلِص لا يندم، ومن زرع الجميل حصد الجزيل.
وانْتَقُوا الإخوانَ والأصحابَ والمجالسَ، وخذوا بأحسن الحديث إذا حدَّثتُم، وبأحسن الاستماع إذا حُدِّثتُم، وبأحسن البِشْر إذا لقيتُم، وبأيسَرِ المئونة إذا خلفتم.
ودعوا محادثة اللئيم ومنازعة اللجوج، ومماراة السفيه، واعلموا أن محادثة الرجال تغذي الألباب، وصنائع المعروف تقي مصارع السوء، فالتمسوها -رحمكم الله- في إطعام مسكين، وكسوة عارٍ، وتأمين خائف، ورفع مظلمة، وكفالة يتيم، ومساعَدة مريض، وعون محتاج.
وبعدُ عبادَ اللهِ: إذا أقبلت الفتنُ فلا تخوضوا فيما لا يعنيكم، والزموا الصمتَ وتمسَّكوا بالسُّنَّةِ، وما أشكل عليكم فقفوا وقولوا: الله أعلمُ، وإذا احتجتُم فاسألوا أهلَ العلمِ الثقاتِ الأثباتَ، ولا تتجاوزوهم؛ فالمتعجِّل يقول قبل أن يعلم، ويُجيب قبل أن يَفهم، يقول ابن مسعود -رضي الله عنه-: "لا يزال الناس بخير ما أخذوا عن أكابرهم وأُمَنائهم وعلمائهم، فإذا أخذوا عن صغارهم وشرارهم هَلَكوا".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ)[الْعَادِيَاتِ: 9-11].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسُنَّة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، المتوحد في قدرته، المتفرِّد في أمره، لا يذل مَنْ والاه، ولا يعز مَنْ عاداه، أحمده حمد شاكر لِمَا أولاه، ثم أستغفره استغفارَ عبدٍ عما جناه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً أرجو بها نيل رضاه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله، ومصطفاه ومجتباه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَنْ والاه، ودعا بدعوته واهتدى بهداه، وسلَّم تسليما كثيرا لا حدَّ لمنتهاه.
أيها المسلمون: الزمان لا يثبت على حال، (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)[آلِ عِمْرَانَ: 140]، فتارةً يُفلح الموالي، وتارةً يَشمت الأعادي، وطَوْرًا في حال فقر، وطورا في حال غنى، ويوما في عز، ومن طاوع شهوتَه فضَحَتْهُ، والسعيدُ في كل ذلك مَنْ لازَمَ أصلا واحدا؛ ألا وهو تقوى الله، فتقوى الله إن استغنى العبدُ زانَتْه، وإن افتقر فتَحَتْ له أبوابَ الصبرِ، وإن ابتُلِيَ حملته، وإن عُوفِيَ تمت عليه النعمةُ، ولا يضره إن نزل به الزمانُ أو صَعِدَ؛ لأن التقوى أصل السلامة، وهي حارس لا ينام.
ألا فاتقوا الله ثم اتقوا الله، فتقواه -سبحانه- عُروة ليس لها انفصام، مَنْ تَعَلَّقَ بها كان له -بإذن الله- حُسنُ العاقبةِ، والحفظ من شرور كل نائبة. أسعدنا الله وإياكم بلزوم ما أمر به، وجَنَّبَنا وإياكم أسباب سخطه وغضبه.
هذا وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيكم محمد رسول الله؛ فقد أمركم بذلكم ربُّكم في مُحكم تنزيله فقال -وهو الصادق في قيله قولا كريما-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد الحبيب المصطفي والنبي المجتبى وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك وكرمك ولطفك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وخذ الطغاة والملاحِدَة وسائر أعداء الملة والدين، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامَنا وولي أمرنا بتوفيقك، وأعزه بطاعتك، وَأَعْلِ به كلمتك، واجعله نصرة للإسلام والمسلمين، ووفقه وولي عهده وإخوانَه وأعوانَه لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى.
اللهم وفِّق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسُنَّةِ نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، واجعلهم رحمة لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم احقن دماءهم، واجمع على الحق والهدى والسُّنَّة كلمتهم، وَوَلِّ عليهم خيارهم، واكفهم أشرارهم، وابسط الأمن والعدل والرخاء في ديارهم، وأعذهم من الشرور والفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم انصر جنودَنا، اللهم انصر جنودَنا المرابطين على حدودنا، اللهم سدِّد رأيهم، وصوِّب رميهم، واشدد أزرهم، وقوِّ عزائمَهم وثبِّت أقدامَهم، واربط على قلوبهم، وانصرهم على مَنْ بغى عليهم، اللهم أيِّدْهُم بتأييدك، وانصرهم بنصرك، اللهم احفظ من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، ومن فوقهم، ونعوذ بك اللهم أن يغتالوا من تحتهم، اللهم وارحم شهداءهم، واشف جرحاهم، واحفظهم في أهلهم وذراريهم، إنك سميع الدعاء.
اللهم اغفر ذنوبنا، اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ونفس كروبنا، وعاف مبتلانا، واشف مرضانا، وارحم موتانا.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201].
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
التعليقات