وسائل تحصيل الرزق

منصور محمد الصقعوب

2024-02-06 - 1445/07/25
عناصر الخطبة
1/همُّ الرزق أشغل بال الكثيرين 2/حديث القرآن عن الرزق حديث كاف شاف 3/من أسباب الرزق الشرعية 4/التحذير من كسب الرزق بوسائل محرمة 5/قلة العمل الصالح هو الفقر الحقيقي

اقتباس

وما الدنيا إلا أيام قلائل، وطعام دون طعام، ولباس دون لباس، حتى يفارق المرء هذه الدار، وليس عيباً أن يموت المرء فقيراً ويعيش فقيراً إذا عمل الأسباب، إنما الغبن كل الغبن أن يعيش عن الله بعيداً، ويموت فقيراً من العمل الصالح، فأولئك هم الفقراء حقاً...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

أما بعد: في زمنٍ كثرت فيه الاستهلاكات، وتوسعت النفقات، ونزعت من كثير من الأموال البركات، وأصبح همُّ تحصيل الرزق وأوجُه كسبه وطرائق تنميته همّاً يؤرق الكثير، ويلقي بظلاله على أحوال الناس، ويأخذ نصيباً من أحاديث المجالس، نحتاج لتذاكر أمرِ الرزق، كيف ينال؟ وكيف ينمو؟.

 

وشريعتنا الكاملة والتي ما تركت أمراً فيه صلاح للعباد إلا وبينته، لم تُغفِل أمر الرزق، فلقد جاء في آي الكتاب وحديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ما يُعين على الرزق ويجلبه، ولئن كثر المحللون، وتعدد المتكلمون عن طرائق الربح، فلن تجد أهدى من الوحيين سبيلاً، وأصدقَ من كلام الله قيلاً ودليلاً؛ ولذا فالأمر الذي لا بد أن نُذكّر به، والشأنُ الذي ينبغي أن نطرحه في خضم البحث عن وسائل الكسب وطرائق الربح ومسالك التنمية هي الطرائق الشرعية لهذا.

 

وبادئ ذي بدئ أقول: إن المرء لا بد أن يعلم أنه في الدنيا يتقلب بين سراء وضراء، وما بين رزق يكسبه وخسارهٍ تحل به، وتَذهب بماله، وعليه أن يعلم أن كل ما أتاه من أمرٍ فما هو إلا من الله ولا يقّدر الله إلا الخير على عباده، ولو أحسن العباد الظنَّ بربهم لعلموا أنه لا يقّدر عليهم إلا  ما فيه خيرهم وفلاحهم، وليس ضيقُ الرزق هواناً، ولا سعته بذاته فضيلة؛ (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا)[الفجر: 15 - 17]، فالله يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ويضيّق على من يحب ومن لا يحب، والكرامة إنما هي بالطاعة، والهوان بالمعصية.

 

ومن حكمة المولى وعدله، أنه تولى قسمة الأرزاق، ولو جعل لذلك للعباد لبغوا وجاروا، ولأمسكوا وبخلوا؛ (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)[الزخرف: 32]، (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا)[الإسراء: 100].

 

فقدَّر الغنى لأناس وكان ذلك من فضله، وقَدَر الرزق وضيّقه على آخرين وكان ذلك لحكمته، ولو أغناهم لربما طغوا، وفي بعض الأثار: "وإن من عبادي من لا يصلح دينه إلا بالفقر، ولو أغنيته لطغى أو فسد ذلك"، (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ)[الشورى: 27]، فلله الحكمة البالغة في غنى الغني، وفقر الفقير، وتوسط ذي الكفاف، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

 

عبد الله: وفي الوحيين جملة من أسباب الرزق فدونك إياها:

ألا وإن التوبة والاستغفار من أبرز مفاتيح الرزق "أستغفرُ الله"،  كلمة متى خرجت من القلب أحلّ الله على صاحبها الخيرات، ولا عجب؛ فهي إنابة وتوبه، واعتراف بالذنب وتضرع  للرب أن يغفر الحوب؛ (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)[نوح: 10 - 12]، وفي الحديث المحسّن عند بعض أهل العلم: "من لزم الاستغفار؛ جعل الله له من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ورزقه من حيث لا يحتسب".

 

هل جربت يوم أن تضيق عليك أوجه الرزق، وتحتاجَ للمال فلا تجدُ له وجهاً، وتبحث عمن يوسّع عليك من الناس فلا تجد، هل جربت يومها أن تستغفر الله من قلبك وتُكثِر من ذلك؟ فكم من عبدٍ حُرِم رزقاً بذنب أصابه، وكم عبدٍ فتح له رزقٌ وخيرات باستغفار ربه!.

 

عبد الله: وصلة الرحم دربُ تحصيل الرزق ومباركته، وفي ذلك يقول الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: "من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره؛ فليصل رحمه"، فلا تنس الأقارب، ولا تنس الوالدين بالصلة والزيارة، والمعونة والمساعدة؛ فذلك طريق لمثراة المال وطول العمر.

 

وإذا ضاق عليك الرزق فتفقد نفسك في الصلاة؛ فالمحافظة عليها سبب من أسباب الرزق، وفي ذلك يقول الحق -عز وجل-: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)[طه: 132]، قال ابن كثير: "إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب"، وفي الحديث عند الترمذي عن أبي هريرة مرفوعا: "أن الله -تعالى- يقول: يا ابن آدم، تفرغ لعبادتي؛ أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإن لم تفعل ملأتُ صدرك شغلاً ولم أسدّ فقرك".

 

يا كرام: والصدق حين يتبايع البيّعان سببٌ لزيادة الرزق والبركة فيه، وفي الحديث المتفق عليه: "فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما".

 

وتفقُّدُ الضعفة والإحسانُ إليهم طريق للرزق، وفي الحديث: "وإنما تنصرون وترزقون بضعفاءكم"، فلا تغفل عن الضعفة من صغار ومرضى وعمال وأيتام، تلمّس حاجاتِهم وتلطّف في إسعادهم وتحرّ دعواتهم، فكم من عبدٍ فُتِحتْ له أبواب الرزق بيتيم يتعاهده، أو أرملة يقوم عليها!.

 

 عباد الله: وتقوى الله أولى ما تقرب به العبد لمولاه، ومن جزاء الله لعبده حينها أن يرزقه المال؛ (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[الطلاق: 2، 3]، أوليس الرزق من الله؟ فليَبشر إذن من اتقاه بالرزق يأتيه من حيث يحتسب ومن حيث لا يحتسب، ولئن كان الرزق يناله غير المتقي كذلك، فإن البركة لا تحل في مالٍ إلا إذا كان من وجه حلال، ولمن اتقى الله فيه.

 

وإنك لتعجب من رجل سلك طريقاً لجمع المال أو عملٍ فيه مهنة لا ترضي الله، أو تعامل بما يغضب الله، فإذا قيل له في ذلك تعلّل بطلب الرزق، وأنه يبحث عن لقمة العيش، ولم يجد غير هذا العمل!، أوليس الله يقول: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[الطلاق: 2، 3] فأين نحن من هذا الوعد؟!.

 

فإذا قُدِر عليك الرزق، وضاقت بك السبل، ورأيت أن مالك ممحوقَ البركة ففتش عن حالك مع ربك، فربما كان ابتلاءً بأجر، وربما كان بسبب ذنب، وربنا قال: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)[الأعراف: 96]، قال ابن تيمية: "وضيقُ الرزق على عبد من أهل الدين قد يكون لما له من الذنوب وخطايا".

 

أيها المسلمون: والصدقة والإنفاق في وجوه الخير والإحسان، وإن كان ينقص ظاهراً إلا أنه يبارك المال وينميه، ويفتح للعبد أبواب رزقٍ ومكاسب، إنه وعد من الله لا يتخلف، وخطاب من الرزاق لا يُكْذَب، "يا ابن آدم، أنفق انفق عليك"، ومن أصدق من الله قيلا.

 

فإلى من يريد الأرباح الباهرة، والمكاسب المضمونة والتجارة الرابحة، يقول الله -تعالى-: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً)[البقرة: 245].

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد الله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

 

 أما بعد: في مخلوقات الله عبرٌ لمن وفقه الله للتأمل، ها هي الطير تخرج في الصباح من أوكارها، فتطير لا تعلم أين رزقها وقدرها؟ وإذا جاء المساء عادت، وإذا هي قد حصلت رزقها، حينما توكلت على الله وفعلت الأسباب فما انتظرت من يطعمها، "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله؛ لرزقكم كما يرزق الطير، تغدوا خماصا وتروح بطانا".

 

فهما جناحان لا بد لكل امرئٍ منهما، توكل على الله الذي بيده كل شيء، وإياك أن تتوكل على مخلوق أيا كان فَتُخذل، واعمل الأسباب فلا تجلس، فالسماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، ومن حقق هذين الأمرين نال الرزق وبورك له فيه.

 

إن المخلوق الذي تلجأ إليه في طلب صدقة أو وظيفة أو واسطة ما هو إلا مثلُك، ولن يفعل شيئاً إلا بأمر ربك، فلماذا لا يكون القصدُ إلى الله فتتوكل عليه وتدعوه، أن يفتح لك أبواب الرزق الحلال، وأن يغنيك الله بفضله عمن سواه؟! فذاك أمر يحبه الله، وفي الحديث القدسي: "يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم".

 

وها هم الأنبياء قد توجهوا إلى الله لنيل الرزق، فعيسى قال: (وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)[المائدة: 114]، ومحمد -عليه السلام- قال: "اللهم إني أسألك علما نافعا ورزقا طيبا"، فأين أنت من الدعاء فباب الكريم مفتوح؟ والرزاق الله قد وعد عباده الإجابة، وتكفل لهم بالأرزاق.

 

أيها المسلمون: وإذا كانت هذه أسباب لنيل الرزق، فإن من الأسباب ما هو محرم، فالسرقة والرشوة والربا والشفاعة بالمال وغير ذلك، طرائق ربما حصل بها المال لكنها قد حرّمها ذو العزة والجلال، وإن امرءاً أيقن بأن الله هو الرازق، وبأنه قد كتب له رزقه من يوم أن كان في بطن امه، وأيقن أن الرزق يطلب صاحبه كما يطلبه أجله، وأنه لا يمكن لرزق قُدِّر له أن ينال غيره، حري بهذا أن يترفع ويبتعد عن كل ما حرم الله وإن رأى فيه رزقا، فرزقك آتيك لربما استعجتله بسببٍ حرام فجاءك ممحوق البركة وأنت آثم، ولو صبرت وسلكت ما أباح الله لجاءك رزقك، ولو اجتمع الخلق كلهم على منعه لم يقدروا على ذلك.

 

وبعد: فلا تنسَ أن الله هو الغني، وخلائقه كلهم فقراء إليه، فإن كنت غنياً فإياك فإياك أن تطغى وأن تنسى إخوانك، وإن كانت الأخرى فسله فإن يمينه ملأى لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، وإن كرمه دائم وعطاؤه مستمر؛ (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ)[النحل: 96].

 

وإذا شُكر اللهُ زادَ في عطاءه، وإذا كُفرت نعمه عذّب وزال احسانه، وكم من أقوام وأمم تقلبوا في الأرزاق، فتجبروا وعصوا الخلاّق فبُدلت النعمُ نقماً، والنعيم عذاباً؛ (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)[النحل: 112]، وما الدنيا إلا أيام قلائل، وطعام دون طعام، ولباس دون لباس، حتى يفارق المرء هذه الدار، وليس عيباً أن يموت المرء فقيراً ويعيش فقيراً  إذا عمل الأسباب، إنما الغبن كل الغبن أن يعيش عن الله بعيداً، ويموت فقيراً من العمل الصالح، فأولئك هم الفقراء حقاً.

 

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life