وبالوالدين إحسانا

عادل العضيب

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ عظم أجر بر الأم 2/ فضائل بر الوالدين 3/ قبح عقوق الوالدين وإيذائهما 4/ قصة وعبرة 5/ شدة عواقب عقوق الوالدين في الدنيا والآخرة 6/ بر الوالدين أعظم سبب من أسباب التوفيق في الدنيا والآخرة.
اهداف الخطبة

اقتباس

مسكين من رحلتْ أُمُّه، عظَّم الله أجرك، وجبر قلبك، فَقْدُ الأم لا يعرفه إلا من ذاقه، اسألوا الذين فقدوا أمهاتهم، ليخبروكم عن نار لم تنطفئ من سنوات، وعن حسرةٍ تتبعها حسرات، وعن دموع نثروها في الخلوات، وهم يتذكرون شمسًا غابت عن الحياة ولن تشرق إلا على ساحة القيامة. وأما الأب، فهو الذي تعب وربى وأنفق بسخاء لكي يكفل للأولاد حياةً كريمةً لا يحتاجون فيها إلى الناس، أنفق عليك صغيرًا وجاد عليك كبيرًا، يجوع لتشبع، ويعرى لتلبس، ويشقى لتسعد...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الحكيم في خلقه وأمره، القوي في أخذه وقهره، من بارزه بالعصيان أذاقه عذابًا أليمًا، ومن استغفره من ذنوبه وجده غفورًا رحيمًا، ومن سأله من فضله وجده غنيًّا كريمًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا شريك في ربوبيته وإلهيته وأسمائه وصفاته شهادةً أدخرها ليوم لا تنفع فيه الأعذار، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار المهاجرين منهم والأنصار وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد: فيا عباد الله أيها المسلمون: رجل مسلم طوعت له نفسه قتل أخيه فقتله، قتل مسلمًا يشهد أن لا إله إلا الله وهو يقرأ قول الله: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء: 93]، ما أعظم العقوبة!

 

أخي في الله، حذار أن تلقى الله بذنب نفسٍ معصومة أزهقتَ روحها، احذر من تصنيف الناس والحكم عليهم؛ هذا مؤمن نعصم ماله ودمه، وذاك كافر نستبيح دمه وماله، اقبل من الناس ظواهرهم وكِلْ سرائرهم إلى الله تعالى، واحذر أن يجرك الشيطان في وقت غضب فتحمل سلاحك لتقتل نفسًا معصومةً؛ فإنه سيأتي يوم القيامة أوداجه تشخب دمًا، يقول: يا رب، سله فيم قتلني؟

 

نعود للرجل، قتل مسلمًا ثم ذهب يبحث عن عملٍ يكفِّر ذنبه العظيم، فذهب إلى ابن عباس –رضي الله عنهما- وقص عليه الخبر، فقال له ابن عباس: "أمك حية؟ قال: لا، قال: تب إلى الله –عز وجل- وتقرب إليه ما استطعت. فسُئل ابن عباس: لِمَ سألته عن حياة أمه؟ فقال: إني لا أعلم عملًا أقرب إلى الله –عز وجل- من بر الوالدة".

هل تكفينا هذه لمعرفة حق الأم؟!

 

من أراد مغفرة الذنوب العظيمات فليلزم أقدام الأمهات، هذا يريد الفكاك من النار فسئل عن حياة أمه؛ لأن برها حجاب من النار، وذاك جاء يريد الجنة، يريد الجنة ورفع الدرجات، يريد الموت في سبيل الله ليكون من أهل الجنة، فأتى النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، أردت الغزو وجئت أستشيرك، فقال: "هل لك من أم؟" قال: نعم، قال: "الزمها؛ فإن الجنة عند رجليها".

 

عباد الله، الأم كلمة صعبة المعاني، لا يعرف قدرها إلا مَن خلقها، ضعيفة هي لكنها مع ضعفها حملت ووضعت وأرضعت (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ)  [لقمان: 14].

 

كم عانت من ألم وشدة لأجل جنينها منذ استقراره نطفةً في رحمها! وكلما زاد نموه زاد ثقله حتى إذا أزفت ساعة الخروج إلى الدنيا حلت الطامة ونزلت الشدة التي لا تطاق، وشارفت على الموت وتسابق الجنين وروحها الخروج، فسبحان من أسكن الرحمة قلبها وأخرج الجنين من أحشائها،  (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا) [الأحقاف: 15].

 

ولما خرج إلى الدنيا وأبصرت به إلى جنبها نسيت آلامها، وأحست أنها ملكت الدنيا بأسرها، ثم انصرفت إلى خدمته ليلها ونهارها، فتبًّا لأهل القلوب القاسية، تبًّا لأهل القاسية، كيف ينكر معروفها وينسى جميلها ويقدم أحدًا من الخلق عليها؟! كيف تجرأ بعضهم على أن يشتكي من أمه وأن يسمح لأحد أن ينال من عرضها؟!

 

إنها الأم، أحق الناس بحسن الصحبة.

جاء رجل إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ "قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أبوك".

لكن حسن الصحبة أصبح لدى الكثيرين للزوجة والأولاد والأصدقاء.

 

لما اشتد العود وصح الجسد وكثر المال أقفل عليه باب بيته وترك خلفه شيخين كبيرين يأكلان لوحدهما ويرقبان جلوسه معهما، وعادا وحيدين كأن لم يكن لهما أولاد، وأصبحت الأم تتلطف مع زوجة الابن خوفًا من هجرانه واتقاءً لغضبه.

 

الآن أصبحت الأم حملاً ثقيلاً، هل جاء حضن أدفى من حضنها؟! أو جاءت يد أحنى من يدها؟! هل طال عليك عمرها؟! يا من فرط في حق أمه اذهب وأمسك كفيها وقلِّب بصرك في وجهها لترى تضحية السنوات في تجاعيد وجهها وخشونة كفها، سألتك بالله عد إليها وقبِّل يديها، وامسح دمعتها، وأعلن للدنيا أنها أحق الناس بجميل الصحبة، قل للزوجة والأولاد: لا تضعوا أنفسكم في ميزان مع نبع الحنان. قبل أن تدخل البيت فلا ترى إلا مصلاها، ومكان جلوسها، فلم يكن لك ملاذ إلا سحّ الدموع وذرف العبرات على تفريطك في برها.

 

 فلا تطع زوجةً في قطع والدة *** عليك يا ابن أخي قد أفنت العمرا

 فكيف تنكر أمًّا ثقلك احتملت *** وقد تمرغتَ في أحشائها شُهرا

وقل هو الله بالآلاف تقرؤها *** خوفًا عليك وترخي دونك السترا

 

رأى ابن عمر –رضي الله عنهما- رجلًا قد حمل أمه على رقبته، وهو يطوف بها حول الكعبة، فقال: يا ابن عمر، أتراني جازيتها؟ فقال ابن عمر: "ولا بطلقة من طلقاتها، ولكن أحسنت، والله يثيبك على القليل كثيرًا".

 

عباد الله، مسكين من رحلت أمه، عظَّم الله أجرك، وجبر قلبك، فَقْدُ الأم لا يعرفه إلا من ذاقه، اسألوا الذين فقدوا أمهاتهم، ليخبروكم عن نار لم تنطفئ من سنوات، وعن حسرةٍ تتبعها حسرات، وعن دموع نثروها في الخلوات، وهم يتذكرون شمسًا غابت عن الحياة ولن تشرق إلا على ساحة القيامة.

 

وأما الأب، فهو الذي تعب وربى وأنفق بسخاء لكي يكفل للأولاد حياةً كريمةً لا يحتاجون فيها إلى الناس، أنفق عليك صغيرًا وجاد عليك كبيرًا، يجوع لتشبع، ويعرى لتلبس، ويشقى لتسعد؛ إذا عطشت أسقاك، وإذا ظمئت أرواك، وإذا مرضت داواك، وإذا بكيت أرضاك، فما جزاؤه؟!

 

هذا كلاب بن أمية سمع بفضل الجهاد فسأل عمر، فأغزاه في الجند الغازي إلى الفرس، وترك والديه شيخين ضعيفين. في يوم من الأيام كان أبوه في ظل نخل له وإذا بحمامة تدعو فرخاها، فرآها الشيخ فبكى ثم رأتها العجوز فبكت، فأنشأ يقول:

 

إذا هتفت حمامة بطن وج *** على بيضاتها ذكرا كلابا

تركت أباك مرعشة يداه *** وأمك ما تسيغ لها شرابا

 

وبعد زمن عمي والد كلاب فدخل على عمر وهو في المسجد وأنشد:

فإما كنتِ عاذلتي فردي *** كلابًا إذا توجه إلى العراق

فتى الفتيان في عسر ويسر *** شديد الركن في يوم التلاقي

فلو فلق الفؤاد شديد وجد *** لهم سواد قلبي بانفلاق

سأستعدي على الفاروق ربًّا *** له دفع الحجيج إلى بساق

 

فكتب عمر برد كلاب إلى المدينة، فلما قدم على عمر سأله ما بلغ من برك بأبيك؟ قال: كنت إذا أردت أن أحلب له لبنًا، أجيء إلى أغزر ناقة لبنًا فأريحها من الليل ثم أستيقظ قبل الفجر ثم أغسل أخلافها حتى تبرد، ثم أحلب له فأسقيه، فأرسل عمر إلى والد كلاب، فسأله ما تحب؟ قال كلاب: أحب أنه عندي فأشمه شمةً وأضمه ضمةً قبل أن أموت، فبكى عمر وقال: ستبلغ ما تحب –إن شاء الله- ثم أمر كلابًا أن يحلب لأبيه ناقةً كما كان يفعل، فناوله عمر الإناء، وقال: اشرب يا أبا كلاب، فلما أخذه منه وأدناه من فيه، قال: والله يا أمير المؤمنين، إني لأشم رائحة يدي كلاب، فبكى عمر وقال: هذا كلاب عندك، فوثب إلى ابنه وضمه، فبكى عمر والحاضرون، وقالوا لكلاب: "الزم أبويك، فجاهد فيهما ما بقيا، ثم شأنك بنفسك بعدهما".

 

فيا من أبكى أبويه وأحزنهما، وأسهر ليلهما، وحملهما أعباء الهموم والغموم وجرعهما غصص الفراق، هلا أحسنت إليهما، وخفضت الجناح لهما؛ فعن قريب يشدون الرحال، فيصبح العين أثرًا والوالدان خبرًا، عندها تندم على تفريطك في برهما.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء: 23، 24].

 

قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عباده الذين اصطفى، أما بعد:

 

فيا معاشر المسلمين، لا أستغرب عندما يأتي من يطلب خطبةً عن حقوق الجار أو عن صلة الرحم أو عن حقوق المرأة، لكنني أتألم كثيرًا عندما يأتي من يقول: لماذا لا تخطب عن بر الوالدين؛ فقد ضيَّع الكثيرون حق الوالدين أو تساهلوا فيه.

 

وأبكاني طلبي هذا رجل كبير السن قد احدودب ظهره وابيض شعره تقدم بعد صلاة الجمعة إلى الخطيب، يقول الخطيب: فسلم ودعا لي وشجع، ثم همس لي: يا بني، اخطب عن بر الوالدين.

 

يقول الخطيب: قرأت في قسمات وجهه آهات غائرة وآلامًا مدفونةً، دعوت له وحادثته ببعض الكلمات، ثم قلت له: لم طلبت مني أن أخطب عن هذا الموضوع تحديدًا؟ فجاء الجواب الذي وقف له شعر بدني، قالها وهو يدافع عبراته: والله، لقد ضربني ابني البارحة حتى صفى رأسي.

 

يا الله، كيف ماتت هذه القلوب؟! والله لقد ضربني ابني البارحة حتى صفى رأسي، بكيت ولم أنطق بكلمة واكتفيت بتقبيل رأسه.

 

فيا شباب الإسلام أيها الأبناء رجالًا كانوا أو صغارًا اتقوا الله تعالى في الوالدين، قابلوا الله ببرهما والإحسان إليهما، واحذروا من التفريط في حقهما؛ فإن عقوبة العقوق معجلة في الدنيا مع ما ينتظر العاق من عذاب في الآخرة.

 

عبد الله، بر الوالدين أعظم سبب من أسباب التوفيق في الدنيا والآخرة، خصوصًا عند كبر السن واقتراب الأجل، وها هما بجوارك أو أحدهما قد بانَ الشيب واحدودب الظهر وضعفت القوة، لا يقومان إلا بصعوبة ولا يجلسان إلا بمشقة، أنهكتهما الأمراض، وزارتهما الأسقام والأوجاع؛ فألن جانبك لهما وارع حقهما، وتحمل ما ترى وتسمع منهما؛ فقد تحملا لأجلك الكثير، واستغفر ربك دائمًا من التقصير في حقهما، فلن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكًا فيعتقه.

 

اللهم اغفر لوالدينا، اللهم اغفر لوالدينا، واجزهم عنا خير الجزاء وأوفاه, اللهم ارفع درجاتهم وأعل قدرهم في الدارين، اللهم أحسن إليهم كما أحسنوا إلينا وتجاوز عنهم كما تجاوزوا عن تقصرينا، اللهم اجزهم عنا خير ما جزيت والدًا عن ولده.

 

اللهم من كان منهم حيًا فأطل عمره وحسن عمله واشرح صدره ومتعه بسمعه وبصره وقوته ما أبقيته، ومن كان منهم ميتًا فأفسح له قبره وجازه بالحسنات إحسانًا وبالسيئات عفوًا منك وغفرانًا، اللهم نور مرقده وعطر مشهده، واجعله في الفردوس الأعلى من الجنة.

 

عباد الله، (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].

 

قال –عليه الصلاة والسلام-: " من صلى عليَّ صلاةً واحدةً صلى الله عليه بها عشرًا".

 

اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين وتابعي التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بمنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، وانصر عبادك المجاهدين، واجعل هذا البلد آمنًا وسائر بلاد المسلمين.

 

اللهم آمنا في دورنا وأصلح ولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم واكفهم شر أشرارهم، اللهم احفظ حدودنا وانصر جنودنا وأعدهم سالمين غانمين منصورين.

 

اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك، لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك.

 

اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع ومن نفس لا تشبع، ومن قلب لا يخشع ومن عين لا تدمع، اللهم إنا نعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته، يا قوي يا قادر.

 

اللهم بلِّغنا رمضان، اللهم بلِّغنا رمضان، اللهم بلِّغنا أيامه في صحة وعافية وسلامة، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار، اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

المرفقات
وبالوالدين إحسانا2.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life