عناصر الخطبة
1/تدبر القرآن من العبادات القلبية العظيمة 2/معنى التدبُّر للقرآن 3/أهمية تدبر القرآن وثمراته 4/ذم ترك تدبر القرآن 5/أقوال المفسرين في وجوب تدبر كلام رب العالميناقتباس
ومعلوم أنَّ كُلَّ مَنْ لم يشتغل بتدبُّر آيات هذا القرآن العظيم، أي: تصفُّحها وتفهُّمها، وإدراك معانيها، والعمل بها؛ فإنَّه مُعْرِض عنها، غَيرُ متدبِّر لها، فيستحقُّ الإنكارَ والتَّوبيخَ المذكورَ في الآيات، إنْ كان الله أعطاه فَهْماً يَقْدِرُ به على التَّدبُّر...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، الأوَّل بلا ابتداء، والآخِر بلا انتهاء، مُدبِّر الكون ومُسيِّره، فلا تهبُّ في هذا الكون نسمة هواء، ولا تطرف عين إلاَّ بإذن رب الأرض والسماء، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، وصفيُّه من خلقه وحبيبه، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة؛ فكشف الله به الغُمَّة، وتركها على المحجَّة البيضاء ليلها كنهارها، ما زاغ عنها إلاَّ هالك.
أمَّا بعد: إنَّ تدبر القرآن من العبادات القلبية والعقلية معاً، فالمُسلم يتلقَّى القرآنَ بقلب خاشع خاضع، ثمَّ يتفكَّر فيه وفي معانيه؛ ليستنبط منه ما ينفعه في الدنيا والآخرة.
عباد الله: إنَّ أصل التَّدبُّر: هو التَّأمُّل في أدبار الأمور وعواقبها، ثمَّ استُعمل في كلِّ تأمُّل، قال السِّعدي -رحمه الله- في معنى تدبُّر القرآن: "هو التَّأمُّل في معانيه، وتحديق الفِكر فيه، وفي مبادئه، وعواقبه، ولوازم ذلك"(تفسير السعدي).
وخلاصة ما جاء عن أهل العلم في معنى تدبُّر القرآن: هو تفهُّم معاني ألفاظه، والتَّفكُّر فيما تدلُّ عليه آياته مطابقةً أو ضمناً، من الإشارات والتَّنبيهات، وانتفاعُ القلب بذلك، بخشوعه عند مواعظه، وخضوعه لأوامره ونواهيه، وأخذ العبرة منه.
إخوتي الكرام: لِتدبُّر القرآن أهميةٌ بالغة تتضح فيما يلي:
أولاً: أنَّ تدبُّر القرآن وتفهُّم علومه من النُّصح لكتاب الله -تعالى-: وقد أشار إلى هذا المعنى أهل العلم، منهم ابن رجب -رحمه الله- بقوله: "وأمَّا النَّصيحة لكتاب الله: فشِدَّةُ حُبِّه وتعظيمُ قدرِه، إذ هو كلامُ الخالق، وشدَّةُ الرَّغبة في فَهْمِه، وشدَّةُ العناية لتدبُّره، والوقوف عند تلاوته؛ لِطلب معاني ما أحبَّ مولاه أن يفهمه عنه، ويقوم به له بعدَ ما يفهمه"(جامع العلوم والحكم)، إذاً تدبر القرآن وتفهُّم معانيه: من النصح لكتاب الله -تعالى-.
ثانياً: إنَّ القلب بحاجة إلى تدبُّر القرآن: فالقلب فيه وحشة لا تُزال إلاَّ بالأنس بكتاب الله -تعالى-، والتَّأمُّل في آياته، وفيه قلق وخوف لا يؤمِّنه إلاَّ السُّكون إلى ما بشَّر الله -تعالى- به عباده، وفيه فاقة لا يغنيها إلاَّ التَّزوُّد من حِكَمِ القرآن ومواعظه وعبره، وفيه حيرة واضطراب لا ينجيه منها إلاَّ الاعتصام بكتاب الله -تعالى-.
عباد الله: ولقد حذَّر الله -تعالى- عباده المؤمنين من التَّمادي في هجر القرآن؛ فتكون نتيجته قسوةَ القلوب، فقال -تعالى-: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)[الحديد: 16]، قال محمد بن كعب -رحمه الله-: "كانتِ الصَّحابة بمكَّة مُجْدبين، فلمَّا هاجروا أصابوا الرِّيف والنِّعمة، ففتروا عمَّا كانوا فيه، فقست قلوبهم، فوعظهم الله فأفاقوا"(تفسير القرطبي، تفسير الثعالبي)، والعتاب لعامَّة المؤمنين أحرى وأولى، فما ظنكم بالعصر المادي الذي نعيش فيه؟ فنحن أحوج ما نكون إلى خشوع القلب لذكر الله -تعالى-.
فمَنْ أراد أن يخشع قلبه، وينشرح صدره، فلا غنى له عن التَّفكُّر والتَّمعُّن في الآيات الكريمات، ولا يكن همُّه إذا افتتح السُّورة أن يقول في نفسه: متى أختمها؟ قال الآجرِّي -رحمه الله-: "فالمؤمن العاقل إذا تلا القرآن استعرض القرآن، فكان كالمرآة يرى بها ما حَسُن من فعله وما قَبُحَ فيه، فما حذَّره مولاه حَذَره، وما خوَّفه به من عقابه خافه، وما رغَّب فيه مولاه رَغِبَ فيه ورجاه"(أخلاق حملة القرآن).
معشر الفضلاء: وينبغي لقارئ القرآن أن يسأل نفسه: متى أتَّعظ بما أتلوه؟ ولا يكن همه: متى أختم السُّورة؟ وإنَّما يكون مراده: متى أعقل من الله الخطاب؟ متى أزدجر؟ متى أعتبر؟ لأنَّ تلاوة القرآن عبادة، والعبادة لا تكون بغفلة.
وقراءة القرآن بالتَّفكُّر هي أصل صلاح القلب واستقامته، ولا شيء أنفع للعبد في معاشه وأقرب إلى نجاته في معاده من تدبُّر القرآن العظيم، وفي هذا الشَّأن يقول ابن القيِّم -رحمه الله-: "فلا شيءَ أنفعُ للقلب من قراءة القرآن بالتَّدبُّر والتَّفكُّر... فلو عَلِمَ الناسُ ما في قراءة القرآن بالتَّدبُّر، لاشتغلوا بها عن كلِّ ما سواها... فقراءةُ آيةٍ بتفكُّرٍ وتفهُّمٍ خَيرٌ من قراءةِ ختمةٍ بغيرِ تدبُّرٍ وتفهُّم، وأنفعُ للقلب، وأدعى إلى حصولِ الإيمان وذَوْقِ حَلاوةِ القرآن... فقراءةُ القرآنِ بالتَّفكُّرِ هي أصلُ صَلاحِ القلب"(مفتاح دار السعادة).
ثالثاً: الدُّخول فيمَنْ أثنى الله عليهم بتدبُّر القرآن: أثنى الله -عزّ وجل- في مواضع كثيرة من القرآن على مَنْ تدبَّر كلامه وتأثَّر به، وبيَّن أن ذلك صفةُ عباد الله الخاشعين، ومن أبرز هذه المواضع: قوله -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)[الأنفال: 2-4]، ووجه زيادة إيمانهم -عند سماع القرآن- هو أنَّهم ألقوا السَّمع للقرآن، وأحضروا قلوبهم لتدبُّره، فعند ذلك ازداد إيمانهم ويقينهم.
فالتَّدبُّر يُحدث رغبةَ الخير، واشتياقاً إلى كرامة الله -تعالى- لهم، ووَجَلاً من عقوباته، وزجراً عن معاصيه، وكلُّ هذا ممَّا يزداد به الإيمان.
ومما يُبين أهمية تدبر القرآن -إخوتي الكرام- رابعاً: عدم التَّعرُّض إلى الذَّمِّ لترك التَّدبُّر: فقد ذمَّ الله -تعالى- في عدة مواضع حالَ مَنْ هجر تدبُّر القرآن، ولم يفقه الآيات، ولم يدَّبَّرِ القول في صيغ مختلفة، وأحوال متنوِّعة، ومنها:
قوله -تعالى-: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ)[النساء: 82]، [محمد: 24]، قال القرطبي -رحمه الله-: "عاب المنافقين بالإعراض عن التَّدبُّر في القرآن، والتَّفكُّر فيه، وفي معانيه"(تفسير القرطبي)، وزاد الشَّنقيطي -رحمه الله- الأمر بياناً، بقوله: "ومعلوم أنَّ كُلَّ مَنْ لم يشتغل بتدبُّر آيات هذا القرآن العظيم، أي: تصفُّحها وتفهُّمها، وإدراك معانيها، والعمل بها؛ فإنَّه مُعْرِض عنها، غَيرُ متدبِّر لها، فيستحقُّ الإنكارَ والتَّوبيخَ المذكورَ في الآيات، إنْ كان الله أعطاه فَهْماً يَقْدِرُ به على التَّدبُّر... وهذه الآيات المذكورة تدلُّ على أنَّ تدبُّر القرآن وتفهُّمه، وتعلُّمه، والعمل به أمر لا بدَّ منه للمسلمين... فإعراض كثير من الأقطار عن النَّظرِ في كتاب الله وتفهُّمه، والعملِ به، وبالسُّنَّةِ الثَّابتة المبيِّنة له، من أعظم المناكِرِ وأشنعها"(أضواء البيان).
أيها الإخوة الكرام: ومن الآيات التي تذم ترك التدبر: قوله -تعالى-: (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ)[المؤمنون: 68]، أنكر الله -تعالى- على الكفار عدمَ تفكُّرِهم في القرآن، وعدك تأمُّلِهم في مواعظه وعبره، وعدم تدبُّرِهم لآياته فإنَّهم لو تدبَّروه لأوجب لهم الإيمان، ولمنعهم من الكفر، ولكنَّ المصيبة التي أصابتهم هو إعراضهم عن تدبُّر القرآن، وهذا يدلُّ على أنَّ تدبُّر القرآن يدعو إلى كلِّ خير، ويعصم من كلِّ شر.
ومن الآيات التي تذم ترك التدبر: قوله -تعالى-: (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا)[الفرقان: 30]، قال ابن كثير -رحمه الله-: "وترك تدبُّره وتفهُّمه من هجرانه"(تفسير ابن كثير).
وجاء في وصف الخوارج قوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "يَقْرَؤُونَ القُرآنَ لا يُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ، أو حَنَاجِرَهُمْ"(رواه البخاري)، قال النَّووي -رحمه الله- في المراد بذلك: "ليس حظُّهم من القرآن إلاَّ مروره على اللِّسان، فلا يجاوز تراقيهم ليصل قلوبهم، وليس ذلك هو المطلوب، بل المطلوب تعقُّله وتدبُّره بوقوعه في القلب"(صحيح مسلم بشرح النووي)، والتَّعقُّل والتَّدبُّر يقود إلى العمل، وقال الزَّركشي -رحمه الله-: "ذمَّهم بإحكام ألفاظِه، وتركِ التَّفهُّم لمعانيه"(البرهان في علوم القرآن).
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
عباد الله: أوجب الله -تعالى- التَّدبُّر والتَّفكُّر وإمعان النَّظر؛ لفهم معاني آيات الكتاب العزيز، وعاب على المنافقين إعراضهم عن تدبُّر القرآن والتَّفكُّر فيه وفي معانيه في عدَّة مواضع من القرآن، ومنها: قوله -تعالى-: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)[النساء: 82]، وقوله -تعالى-: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[محمد: 24]، وقوله -تعالى-: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)[ص: 29].
دلَّت هذه الآيات وما في معناها على وجوب تدبُّر القرآن العظيم، وقد أطبق على ذلك جمهور المفسِّرين: فقد استنبط القرطبي -رحمه الله- من قوله -تعالى-: (لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) على وجوب معرفة معاني القرآن، وقال -رحمه الله-: "ودلَّ قولُه -تعالى-: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) على وجوب التَّدبُّر في القرآن لِيُعْرَفَ معناه"(تفسير القرطبي)، وقال الشَّوكاني -رحمه الله-: "ودلَّت هذه الآية وقولُه -تعالى-: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) على وجوب التَّدبُّر للقرآن؛ لِيُعْرَفَ معناه"(فتح القدير)، وقال السُّيوطي -رحمه الله-: "وتدبُّر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن، وأيضاً فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتاباً في فنٍّ من العلم، كالطِّبِّ والحساب، ولا يستشرحونه، فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم، وبه نجاتهم وسعادتهم، وقيام دينهم ودنياهم؟!"(الإتقان في علوم القرآن)، وقال الزَّركشي -رحمه الله-: "وبالجملة فالقرآن كلُّه لم يُنزله -تعالى- إلاَّ لِيُفْهِمَه، ويُعْلَمَ ويُفْهَمَ؛ ولذلك خاطب به أُولي الألباب الذين يعقلون، والذين يعلمون، والذين يفقهون، والذين يتفكَّرون"(البرهان في علوم القرآن).
عباد الله: ومع هذه الكثرة الكاثرة من النُّصوص الآمرة بتدبُّر القرآن العظيم ، والتَّفكُّر في معانيه، وإمعان النَّظر فيه، والنَّاهية عن الإعراض عنه، وكذلك النُّقول الواردة عن علماء التَّفسير في وجوب تدبُّر القرآن، نجد أنَّ غالب المسلمين اليوم قد اكتفوا بألفاظ يردِّدونها، وأنغام يُلحِّنونها في المآتم والمقابر والدُّور، وبمصاحفَ يحملونها أو يودعونها تَرِكَةً في البيوت، ونسوا أو تناسوا أنَّ بركة القرآن العظمى إنَّما هي في تدبُّر آياته وتفهُّمها، والتَّأدُّب بها، والوقوف عند أوامرها، والبعد عن نواهيها ومساخطها.
التعليقات