عناصر الخطبة
1/نعم الله وآلاؤه المتوالية 2/التحذير من دار الغرور 3/المسلم يستنير في حياته بنور الشرع وهدايته 4/ازدواجية القيم والمفاهيم في الحياة المعاصرة 5/الوصية بالتقوى والتحذير من المعاصياقتباس
الدنيا دارُ ابتلاءاتٍ ومِحَنٍ، والحصيفُ مَنْ تحرَّزَ لنفسِه ودِينِه حتى لا يقعَ في الفتنِ، لِيَنْجُوَ منها، وأعظمُ الخلقِ غرورًا مَنِ اغترَّ بالدنيا وعاجِلِها، فآثَرَها على الآخِرةِ، ورضي بها من الآخرةِ، فمَنِ اعتصَم بحبلِ اللهِ واستنارَ بنورِ اللهِ وتمسَّكَ بكتابِ اللهِ استقام ونَجَا...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الكريم الجواد، خلَق الإنسانَ من نطفة، وجعَل له السمعَ والبصرَ والفؤادَ، أنزَل الغيثَ مبارَكًا فأحيا به البلادَ، وأخرَج به نباتَ كلِّ شيءٍ رزقًا للعباد، نحمده -تبارك وتعالى- حمدَ الطائعينَ العُبَّاد، ونتوكَّل عليه توكُّلَ المخبتينَ الزُّهَّادِ، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ المضِلّ الهاد، المنزَّه الذاتِ عن الأشباهِ والأندادِ، الفعَّال لِمَا يريد، ولا يقع في مُلكِه إلا ما أراد، وأشهد أنَّ سيدنا محمدًا عبده ورسوله، سيد الأوَّلِينَ والآخِرِينَ مِنْ حاضرٍ وبادٍ، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِكْ عليه، حيث الصلاة عليه لنا خير زاد، ما نادى للصلاة منادٍ، وكلما ذكرَه الذاكرونَ وغفَل عن ذِكرِه الغافلون، إلى يوم التناد.
أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، وأن نخلص له الأعمال، ونراقبه في جميع الأحوال، وأن نتقرَّب إليه من طاعته بما يرضيه، ونتجنَّب مَساخِطَه ومناهيه؛ فقد صحَّ عن نبيكم -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: "الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نفسَه وعَمِلَ لِمَا بعدَ الموتِ، والعاجزُ مَنْ أَتْبَعَ نفسَه هواها، ثم تمنَّى على الله الأمانيَّ".
عبادَ اللهِ: إننا في هذه الأيام نتقلَّب في نِعَمٍ من الله وافرة، وخيراتٍ عامرةٍ، سماؤُنا تُمطِر، وشجَرُنا يُثمِر، وأرضُنا تخضرُّ، فتَح الرزاقُ لنا أبوابَ السماء، فعمَّ بغيثه جميعَ أرضنا، فامتلأتِ السدودُ والوديانُ والآبار، وارتوت الأرض والأشجار، فاللهم زِدْنَا من فضلِكَ ورحمتِكَ؛ فإنَّه لا يملكها إلا أنتَ سبحانك وبحمدك، اللهم سُقيَا رحمةٍ لا سُقيَا عذابٍ ولا هدمٍ ولا غرقٍ.
أيها المسلمون: الدنيا دارُ ابتلاءاتٍ ومِحَنٍ، والحصيفُ مَنْ تحرَّزَ لنفسِه ودِينِه حتى لا يقعَ في الفتنِ، لِيَنْجُوَ منها، وأعظمُ الخلقِ غرورًا مَنِ اغترَّ بالدنيا وعاجِلِها، فآثَرَها على الآخِرةِ، ورضي بها من الآخرةِ، فمَنِ اعتصَم بحبلِ اللهِ واستنارَ بنورِ اللهِ وتمسَّكَ بكتابِ اللهِ استقام ونَجَا، ومَنْ أفلتَ السببَ وأغمَضَ عَينَه عن النور وصدَّ عن الصراط المستقيم، تاهَ وهلَكَ، والعياذ بالله -تعالى-.
عبادَ اللهِ: في هذه الدنيا يسبح الإنسان في بحر الحياة، بينَ أمواجِ الهواجسِ والأفكارِ والوساوسِ والظنونِ والأهواءِ والشهواتِ وأعاصيرِ الأعراضِ، والذي خلَق الإنسانَ وخلَق فيه أفكارَه ووساوسَه وغرائزَه، وخلَق الأعراضَ التي تُحيط به، لم يَغفُل عنه ولم يُهمله، بل أعطاه عقلًا وبصيرةً، وأرسل إليه رسولًا، وأنزَل عليه نظامًا يُوجِّهه في مسيرته في هذه الحياة، ومدَّ له سبيًا متصلًا بشاطئ النجاة، وفيه عروةٌ وثيقةٌ لا تُفصَم؛ فهو كمَثَل زورقٍ في بحرٍ لجيٍّ يرفعه الموجُ ويَخفِضُه، وتُحرِّكُه الرياحُ يمينًا وشمالًا، فلا بدَّ له مَنْ يُوصله ويحدِّد اتجاهَه، ولا بدَّ له من رُبَّانٍ ماهرٍ يَعرِف الممراتِ يسيرُ به إلى اتجاهِ الْمَرْسى، فإذا لم يكن كذلك ضَلَّ في المتاهاتِ وغَرِقَ.
ومن هذا المثل نتعرَّف على الازدواجيَّةِ والاختلافِ في هذا الزمن، فقد كَثُرَ العلمُ وانتشَر الجهلُ، وكثرتِ الأموالُ وزاد الفقرُ، وتطوَّر الطبُّ وفشتِ الأمراضُ، كَثُرَ العلمُ في النظريَّات والصناعات والفلسفات، ولكِنْ كَثُرَ الجهلُ بواجبِ الإنسانِ ورسالتِه في هذه الحياةِ، فصار العلمُ بدون تقوى، وعلى غير هُدًى، فاستُغِلَّتِ العلومُ لغير ما خُلِقَتْ له، خُلِقَتْ لتكونَ دليلًا على قدرة خالقها ووحدانيته، ولتكونَ رابطةً بينَ الإنسان وخالقه، خُلِقَتْ لتكونَ عونًا للإنسان على طاعةِ ربِّه، ولكنَّ العلمَ بعيدٌ عن هذا الآنَ إلا ما شاء اللهُ؛ فقد استُعملت بعضُ العلوم الآنَ للتخريب والتدمير والصدِّ عن دينِ اللهِ، واستعبادِ الضعيفِ، والسببُ في ذلك هو فَصْلُ العلمِ عن الإيمانِ، فإلى متى هذه الجهالةُ؟
لقد تطوَّر الاقتصادُ وكثرتِ الأموالُ فزادتِ النفوسُ شُحًّا وبخلًا ونهمةً في جمع الأموال بالحلال والحرام، بحقٍّ وبدونِ حقٍّ، كشارِبِ ماءِ البحرِ، كلما زادَ شُربًا ازدادَ عطشًا؛ فبعض الناس يُنفِق مئاتِ الألوفِ في رحلةٍ سياحيَّةٍ، ولكنَّه لا يُواسِي فقيرًا ولا يَعطِف على يتيمٍ؛ والسببُ في ذلك الجهلُ بنظامِ الإسلامِ، والجهلُ بالحسنى.
ألَا وإنَّ أعظمَ الازدواجيةِ في حياتِنا هي الازدواجيةُ في أمرِ دينِنا، نعلمُ الخيرَ ونأتي منه ما أَرَدْنَا، ونعلمُ الشرَّ ونجتنبُ منه ما شِئْنَا، نعلمُ الهُدَى ولا ندخلُ فيه كلِّه، ونعلمُ الضلالَ ولا نخرجُ منه كلِّه، اعتمادُنا على رحمةِ اللهِ -تعالى- ومغفرتِه، وكأننا لا نقرأُ القرآنَ، فلمَّا ذكرَ اللهُ -تعالى- أن: (رحمتَه وسعت كل شيء)، ذكرَ أهلَها وأحقَّ الناسِ بها، قال: (فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ)[الْأَعْرَافِ: 156].
فاتقوا الله يا أمةَ الإسلامِ؛ (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)[آلِ عِمْرَانَ: 110]، (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)[الْبَقَرَةِ: 143].
اللهم بَارِكْ لنا في القرآن العظيم، وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قُولِي هذا وأستغفِر اللهَ لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفِروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المجتبى، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اقتفى.
أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، والسمع والطاعة لولي الأمر بالمعروف، واعلموا أن الإيمان يُستفَتح به أبوابُ البركاتِ من السماء والأرض، والمعصية والطغيان قد تَفتَح أبوابَ كلِّ شرٍّ فتنةً واستدراجًا؛ ممَّا يُوجِب شدةَ الحذرِ من المعاصي في الأمة، وعدمَ الغفلةِ عمَّا في أيدي الناس من النِّعم والقيام بشُكرها، وعدم الاغترار بما فتَح اللهُ على الكفار من أبواب كل شي، واعلموا أنَّ العزةَ والكرامةَ في طاعةِ اللهِ -عز وجل-، والذلةَ والهوانَ في معصيةِ اللهِ، فاقنَعُوا بما أحلَّ اللهُ، وَازْهَدُوا فيما حرَّم اللهُ، وتيقَّنُوا يا عباد الله أن الآجالَ وتصريفَ الأمورِ بيدِ اللهِ -عز وجل-، فلا يَدرِي المرءُ ماذا سيُصيبه في صباحه ومسائه، فخُذُوا حِذْرَكم، وحاسِبُوا أنفسَكم قبلَ أن تُحاسَبُوا، وزِنُوهَا قبل أن تُوزَنوا.
وأكثروا من الصلاة والتسليم على نبينا الكريم؛ فقد أمركم بذلك في كتابه الكريم فقال -تبارك وتعالى-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارضَ الله عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين، الذين قَضَوْا بالحق وبه كانوا يعدلون؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن بقية الصحابة أجمعينَ، وأهل بيته الطاهرين، وعن التابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وارضَ عَنَّا معهم بمنكَ وإحسانك يا أرحم الراحمينَ.
اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذِلَّ الشركَ والمشركينَ، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِحْ أئمتَنا وولاةَ أمورنا، وأيِّدْ بالحقِّ إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقْه لهُداكَ، واجعل عملَه في رضاكَ، اللهم وفِّقْه ووليَّ عهده لما تحب وترضى، وخُذْ بناصيتهما للبر والتقوى، اللهم وفِّق جميعَ ولاة أمور المسلمين، للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك، واتباع سنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-.
اللهم أنتَ اللهُ لا إلهَ إلا أنتَ، أنتَ الغنيُّ ونحن الفقراء إليكَ، أنزِلْ علينا الغيثَ ولا تجعَلْنا من القانطينَ، اللهم اسقِنا وأغِثْنا، اللهم إنا نستغفركَ إنَّكَ كنتَ غفَّارًا، فأرسِلِ السماءَ علينا مدرارًا.
عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكركم، واشكروه على نعمه يَزِدْكُمْ، ولذكرُ اللهِ أكبرُ، واللهُ يعلمُ ما تصنعونَ.
التعليقات