عناصر الخطبة
1/ما أسرع رحيل رمضان! 2/وداع مختلف لشهر رمضان! 3/وقفات على مشارف وداع رمضان 4/هل نجحت في مدرسة رمضان؟ 5/الرابحون والخاسرون في رمضان 6/زكاة الفطر 7/صلاة عيد الفطر.اقتباس
الْيَوْمَ نَقِفُ عَلَى مَشَارِفِ وَدَاعِ رَمَضَانَ، وَلَا يَفْصِلُنَا عَنْ ذَهَابِهِ عَنَّا إِلَّا وَقْتٌ يَسِيرٌ؛ غَيْرَ أَنَّنَا فِي هَذَا الْعَامِ -مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ- نُوَدِّعُ حَبِيبًا لَمْ تَشْبَعِ الرُّوحُ مِنْ لِقَائِهِ، وَلَمْ تَرْتَوِ مِنْ سَلْسَبِيلِ فُرَاتِ مَائِهِ، وَلَمْ تَجِدِ الْعُيُونُ كِفَايَتَهَا مِنَ النَّظَرِ إِلَى جَمِيلِ رُوَائِهِ...
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ أَنَّنَا نَعِيشُ عَلَى هَذِهِ الْبَسِيطَةِ بَيْنَ تَعَاقُبِ الزَّمَانِ الَّذِي اعْتَادَ الْكَوْنُ عَلَى أَنَّهُ دَائِمُ التَّصَرُّمِ، مُسْتَمِرُّ الذَّهَابِ، لَيْسَ لَدَيْهِ تَوَقُّفٌ وَلَا سُكُونٌ، حَتَّى يَنْتَهِيَ عُمْرُ هَذِهِ الْحَيَاةِ الْفَانِيَةِ، لِيَصِلَ أَهْلُهَا بَعْدَهَا إِلَى الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ الْبَاقِيَةِ.
لَقَدْ كُنَّا قَبْلَ أَسَابِيعَ نَسْتَقْبِلُ ضَيْفَ الْعَامِ، وَأَرْوَاحُنَا تَتَسَامَى فَرَحًا بِمَوْسِمٍ خِصْبٍ تُزْهِرُ فِيهِ الرُّوحُ، وَتَرْقَى عَلَى مِعْرَاجِهِ إِلَى آفَاقٍ رَحْبَةٍ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْمَكَارِمِ.
وَلَكِنَّنَا الْيَوْمَ نَقِفُ عَلَى مَشَارِفِ وَدَاعِ رَمَضَانَ، وَلَا يَفْصِلُنَا عَنْ ذَهَابِهِ عَنَّا إِلَّا وَقْتٌ يَسِيرٌ؛ غَيْرَ أَنَّنَا فِي هَذَا الْعَامِ -مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ- نُوَدِّعُ حَبِيبًا لَمْ تَشْبَعِ الرُّوحُ مِنْ لِقَائِهِ، وَلَمْ تَرْتَوِ مِنْ سَلْسَبِيلِ فُرَاتِ مَائِهِ، وَلَمْ تَجِدِ الْعُيُونُ كِفَايَتَهَا مِنَ النَّظَرِ إِلَى جَمِيلِ رُوَائِهِ، وَلَمْ يَلُفَّ النُّفُوسَ فِي جَوَانِبِهَا كَمَالُ بَهَائِهِ؛ فَهَذَا الْوَبَاءُ قَدْ حَالَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا تَشْتَهِي مِنَ الْكَمَالَاتِ الْقُدْسِيَّةِ، وَنَيْلِ تِلْكَ اللَّذَّاتِ الرُّوحِيَّةِ، وَلِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ، وَلَهُ الْحَمْدُ عَلَى حُسْنِ بَلَائِهِ، كَمَا نَحْمَدُهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى جَزِيلِ نَعْمَائِهِ.
وَمَعَ هَذَا نَقُولُ لِرَمَضَانَ وَهُوَ يُلَوِّحُ إِلَيْنَا بِكَفِّ الْوَدَاعِ:
وَدَاعُكَ مِثْلُ وَدَاعِ الرَّبِيعِ *** وَفَقْدُكَ مِثُلُ افْتِقَادِ الدِّيَمْ
عَلَيْكَ السَّلَامُ فَكَمْ مِنْ وَفَاءٍ *** نُفَارِقُ مِنْكَ وَكَمْ مِنْ كَرَمْ
عِبَادَ اللَّهِ: وَنَحْنُ عَلَى عَتَبَاتِ وَدَاعِ رَمَضَانَ فِي هَذَا الْعَامِ هَلْ وَقَفْنَا وِقْفَةَ تَأَمُّلٍ فِيمَا قَدَّمْنَا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِيهِ؟
فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ الْحَرِيصَ عَلَى انْتِهَازِ مَوَاسِمِ الْخَيْرِ سَيُسَارِعُ إِلَى الظَّفَرِ بِفَضَائِلِهَا عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ فِيهَا، وَسَيَعْمَلُ الْخَيْرَ مَا اسْتَطَاعَ سَبِيلًا إِلَيْهِ، وَلَنْ يَكُونَ حَجْرُهُ أَوْ سَجْنُهُ حَائِلًا دُونَ اغْتِنَامِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ قَوْلَهُ -تَعَالَى-: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 133].
أَلَا فَلْيَقِفِ الْمُسْلِمُ الْيَوْمَ سَائِلًا نَفْسَهُ: هَلْ كَانَ صِيَامُهُ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؟، وَهَلْ كَانَتْ خُطَاهُ مُسَارِعَةً عَلَى مَدَارِجِ الْقُرُبَاتِ فِي شَهْرِ الصِّيَامِ؛ فَقَامَ لَيَالِيَ الصِّيَامِ، وَأَكْثَرَ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ، وَجَادَ بِسَخَائِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَالْمُحْتَاجِينَ، وَأَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟
هَلْ كَانَ رَمَضَانُ زَمَنًا لِتَغْيِيرِ شَخْصِيَّتِهِ الَّتِي أَلِفَتْ بَعْضَ الْخَطَايَا فَجَاءَ شَهْرُ الصِّيَامِ فَمَنَعَهَا مِنْهَا، وَعَزَمَ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدَةِ إِلَيْهَا؛ إِذْ رَمَضَانُ دَوْرَةٌ تَدْرِيبِيَّةٌ لِتَغْيِيرِ النُّفُوسِ مَنْ سَيِّئِ الْحَالِ إِلَى أَحْسَنِهِ؟
وَحِينَمَا جَاءَتِ الْعَشْرُ الْأَخِيرَةُ مِنْ رَمَضَانَ هَلِ اجْتَهَدْنَا وَشَدَدْنَا مِئْزَرَ الْجِدِّ فَسَابَقْنَا إِلَى الْتِمَاسِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِكَثْرَةِ الطَّاعَةِ فِيهَا؟، الَّتِي قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى- فِيهَا: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)[الْقَدْرِ: 3]، وَقَالَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَتَاكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ"(رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ).
فَطُوبَى لِمَنْ أَحْسَنَ الصِّيَامَ، وَوَاظَبَ عَلَى الْقِيَامِ، وَامْتَدَّ خَيْرُهُ لِلْأَنَامِ، وَلَمْ يُكْثِرْ مِنَ الْعَبَثِ وَطُولِ الْمَنَامِ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ رَمَضَانَ مَدْرَسَةٌ تَرْبَوِيَّةٌ تُرَبِّي الْمُسْلِمَ الْمُحِبَّ لَهَا عَلَى لُزُومِ الْفَضَائِلِ، وَهَجْرِ الرَّذَائِلِ، وَتُحَلِّقُ بِهِ فِي سَمَاءِ الطَّاعَاتِ، وَتَمُرُّ بِهِ عَلَى رِيَاضِ الْقُرُبَاتِ، حَتَّى يَجِدَ أَرِيجَهَا الْفَوَّاحَ فَيَلْزَمَ إِلْفَهَا، وَيَكْرَهَ فِرَاقَهَا، وَبِذَلِكَ يُصْبِحُ مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ -تَعَالَى- غَايَةَ فَرْضِيَّةِ صِيَامِ رَمَضَانَ، فَقَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[الْبَقَرَةِ: 183].
فَهَلْ نَجَحْنَا فِي هَذِهِ الْمَدْرَسَةِ الرُّوحِيَّةِ؟
فَمِنْ رَمَضَانَ يَتَعَلَّمُ الْإِنْسَانُ أَنَّهُ عِنْدَ اللَّهِ بِرُوحِهِ لَا بِجَسَدِهِ، وَأَنَّ سَعَادَتَهُ بِتَجْوِيعِ بَدَنِهِ مِنْ أَجْلِ إِشْبَاعِ رُوحِهِ الَّتِي بِهَا صَلَاحُ الْعَمَلِ، وَسَلَامَةُ الْقَلْبِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَمِنْ رَمَضَانَ يَتَعَلَّمُ الْإِنْسَانُ أَنَّ هُنَاكَ جُمُوحًا لِلنَّفْسِ سَبَبُهُ إِدْمَانُ الشَّهَوَاتِ الْبَدَنِيَّةِ، وَذَلِكَ سَبَبُ شَقَائِهَا؛ فَجَاءَ رَمَضَانُ لِيَحُدَّ مِنْ جِمَاحِهَا بِمَنْعِهَا مِنْهَا أَحْيَانًا؛ فَيَعْلَمَ الْمُسْلِمُ الدَّاءَ؛ فَيَسْتَعْمِلَ الدَّوَاءَ.
وَتَعَلَّمْنَا مِنْ رَمَضَانَ أَنَّنَا ضُعَفَاءُ مَهْمَا كُنَّا أَقْوِيَاءَ؛ فَسَاعَاتٌ مَعْدُودَاتٌ نُحْرَمُ فِيهَا مِنْ شَهَوَاتِ أَبْدَانِنَا نُصَابُ بِالْعَنَاءِ وَشَدَّةِ الْحَاجَةِ! وَصَدَقَ اللَّهُ إِذْ يَقُولُ: (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا)[النِّسَاءِ: 28].
فَهَلْ أَرْشَدَنَا ذَلِكَ إِلَى التَّوَاضُعِ لِلَّهِ وَلِعِبَادِ اللَّهِ؟
وَلَقَدْ تَعَلَّمْنَا مِنْ رَمَضَانَ أَنَّ النَّفْسَ تَحْتَاجُ إِلَى تَصْبِيرٍ، وَإِلَّا فَلَنْ يَعْتَدِلَ سَيْرُهَا وَتَبْلُغَ مُنَاهَا؛ فَالطَّاعَاتُ تَحْتَاجُ إِلَى صَبْرٍ يَدْفَعُ إِلَى الْقِيَامِ بِهَا وَالِاسْتِمْرَارِ عَلَيْهَا، وَالْمَكَارِهُ تَحْتَاجُ إِلَى صَبْرٍ عَلَى تَحَمُّلِهَا، وَفِعْلِ مَا يُحِبُّ اللَّهُ عِنْدَهَا، وَالْمَعَاصِي تَحْتَاجُ إِلَى صَبْرٍ عَلَى تَرْكِهَا، وَزَمِّ النَّفْسِ عَلَى هَجْرِهَا؛ سَنَحْمِلُ هَذِهِ الدُّرُوسَ النَّافِعَةَ مِنْ رَمَضَانَ لِنَسْتَضِيءَ بِنُورِهَا بَعْدَ رَمَضَانَ؟
عِبَادَ اللَّهِ: هَا هُوَ رَمَضَانُ يَسْتَعِدُّ لِشَدِّ أَمْتِعَةِ سَفَرِهِ مِنْ بَيْنِنَا، حَامِلًا إِلَى رَبِّهِ أَعْمَالَ الْعِبَادِ، وَمُفْصِحًا لَهُ عَنْ أَحْوَالِهِمْ مَعَهُ؛ إِذْ هُمْ بَيْنَ رَابِحٍ وَخَاسِرٍ؛ فَهَلْ أَنْتَ -يَا عَبْدَ اللَّهِ- مِنَ الرَّابِحِينَ فِي رَمَضَانَ، أَوْ مِنَ الْفَرِيقِ الْآخَرِ؟
فَالرَّابِحُونَ فِي رَمَضَانَ هُمُ الَّذِينَ صَامُوهُ وَقَامُوهُ، وَقَامُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَالرَّابِحُونَ فِي رَمَضَانَ هُمُ الَّذِينَ حَافَظُوا عَلَى الْوَاجِبَاتِ، وَسَارَعُوا إِلَى الْمُسْتَحَبَّاتِ، وَتَجَنَّبُوا الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ، وَلَمْ تَشْغَلْهُمُ الْمُبَاحَاتُ عَنِ التَّقَرُّبِ بِالطَّاعَاتِ.
وَالرَّابِحُونَ فِي رَمَضَانَ هُمُ الَّذِينَ أَثَّرَ عَلَيْهِمْ صِيَامُهُ وَسَائِرُ طَاعَاتِهِ زَكَاءً فِي نُفُوسِهِمْ، وَسُمُوًّا فِي أَرْوَاحِهِمْ، وَحُسْنًا فِي أَخْلَاقِهِمْ، وَرِقَّةً فِي قُلُوبِهِمْ، وَالرَّابِحُونَ فِي رَمَضَانَ هُمُ الَّذِينَ نَظَرُوا إِلَى جُودِ اللَّهِ فِي رَمَضَانَ عَلَى عِبَادِهِ؛ فَجَادُوا عَلَى خَلْقِ اللَّهِ بِحُسْنِ تَعَامُلِهِمْ، وَكَرَمِ أَمْوَالِهِمْ، وَطِيبِ مَعُونَتِهِمْ؛ فَالْجُودُ يُذَكِّرُ بِالْجُودِ، قَالَ تَعَالَى: (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ)[الْقَصَصِ: 77].
وَالرَّابِحُونَ فِي رَمَضَانَ هُمُ الَّذِينَ عَكَفُوا عَلَى تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَتَدَبَّرُوا فِيمَا قَرَؤُوا، وَوَجَدُوا لِقِرَاءَتِهِمْ تِلْكَ أَثَرًا فِي أَفْهَامِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَالرَّابِحُونَ فِي رَمَضَانَ هُمُ الَّذِينَ عَقَدُوا الْعَزْمَ عَلَى دَوَامِ الصِّلَةِ مَعَ الطَّاعَةِ، وَهَجْرِ دُرُوبِ الْمَعْصِيَةِ عَقِبَ رَمَضَانَ.
وَأَمَّا الْخَاسِرُونَ فِي رَمَضَانَ فَهُمُ الَّذِينَ أَفْطَرُوا فِيهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ، فَانْتَهَكُوا بِذَلِكَ حُرْمَتَهُ، وَالْخَاسِرُونَ فِي رَمَضَانَ هُمُ الَّذِينَ اسْتَمَرُّوا عَلَى مَعَاصِيهِمْ فِيهِ، وَلَمْ تَحُلْ قُدْسِيَّةُ رَمَضَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ خَطَايَاهُمُ السَّالِفَةِ.
وَالْخَاسِرُونَ فِي رَمَضَانَ هُمْ مَنْ ضَيَّعُوا زَمَانَهُ الشَّرِيفَ بِاللَّعِبِ وَالْعَبَثِ، وَكَثْرَةِ الطَّعَامِ وَالنَّوْمِ، وَتَرَكُوا بِذَلِكَ الْقِيَامَ، وَتِلَاوَةَ الْقُرْآنِ، وَكَثْرَةَ ذِكْرِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَالْخَاسِرُونَ فِي رَمَضَانَ هُمْ مَنْ خَرَجَ عَنْهُمْ رَمَضَانُ وَلَمْ تُغْفَرْ ذُنُوبُهُمْ، مَعَ كَثْرَةِ أَسْبَابِ الْمَغْفِرَةِ فِيهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "رَغِمَ أَنْفُ رِجْلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ شَهْرُ رَمَضَانَ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ"(رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالتِّرْمِذِيُّ).
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: "كَانَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ يَقِفُونَ عَلَى أَبْوَابِ وَدَاعِ رَمَضَانَ وَمَعَالِمُ الْحُزْنِ عَلَى وُجُوهِهِمْ بَادِيَةٌ، وَعَلَى أَلْسِنَتِهِمْ نَاطِقَةٌ، مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْتَهِدُونَ اجْتِهَادًا قَدْ لَا نَسْتَطِيعُهُ؛ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ كَانَ يُنَادِي فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ: "يَا لَيْتَ شِعْرِي مَنْ هَذَا الْمَقْبُولُ فَنُهَنِّيهِ، وَمِنْ هَذَا الْمَحْرُومِ فَنُعَزِّيهِ؟"، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "مَنْ هَذَا الْمَقْبُولُ مِنَّا فَنُهَنِّيهِ، وَمَنْ هَذَا الْمَحْرُومُ مِنَّا فَنُعَزِّيهِ؟ أَيُّهَا الْمَقْبُولُ، هَنِيئًا لَكَ، أَيُّهَا الْمَرْدُودُ جَبَرَ اللَّهُ مُصِيبَتَكَ".
فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنَا فِي رَمَضَانَ مِنَ الرَّابِحِينَ، وَأَنْ لَا يَجْعَلَنَا مِنَ الْخَاسِرِينَ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ -تَعَالَى- عَلَيْنَا أَنْ يَنْقُلَنَا مِنْ عِبَادَةٍ إِلَى عِبَادَةٍ، وَمِنْ خَيْرٍ إِلَى آخَرَ؛ فَلَقَدْ شَرَعَ اللَّهُ -تَعَالَى- فِي خِتَامِ صِيَامِ رَمَضَانَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ.
وَهِيَ فَرْضٌ عَلَى الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، مِمَّنْ مَلَكَ قُوتَ لَيْلَةِ الْعِيدِ وَيَوْمِهِ، وَمِقْدَارُهَا صَاعٌ مِنَ الطَّعَامِ، وَيُسَاوِي ذَلِكَ ثَلَاثَةَ كِيلُو إِلَّا رُبْعًا؛ فَأَدُّوا -رَحِمَكُمُ اللَّهُ- هَذِهِ الْفَرِيضَةَ طَيِّبَةً بِهَا نُفُوسُكُمْ، وَاحْذَرُوا أَنْ تُؤَخِّرُوهَا إِلَى مَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ.
عِبَادَ اللَّهِ: إِذَا أَفَلَتْ شَمْسُ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ إِلَى الْغُرُوبِ؛ فَقَدْ آذَنَتْ بِمِيلَادِ الْعِيدِ، ذَلِكَ الْيَوْمُ السَّعِيدُ الَّذِي يَفْرَحُ عَلَى شَاطِئِهِ أَهْلُ الْعِبَادَةِ؛ بِأَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- قَدْ أَعَانَهُمْ عَلَى إِتْمَامِ الصِّيَامِ وَالْقِيَامِ وَسَائِرِ عِبَادَاتِ رَمَضَانَ.
لَكِنَّ هَذَا الْيَوْمَ سَيَأْتِينَا وَمَازَالَ الْعَالَمُ يَئِنُّ تَحْتَ وَطْأَةِ وَبَاءِ كُورُونَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
غَيْرَ أَنَّنَا -فِي ظِلِّ هَذَا الْبَلَاءِ- نُنَبِّهُ عَلَى أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ فِي الْأَمَاكِنِ الَّتِي تَعِيشُ حَجْرًا صِحِّيًّا يَنْبَغِي أَنْ لَا تُتْرَكَ حِينَمَا لَا يَسْتَطِيعُ النَّاسُ الذَّهَابَ إِلَى الْمَسَاجِدِ وَالْمُصَلَّيَاتِ، بَلْ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي بَيْتِهِ مَعَ أَهْلِهِ وَأَوْلَادِهِ، وَمَنْ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ يُشْرَعُ أَنْ يُصَلِّيَهَا وَحْدَهُ بِالْكَيْفِيَّةِ الْمَعْلُومَةِ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْمُصَلَّيَاتِ.
فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اغْتَنِمُوا مَا تَبَقَّى مِنْ لَحَظَاتِ رَمَضَانَ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَشَغْلِ الْفَرَاغِ بِالتَّقَرُّبِ إِلَى الرَّحِيمِ الْغَفَّارِ، وَاسْتَمِرُّوا بَعْدَ رَمَضَانَ عَلَى مَا تَعَوَّدْتُمْ مِنَ الْخَيْرِ فِيهِ، وَلَا تَنْسَوْا زَكَاةَ الْفِطْرِ، وَأَدَاءَ صَلَاةِ الْعِيدِ وَفْقَ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي قَرَّرَهَا أَهْلُ الْعِلْمِ؛ سَوَاءٌ فِي الْبُيُوتِ لِمَنْ حَبَسَهُمْ حَابِسٌ؛ كَالْحَجْرِ الصِّحِّيِّ أَوْ وُجُودِهِمْ فِي الْبُلْدَانِ الَّتِي لَا تُقَامُ فِيهَا صَلَاةُ الْعِيدِ؛ كَبُلْدَانِ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ فِي الْمَسَاجِدِ لِمَنْ هُمْ فِي الْبُلْدَانِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا بَلَاءٌ، مَعَ حِرْصِهِمْ عَلَى أَسْبَابِ الْوِقَايَةِ مِنْ فَيْرُوسِ كُورُونَا مِنْ تَرْكِ الْمُصَافَحَةِ وَالزِّحَامِ وَلُزُومِ التَّبَاعُدِ وَلُبْسِ الْكِمَامَاتِ وَتَعْقِيمِ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، مِمَّا أَوْرَدَتْهُ الْجِهَاتُ الْمُخْتَصَّةُ بِالصِّحَّةِ وَالطِّبِّ؛ فَفِي الْتِزَامِ ذَلِكَ سَلَامَةٌ لَكُمْ وَلِمُجْتَمَعَاتِكُمْ.
وَنَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- لَنَا وَلَكُمْ قَبُولَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَأَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا وَعَنْكُمْ مَا قَصَّرْنَا فِي رَمَضَانَ، إِنَّهُ قَرِيبٌ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْمَبْعُوثِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ؛ (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
التعليقات