عناصر الخطبة
1/دور الآداب الشرعية في إصلاح النفس البشرية 2/أهمية التحلي بالآداب الشرعية للشباب وبعض صورها 3/آثار الآداب الشرعية على الشباب 4/وسائل رقي الشباب في الآداب الشرعية 5/نماذج من شباب السلف في الأدب.اقتباس
إِنَّ شَبَابَنَا الْيَوْمَ أَحْوَجُ مَا يَكُونُونَ إِلَى التَّحَلِّي بِالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالتَّجَمُّلِ بِهَذِهِ الْأَخْلَاقِ النَّقِيَّةِ؛ لِأَنَّ عَوَامِلَ الِانْجِذَابِ عَنْهَا إِلَى أَضْدَادِهَا فِيهِمْ كَثِيرَةٌ، وَالْأَسْبَابُ الْمُشَجِّعَةُ عَلَى تَمَسُّكِهِمْ بِهَا قَلِيلَةٌ، خَاصَّةً فِي هَذَا الزَّمَانِ الَّذِي أَحَاطَتْ بِهِمْ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الْآدَابَ الشَّرْعِيَّةَ صِمَامُ أَمَانِ الْمُجْتَمَعَاتِ، وَمِعْرَاجٌ أَمِينٌ إِلَى آفَاقِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ، وَأَنْوَارٌ مُتَوَهِّجَةٌ تُشْرِقُ عَلَى الْحَيَاةِ الْبَشَرِيَّةِ بِالْأَمَانِ وَالِاطْمِئْنَانِ، وَتَكْسُوهَا سَعَادَةَ الْعَيْشِ الْإِنْسَانِيِّ الْمُشْتَرَكِ الَّذِي لَا يَطِيبُ إِلَّا تَحْتَ ظِلَالِ هَذِهِ الْآدَابِ الْفَاضِلَةِ، وَمَتَى تَخَلَّى عَنْهَا الْفَرْدُ وَقَعَ فِي وَحْلِ الْأَخْلَاقِ الرَّدِيئَةِ؛ لِهَذَا -يَا عِبَادَ اللَّهِ- كَانَ لِلْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ دَوْرٌ كَبِيرٌ فِي إِصْلَاحِ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ وَتَقْوِيمِ عِوَجِهَا، وَالرُّقِيِّ بِهَا إِلَى رُبَى السُّمُوِّ النَّفْسِيِّ، وَسَمَاءِ الصَّلَاحِ الْإِنْسَانِيِّ.
فَالنَّفْسُ الْإِنْسَانِيَّةُ مَطْبُوعَةٌ عَلَى الْقُصُورِ وَالضَّعْفِ وَالتَّفَلُّتِ، وَتَزْيِينِهَا لِلسُّوءِ، قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ)[يُوسُفَ: 53].
وَإِذَا تُرِكَتْ بِلَا تَأْدِيبٍ وَتَهْذِيبٍ وَتَرْوِيضٍ عَلَى التَّحَلِّي بِالْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ اتَّبَعَتْ هَوَاهَا وَارْتَكَسَتْ فِي مَهَاوِي الشَّرِّ وَمَسَاوِئِ الرَّذِيلَةِ؛ وَحِينَئِذٍ تَتَجَارَى بِهَا الْأَهْوَاءُ: "كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ لَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلَا مِفْصَلٌ إِلَّا دَخَلَهُ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ).
عِبَادَ اللَّهِ: الْبِيئَةُ السَّيِّئَةُ الَّتِي يَعِيشُ فِيهَا الْإِنْسَانُ لَهَا أَثَرُهَا الْكَبِيرُ فِي اكْتِسَابِ مَسَاوِئِ الْأَقْوَالِ، وَالِاتِّصَافِ بِمَكَارِهِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَفْعَالِ؛ لِهَذَا كَانَتِ النُّفُوسُ بِحَاجَةٍ إِلَى الْعِنَايَةِ بِاخْتِيَارِ الْبِيئَةِ النَّقِيَّةِ الْمُتَحَلِّيَةِ بِالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ؛ كَوْنَهَا سَبَبًا رَئِيسًا فِي إِصْلَاحِ حَالِهَا وَالْقِبْلَةَ الَّتِي إِذَا اتَّجَهَتْ إِلَيْهَا اسْتَقَامَ سَيْرُهَا؛ فَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَالْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوَقَّهُ"(رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَالطَّبَرَانِيُّ).
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ شَبَابَنَا الْيَوْمَ أَحْوَجُ مَا يَكُونُونَ إِلَى التَّحَلِّي بِالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ، وَالتَّجَمُّلِ بِهَذِهِ الْأَخْلَاقِ النَّقِيَّةِ؛ لِأَنَّ عَوَامِلَ الِانْجِذَابِ عَنْهَا إِلَى أَضْدَادِهَا فِيهِمْ كَثِيرَةٌ، وَالْأَسْبَابُ الْمُشَجِّعَةُ عَلَى تَمَسُّكِهِمْ بِهَا قَلِيلَةٌ، خَاصَّةً فِي هَذَا الزَّمَانِ الَّذِي أَحَاطَتْ بِهِمْ وَسَائِلُ الْفَسَادِ الْمُغْرِيَةُ، وَمَهَاوِي السُّوءِ الْمُرْدِيَةُ.
وَالثَّابِتُ فِي عَصْرِنَا عَلَى دِينِهِ وَآدَابِ شَرِيعَتِهِ يُعَانِي مِنَ الْبَلَاءِ مَا ذَكَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ"، وَفِي رِوَايَةٍ: "إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْمُتَمَسِّكِ فِيهِنَّ يَوْمَئِذٍ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ"، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَجْرُ خَمْسِينَ رَجُلًا مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ؟، قَالَ: "بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ).
فَالْآدَابُ الشَّرْعِيَّةُ -أَيُّهَا الشَّبَابُ-؛ هِيَ قَارِبُ الْإِنْقَاذِ الَّذِي يُنْجِدُكُمْ مِنْ أَمْوَاجِ الْفِتَنِ الْمُهْلِكَةِ، وَيَنْقُلُكُمْ إِلَى شَوَاطِئِ السَّلَامَةِ الَّتِي تَتَفَيَّؤُونَ تَحْتَ ظِلَالِ دَوْحَاتِهَا الْبَاسِقَةِ أَفْيَاءَ السَّعَادَةِ، وَتَشُمُّونَ عِنْدَهَا رَحِيقَ الرَّاحَةِ الْجَامِعَةِ.
وَالْآدَابُ -أَيُّهَا الْكِرَامُ- مَنْظُومَةٌ مُتَكَامِلَةٌ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْأَخْلَاقِ وَالسُّلُوكِ... يَكْتَمِلُ جَلَالُ الْمَرْءِ بِتَحَلِّيهِ بِهَا، وَهِيَ قُرُبَاتٌ يَرْتَقِي الْمَرْءُ بِهَا فِي مَنَازِلِ الْإِيمَانِ.. فَكَمْ أَدْرَكَ الصَّادِقُ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَفِي عِبَادَاتِهِ وَفِي مُعَامَلَاتِهِ، كَمْ أَدْرَكَ بِهَذَا الْأَدَبِ الْكَرِيمِ مِنْ مَقَامٍ رَفِيعٍ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ صِدِّيقًا، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ كَذَّابًا"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).
وَكَمْ أَدْرَكَ صَاحِبُ الْأَمَانَةِ مَقَامًا عَلِيًّا، وَذِكْرًا جَمِيلًا، وَمَحَبَّةً عِنْدَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، وَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ دَلَالَةٌ عَلَى ذَلِكَ؛ قَالَ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[الْمُؤْمِنُونَ: 8-11].
وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي قُرَادٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ يُحِبَّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ: فَأَدُّوا إِذَا ائْتُمِنْتُمْ، وَاصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَحْسِنُوا جِوَارَ مَنْ جَاوَرَكُمْ"(رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ).
وَالْعِفَّةُ أَدَبٌ شَرْعِيٌّ وَصِفَةٌ فَاضِلَةٌ.. تَصُونُ الْمَرْءَ مِنْ لَوْثَاتِ الْفُجُورِ، وَتَرْفَعُهُ إِلَى مَقَامَاتِ الطُّهْرِ، وَتُبَوِّؤُهُ مَنَازِلَ الْحُبُورِ، وَيَرْضَى اللَّهُ عَنِ الْعَفِيفِ وَيَشْكُرُ سَعْيَهُ.
وَالْعِفَّةُ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُرْسَلِينَ.. فَيُوسُفُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قَالَ اللَّهُ عَنْهُ: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)[يُوسُفَ: 23]، وَقَالَ اللَّهُ عَنْهُ: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ * فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[يُوسُفَ: 33-34].
وَمُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَعَانَ الْمَرْأَتَيْنِ الضَّعِيفَتَيْنِ، (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ)[الْقَصَصِ: 24]، فَلَمْ يَسْتَرْسِلْ بِالْحَدِيثِ مَعَهُمَا، وَلَمْ يَتَمَايَلْ مُسْتَعْرِضًا أَمَامَهُمَا، وَلَمْ يَمْلَأْ عَيْنَهُ مِنَ النَّظَرِ إِلَيْهِمَا (فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ)، مُرُوءَةٌ قُرِنَتْ بِعِفَّةٍ فَنَالَ الذِّكْرَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ، وَكَذَا هِيَ أَخْلَاقُ الْكِرَامِ عَلَى مَرِّ الْعُصُورِ.
وَالشَّابُّ عِنْدَمَا يَتَمَسَّكُ بِالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ فَتَصِيرُ فِيهِ سَجِيَّةً رَاسِخَةً فِي رِضَاهُ وَغَضَبِهِ، وَسِمَةً بَارِزَةً فِي سُرُورِهِ وَحُزْنِهِ، وَحَضَرِهِ وَسَفَرِهِ، وَجَمِيعِ أَحْوَالِهِ.
وَيَكْفِي أَصْحَابَ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ مَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِهِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ الَّذِي نَالُوهُ يَوْمَ لِقَاءِ الدَّيَّانِ؛ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا)[الْفُرْقَانِ: 75-76]، فَنِعْمَ الْجَزَاءُ الْحَسَنُ جُوزُوا، وَحَبَّذَا النَّعِيمُ الْمُقِيمُ لَقُوا، فَطُوبَى لَهُمْ، جَعَلَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْهُمْ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ.
وَإِذَا تَوَشَّحَ الشَّابُّ -يَا عِبَادَ اللَّهِ- بِثَوْبِ الْآدَابِ السَّابِغِ مُتَمَثِّلًا حَقَّ اللَّهِ؛ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي حَقَّ الْخَلْقِ كَذَلِكَ؛ فَيَقُومُ بِحَقِّ وَالِدَيْهِ فَلَا يُطَالِبَانِهِ بِبِرِّهِ، وَحَقِّ أَقَارِبِهِ فَلَا يَبْحَثُونَ حِينَئِذٍ عَنْ صِلَتِهِ، وَحَقِّ جِيرَانِهِ فَلَا يَسْأَلُونَهُ عَنْ حَقِّهِمْ فِي إِحْسَانِهِ، وَحُقُوقِ بَقِيَّةِ النَّاسِ مِنْ حُسْنِ مُعَامَلَتِهِ، وَسَلَامَتِهِمْ مِنْ شَرِّهِ، فَيَرِدُ الْآخِرَةَ خَفِيفَ الْمَحْمَلِ، تَارِكًا وَرَاءَهُ سِيرَةً حَسَنَةً، وَآثَارًا صَالِحَةً بَاقِيَةً تَشْهَدُ لَهُ بِجَمِيلِ فِعَالِهِ، وَحُسْنِ حَالِهِ، فَيَكُونُ كَمَا قِيلَ:
تُثْنِي عَلَيْكَ الْوَرَى وَمَا شَهِدُوا ** مِنَ السّجَايَا إِلَّا بِمَا عَلِمُوا
وَقِيلَ:
وَلَيْسَ بِمُحْتَاجٍ إِلَى مَدْحِ مَادِحٍ ** مَكَارِمُهُ تُثْنِي عَلَيْهِ وَتَمْدَحُ
وَمَنْ قَامَ بِحَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْخَلْقِ فَقَدِ اكْتَمَلَتْ عُبُودِيَّتُهُ؛ وَلِهَذَا جَمَعَ اللَّهُ -تَعَالَى-، وَنَبِيُّهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بَيْنَ الْحَقَّيْنِ فِي كَثِيرٍ مِنَ النُّصُوصِ؛ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ -تَعَالَى-: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا)[النِّسَاءِ: 36]، وَقَوْلُ النَّبِيِّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ).
نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يَجْعَلَنَا وَشَبَابَنَا مِنَ الْمُتَحَلِّينَ بِالْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ، وَصَالِحِ الْأَخْلَاقِ الْإِسْلَامِيَّةِ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ خَيْرِ عِبَادِهِ، وَمُصْطَفَاهُ مِنْ خَلِيقَتِهِ، أَمَّا بَعْدُ:
فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: ثَمَّةَ وَسَائِلُ حَسَنَةٌ وَثِمَارٌ طَيِّبَةٌ تُعِينُ الشَّبَابَ عَلَى التَّحَلِّي بِمَحَاسِنِ الْآدَابِ، وَتَدْفَعُهُمْ لِلِاتِّصَافِ بِهَا؛ فَمِنْهَا:
التَّحَلِّي بِهَذِهِ الْآدَابِ الشَّرْعِيَّةِ يَرْفَعُ قَدْرَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ خَلْقِهِ، وَيَجْعَلُهُمْ سَادَةً مَحْبُوبِينَ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَهَذِهِ هِيَ الْحَقِيقَةُ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تَلُوحَ أَمَامَ عُيُونِ بَعْضِ الشَّبَابِ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّ التَّمَسُّكَ بِآدَابِ الْإِسْلَامِ يُنْزِلُ مِنْ قَدْرِهِمْ بَيْنَ أَصْدِقَائِهِمْ وَمُجْتَمَعِهِمُ الَّذِي كَثُرَ فِيهِ الْغَثُّ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: "أَرْبَعُ خِصَالٍ يَسُودُ بِهَا الْمَرْءُ: الْعِلْمُ، وَالْأَدَبُ، وَالْعِفَّةُ، وَالْأَمَانَةُ".
كَمَا أَنَّ التَّحَلِّيَ بِهَذِهِ الْآدَابِ الْقَيِّمَةِ يَجْلِبُ لَهُمُ السَّعَادَةَ الَّتِي تَبْقَى مَعَهُمْ، فَيَتَنَسَّمُونَ عَبَقَهَا، وَيَتَلَذَّذُونَ بِطَعْمِ رَاحَتِهَا؛ لِأَنَّهَا مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى- فِيهِ وَفِي جَزَائِهِ: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النَّحْلِ: 97].
وَكَمْ يَشْعُرُ ضَمِيرُ الْمُسْلِمِ بِالطُّمَأْنِينَةِ وَسَعَةِ الْحَيَاةِ وَلَذَّةِ الْعَيْشِ وَهُوَ بَيْنَ النَّاسِ ذُو أَدَبٍ جَمٍّ، وَخُلُقٍ فَاضِلِ عَمٍّ، وَلَا غَرْوَ؛ فَذَلِكَ مِنَ الْإِيمَانِ الَّذِي يُمْطِرُ الصُّدُورَ بِالِانْشِرَاحِ، وَمِنَ التَّقْوَى الَّتِي تَهَبُ الْقُلُوبَ نِعْمَةَ الِارْتِيَاحِ، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ هُوَ جِمَاعُ السَّعَادَةِ وَأَصْلُهَا".
وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَسْتُ أَرَى السَّعَادَةَ جَمْعَ مَالٍ ** وَلَكِنَّ التّقِيَّ هُوَ السَّعِيدُ
شَبَابَ الْإِسْلَامِ: اقْرَأُوا أَخْبَارَ أَمْثَالِكُمْ مِنْ شَبَابِ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَيْفَ كَانَ تَحَلِّيهِمْ بِالْآدَابِ الْحَسَنَةِ، وَكَيْفَ رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا؛ فَهَذَا خَادِمُ رَسُولِ اللَّهِ أَنَسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَحْكِي عَظَمَةَ أَدَبِهِ بِحِفْظِ الْأَسْرَارِ، وَالْبُخْلِ بِمَكْنُونِ الْأَخْبَارِ؛ فَعَنْ تِلْمِيذِهِ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ قَالَ: عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَتَى عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَأَنَا أَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، قَالَ: فَسَلَّمَ عَلَيْنَا، فَبَعَثَنِي إِلَى حَاجَةٍ، فَأَبْطَأْتُ عَلَى أُمِّي، فَلَمَّا جِئْتُ قَالَتْ: مَا حَبَسَكَ؟ قُلْتُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِحَاجَةٍ، قَالَتْ: مَا حَاجَتُهُ؟ قُلْتُ: إِنَّهَا سِرٌّ، قَالَتْ: لَا تُحَدِّثَنَّ بِسِرِّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَحَدًا، قَالَ أَنَسٌ: وَاللَّهِ لَوْ حَدَّثْتُ بِهِ أَحَدًا لَحَدَّثْتُكَ يَا ثَابِتُ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
فَمَا أَحْسَنَ هَذِهِ الصُّورَةَ الْمُشْرِقَةَ مِنَ التَّرْبِيَةِ! حِينَ صَانَ أَنَسٌ سِرَّهُ، وَأَعْظِمْ بِهَذِهِ الْأُمِّ الْمُرَبِّيَةِ الَّتِي زَادَتْ عَلَى السِّرِّ وِكَاءً فَوْقَ وِكَائِهِ، وَتَشْجِيعًا يُثَبِّتُ وَلَدَهَا عَلَى حِفْظِ كَنْزِ صَدْرِهِ وَالْإِبْقَاءِ عَلَى كِتْمَانِ سِرِّهِ، وَكَيْفَ بَقِيَ أَنَسٌ لَمْ يُحَدِّثْ بِذَلِكَ السِّرِّ حَتَّى مَاتَ.
فَاقْتَدُوا بِهِمْ -مَعْشَرَ الشَّبَابِ- فِي جَمِيعِ الْآدَابِ، وَاعْرِفُوا أَهَمِّيَّةَ التَّمَسُّكِ بِهَذِهِ الْخِصَالِ الرَّشِيدَةِ، وَأَمْعِنُوا النَّظَرَ فِي آثَارِهَا الْحَسَنَةِ الْحَمِيدَةِ، وَخُذُوا مِنَ الْوَسَائِلِ مَا يُعِينُكُمْ عَلَى لُزُومِهَا؛ فَإِنَّهَا نِعْمَتِ الدَّلِيلُ إِلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ.
جَعَلَنَا اللَّهَ وَإِيَّاكُمْ بِآدَابِ الْإِسْلَامِ مِنَ الْمُتَمَسِّكِينَ، وَبِآثَارِهَا الطَّيِّبَةِ مِنَ الْمُنْتَفِعِينَ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَاخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى النِّعَمِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
التعليقات