عناصر الخطبة
1/ القرآن الكريم مستودع الحكمة 2/ وصايا لقمان لابنه 3/ ما ترشد إليه الوصايااهداف الخطبة
اقتباس
وكم تعجب ممن يطوِّف ببصره هنا وهناك، يتتبع مقالاتِ الحكماء والأدباء، يقتص أثرها ويتقصاها، ثم لا يعطف ببصره على ما في كتاب ربه من حِكمٍ ووصايا، ومواعظَ وآدابٍ، وهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنـزيل من حكيم حميد. ولو تملَّاه وعطف ببصره إليه، وتتبَّع آياته يتدبرها ويستخرجُ مستودع الحكمة فيها؛ لَلَبِثَ في ذلك عمرَه كلَّه قبل أن يشبع منه..
أما بعد: ففي زبُر القرآن وصايا وذكرى، تهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، هداية أدركها الجن مذ سمعوا القرآن يتلى على أسماعهم: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا) [الجن:1-2].
وكم تعجب ممن يطوِّف ببصره هنا وهناك، يتتبع مقالاتِ الحكماء والأدباء، يقتص أثرها ويتقصاها، ثم لا يعطف ببصره على ما في كتاب ربه من حِكمٍ ووصايا، ومواعظَ وآدابٍ، وهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنـزيل من حكيم حميد. ولو تملَّاه وعطف ببصره إليه، وتتبَّع آياته يتدبرها ويستخرجُ مستودع الحكمة فيها؛ لَلَبِثَ في ذلك عمرَه كلَّه قبل أن يشبع منه.
فما أحرى بالمؤمن الذي أحب ربه –جل جلاله-؛ فأحبَّ كلامه، أن يجعل للقرآن النظرَ الأوْلى في تتبع الحكم والوصايا! فإذا رام النظر في الحكمة فمن القرآن يبدأ، وإليه يعود. وما أحرى بالمؤمن أن يجعل مقالاتِ البشر محكومةً بكلام ربه، خاضعةً لحكمه! فينفي ما نفاه القرآن، ويبطل ما أبطله، فلا يعارض كتابَ ربه بكلام البشر، ولا يطوِّع دلالاته لنظرياتٍ تصيب حيناً، وتخطئ أحياناً.
وفي القرآن آدابٌ ووصايا ربانية، يدركها كل من تكلم بلسان عربي مبين، ليس فيها تعقيدات الفلاسفة، ولا تكلّفاتُ المتفيهقين؛ ومع ذلك يمر عليها كثيرون، وهم عن تدبرها وعن التخلق بها معرضون.
من جملة تلك الوصايا الربّانية ما ذكره الله على لسان عبده الصالحِ لقمانَ، وما ساقها الله في كتابه إلا ليقرِّرَها على عباده، وليجعلها كلٌ أبٍ من وصاياه لولده.
لم يكن لقمان نبياً ولا رسولاً، ولكن عبداً حكيماً صالحاً، (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ، وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ، وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) [لقمان:12]، ثم يبدأ القرآن في عرض وصايا لقمان لابنه، ولو لم تكن وصايا ربانية حكيمة لما كانت جديرةً بالذكر في كتاب الله العظيم.
(وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ. إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان:13]، وإنها لعظة غير متَّهمة؛ فما يريد الوالد لولده إلا الخير؛ وما يكون الوالد لولده إلا ناصحاً. والنصيحة من الوالد لولده مبرأة من كل شبهة، بعيدة من كل ظِنّة. وهذا لقمان الحكيم ينهى ابنه عن الشرك؛ ويعلل هذا النهي بأن الشرك ظلم عظيم. ويؤكد هذه الحقيقة مرتين: مرة بالبدء بالنهي عنه قبل غيره، ومرةً بتأكيد ما فيه من الظلم العظيم بحرف (إن واللام).
ومهما ظلم المرء نفسه، فلن يظلمها بظلمٍ أعظمَ من الشرك بالله، فما ظلم أحد نفسه كما يظلمها المشرك بالله، ولم يظلم نفسَه من قتلها عدواناً ظلماً أعظم ممن يظلمها باستبقائها على الشرك حتى آخر رمق، بل إن قاتل نفسه عدواناً وظلما أرجى لرحمة الله وعفوه ومغفرته ممن يموت على الشرك، فإن الله (لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [النساء:116].
ثم يمضي لقمان في موعظة ولده: (يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ. إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) ، هذه ليست وصية، وإنما هي تقرير لحقيقة يقر بها كل مؤمن.
فإذا كان الأمر كذلك فلماذا إذاً يذكّر بها لقمانُ ابنَه؟! لقد خلل بها عظته لولده من أجل أن يعظِّم في قلبه خشيةَ الله ومراقبته وتقواه، ففي تقرير هذه الحقيقة الرهيبة تقريرٌ لما في الآخرة من حساب دقيق، وجزاء عادل، فلا تظلم نفس شيئاً، (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا، وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا، وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47].
ويعرض لقمان هذه الحقيقة لابنه في صورة مؤثرةٍ يرجف لها الفؤاد، وهو يتفكر في علم الله الشامل الدقيق: يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل، فتكن في صخرة، أو في السماوات، أو في الأرض، يأت بها الله. إن الله لطيف خبير.
وما يبلغ تعبيرٌ يقصد الكشف عن دقة علم الله وعن قدرته سبحانه، ما يبلغه هذا التعبير الرائع، وهذا التصوير الدقيق: إنها إن تكُ مثقالَ حبة من خردل؛ وقد يكون بعضُنا لا يدرك المعنى الدقيق للحبة من الخردل؛ لكنه يدرك أنها جرم صغير متضائل في الصِغَر.
لك أن تتخيل هذه الحبة حبةً صغيرة ضائعة في هذا الكون الفسيح لا وزن لها ولا قيمة، تخيّلها في صخرة، تلك المادة الصلبة التي لا يعلم الناظر ما فيها ولا ما تحتها، أو تخيّلها وهي سابحة في ملكوت السماوات، في ذلك الكون الفسيح العجيب، الذي يبدو فيه النجم الكبير نقطةً سابحةً، أو ذرةً تائهةً. أو تخيَّل هذه الحبة في الأرض ضائعةً بين ثراها وحصاها. فمهما تكن عليه من حال، ومهما تكن في مكان، يأت بها الله! فعلمه يلاحقها، وقدرته لا تُفلتها.
ثم يختم هذا التذكير بقوله: إن الله لطيف خبير. وهو تعقيب يناسب هذه الحقيقة المهيبة، وهي دعوة للقلب أن يخشع وينيب إلى اللطيف، الخبيرِ بخفايا الغيوب.
وفي تذكير لقمانَ لابنه بهذه الحقيقة تربية له على مراقبة الله في أعماله كلها، في سره وعلنه، وفي إقامته وظعنه؛ حتى تكون مراقبة الله هي الرقابة التي تضبط سلوكه وأخلاقه مع الناس، وفي خاصة نفسه.
ثم يمضي لقمان في وصاياه لولده، فيأمره بأعظم ركن جاء به الرسل بعد التوحيد، واتفقت عليها الشرائع،: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ) [لقمان:17]، ولا يكفي في شأن الصلاة مجرد الأتيان بحركاتها وسكناتها على أي وجه كان، بل لا بد من إقامة أركانها، وشروطها، وواجباتها، والمحافظة عليها في وقتها.
ثم ينتقل لقمان في وصاياه لولده من علاقته بربه إلى علاقته بالناس، فيوصيه بما يتضمن مخالطتهم والصبرَ على أذاهم، والسعيَ إلى التأثير فيهم، والإصلاحِ من شأنهم؛ فهو لا يريد من ولده أن يعيش في عزلة عن الناس، ولو في صومعة يتحنّث فيها لربه، (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ) [لقمان:17].
ثم يأمره بالصبر على ما يصيبه، (وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ. إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [لقمان:17]؛ ليُشعرَه أن من تصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو لا محالة لاقٍ من الناس أذىً كثيراً، تمتد به الألسنةُ أو الأيدي، وأن الصبر على ذلك لمن عزم الأمور. بارك الله
الخطبة الثانية:
أما بعد: ويمضي لقمان في نصحه لابنه في أصدق نصح وأسدِّه، يذكِّره بآدابٍ أخرى لا مندوحة له عنها وهو يخالط الناس، يذكِّره بما يحبّبه إليهم، ويجعلُ لأمره ونهيه وإصلاحِه محلَ القبولِ الحسنِ عند الناس، (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ، وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا. إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [لقمان:18].
وكأننا بلقمان الحكيم خشي على ولده أن يركبَه شيءٌ من الخُيَلاء والعُجب والتكبر على الناس والتعالي عليهم وهو يقوم بمهمة الإصلاح في مجتمعه، وكأننا به قد خشي عليه أنه متى شعر بصلاحه في نفسه، أن يبعثه ذلك على العجب والتعالي، ولذا يسارع لقمان الحكيم إلى قطع الطريق على هذه المشاعر المذمومة أن تتسلّل إلى نفسِ ولده، فيذكِّرُه بأن الدعوةَ إلى الخير لا تجيز التعالي على الناس؛ ولا التطاول عليهم ولو باسم اقتيادهم إلى الخير. ومن باب أولى يكون التعالي والتطاول بغير دعوة إلى الخير أقبح وأرذل: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ، وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا. إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ).
وتصعير الخد للناس حركة يُفهم منها التكبر عليهم واستحقارُهم، وأصل(الصَّعَر) داء يأخذ الإبل في أعناقها حتى تلفت أعناقها عن رءوسها، وفي تشبيه حركةِ المتكبرِ بحركة الإبل المصابة بهذا الداء، فيه تنفير وتقبيح من هذا الفعل المشين!
ثم يقول: (ولا تمشِ في الأرض مَرَحَاً)، وهو المشي في تخايل وعُجبٍ بالنفس، وقلةِ مبالاة بالناس؛ وهي حركة كريهة يمقتها الله، ويمقتها الخلق بفطرتهم. إن الله لا يحب كل مختال فخور.
والنهي عن مشية المرح فيه إيحاء بالمِشْيَة المعتدلة القاصدة، ولذا أمر ولدَه بعد ذلك أن يقصد في مشيه، (واقصد في مشيك) [لقمان:19]. والقصد هو التوسط بين العلو والتقصير، أي: اعدل فيه حتى يكون مشياً بين مشيين، فلا تدبُّ دبيبَ المتماوتين المختالين، ولا تثب وثوبَ السفهاء خفيفي الأحلام. قيل لإياس بن معاوية: إنك لَسريع المـِشية! قال: ذلك أبعد من الكِبْر، وأسرع في الحاجة. وقال عمر -رضي الله عنه- وقد قيل له مثل هذا: أنجح للحاجة، وأبعد من الكبر.
وكان النبي –صلى الله عليه وسلم- إذا مشى كأنما ينحطّ من صبب، فالاسراع المذموم إنما هو الإسراع الذي يخل بالوقار. والمشي المأمور به هو مشي الوقار والسكينة، وهو مشي وسطٌ بين مشيين مذمومين: مشي الخفة والطيش، ومشيِ الكبر والخيلاء.
وبعد ذلك يأمر ولده بالاغضاض من الصوت، (واغضض من صوتك؛ إن أنكر الأصوات لصوت الحمير)، [لقمان:19]، والغض من الصوت فيه أدب وثقة بالنفس، واطمئنان إلى قوة حجته، وسلامة منطقه، وصدق حديثه؛ وما يزعق في جداله وحواره، أو يغلظُ في خطابه، إلا سيءُ الأدب، أو رجلٌ ضعيفُ الحجة، شاكٌّ في قيمةِ قوله، أو قيمة شخصه؛ فيحاول إخفاء هذا الشك والضعفِ بالحدّة والغلظة والزعاق!.
وفي الأمر بالغض من الصوت نهي عن رفعه لغير حاجة، والقرآن يرذل هذا الفعل ويقبحه في صورة منفرة محتقرة، صورة بشعة، فيؤمى بتشبيه ذلك بصوت الحمير؛ فيقول: (إن أنكر الأصوات لصوت الحمير)، وهو تصوير يدعو إلى السخرية ، مع النفور والبشاعة.
وفي سياق هذه الوصايا الأخيرة من النهي عن تصعير الخد للناس، وعن المشي في الأرض مرحاً، ومن الأمر بالقصد في المشي، والغض من الصوت، في ذلك ما يدلنا على عناية القرآن بتكوين الشخصية الصحيحة للمسلم، ويدلنا -كذلك- على أن شخصية المرء الظاهرة للعيان، الملحوظة في حركة مشيته، ودرجةِ نبرة صوته، تكشف كثيراً عن طبيعته النفسية.
التعليقات