وانتهت أيام لا كالأيام

أحمد بن عبد العزيز الشاوي

2022-10-09 - 1444/03/13
عناصر الخطبة
1/انتهاء موسم عشر ذي الحجة 2/دروس مستفادة من عشر ذي الحجة 3/المداومة على الطاعة 4/المسلم بين رجاء قبول الأعمال والخوف من ردها.

اقتباس

ليس الحج أن تعود لتروي للناس حكاية حجّك، ولكن أن تعود فيرى الناس آثار حجّك صلاحًا في قلبك، واستقامةً في سلوكك، وحسنًا في أخلاقك واعتدالاً في مواقفك، وإقبالاً على العبادة، وشوقًا إلى الآخرة؛ فأين هذه الآثار والثمار من قوم يستفتحون عودتهم بالنوم عن المكتوبة، والعودة لذنوب القلوب والجوارح، فلا ترى لهم في العبادات أثرًا، ولا تجد للحج في سلوكهم تغييرًا؟

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي يبدئ ويعيد وهو الولي الحميد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يحكم ما يشاء ويفعل ما يريد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد العبيد أفضل من صلى وصام وأتقى من حج البيت الحرام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه إلى يوم المزيد وسلم تسليماًً.

 

أما بعد فاتقوا الله ربكم، واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور.

 

حينما تغرب شمس هذا اليوم ستغرب معها شمس عرض من الرحيم الرحمن، أرسلها ربنا لتضيء للناس طريق الجنات، وسبيل الباقيات الصالحات.

 

ثلاثة عشر يوماً مضت، كانت رحلة مثيرة لرفع الدرجات وتكثير الحسنات، عاد منها قوم يحملون دُرّاً وآخرون كانت عاقبة أمرهم خسرًا.

 

أيام مباركة مضت بعد أن جلت لنا صورة من صور الرحمة الإلهية حينما نعمل قليلاً ونجازى عليه كثيرًا، ونبذل يسيرًا ليكافئنا ربنا مغفرة وأجرًا كبيرًا.

 

أيام لا كالأيام مضت، وودّع الحجاج أرض مكة الطاهرة ومشاعرها المقدسة بعد أن خاضوا غمار رحلة إيمانية رائعة، فكم سُكِبَتْ هناك من عَبَرات! وكم أُقِيلَ من عثرات وكم قبل من توبات! وكم من مهموم فُرِّج همه! ومكروب نُفِّس كربه! ومذنب طُهِّر قلبه!، وكم تلجلجت هناك دعوات في حناجر وترقرقت دموع في محاجر!.

 

ثلاثة عشر يوماً مرت، حُسِبَتْ من أعمارنا، وكل يوم مضى يدني من الأجل، فيا ترى بأي حال قضيناها؟، وبأي عمل أمضيناها؟

 

ثلاثة عشر يوماً مرت على الطائعين والضائعين؛ فماذا بقي من عنائكم أيها العاملون المطيعون، ذهب العناء وبقي الأجر والثناء، وماذا وجد المفرطون الغارقون في الشهوات؟، ذهبت لذاتها والإثم حل. ولا خير في لذة من بعدها النار.

 

يا معشر العاملين الطائعين من حجاج ومقيمين لكم البشرى؛ فوالله الذي رفع السماء بغير عمد إن دموعاً ذرفتموها ودعوات رفعتموها وأياماً صمتموها، وأموالاً أنفقتموها وصلوات أديتموها، لن تضيع بإذن الله سدى، (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ)[البقرة:143]، وحاشا لذي الجود أن يخيب رجاءكم أو يرد دعاءكم؛ فإن ربكم حيي كريم، وقد قال: "أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء"، وإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

 

مضت أيام عظيمة من أيام الله جلت لنا أنه بالإرادة والعزيمة والصدق يستطيع المسلم أن يتخلى عن كل خطيئة.

 

إن امرأً قهر نفسه عن فعل مباح في أصله فلم يقطع شجرة ولم يقلم ظفرًا ولم يمس طيبًا ولم ينزع شعرة، ولم يغطِّ رأسًا خوفًا من الله وامتثالاً لأمره, أفلا يستطيع هذا المسلم أن يتخلى عن الحرام والموبقات.

 

إن مسلمًا تعلَّم الصبر عن معصية الله وعلى طاعة الله وصبر على الضيق والزحام وأخلاق الأنام.. أفلا يستطيع أن يحسن خُلُقه مع أهله وولده وأبناء مجتمعه.

 

إنَّ مسلمًا تعلم في الحج كيف يستسلم لله بتنفيذ أوامره والخضوع لأحكامه فيطوف ويسعى ويرمي وينحر ويحلق وينفر دون أن يدرك الحكمة.. أفلا يمكن أن يكون الاستسلام والخضوع له شعاراً في كل تعاملاته مع أحكام الدين وشريعة رب العالمين، فلا يتضايق من شعيرة ولا يتردد في قبول فريضة.. شعاره (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)[البقرة:285]، وهاديه ودليله (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[النساء:65].

 

مضت أيام الحج وانتهت الشعيرة لتقول للعائد من البقاع الطاهرة: ليس الحج أن تعود لتروي للناس حكاية حجك، ولكن أن تعود فيرى الناس آثار حجّك صلاحًا في قلبك، واستقامةً في سلوكك، وحسنًا في أخلاقك واعتدالاً في مواقفك، وإقبالاً على العبادة، وشوقًا إلى الآخرة؛ فأين هذه الآثار والثمار من قوم يستفتحون عودتهم بالنوم عن المكتوبة، والعودة لذنوب القلوب والجوارح، فلا ترى لهم في العبادات أثرًا، ولا تجد للحج في سلوكهم تغييرًا؟

 

مضت أيام فاضلة، وكم فيها من قاعد يحترق شوقًا للبيت العتيق؛ فلهؤلاء يقال: إن منكم لفريقًا ما نزل الحجاج منزلاً ولا وقفوا موقفًا ولا سلكوا واديًا إلا كانوا معهم حبسهم العذر. وهؤلاء قد كتب لهم ما نووا وإن الرجل إذا همَّ بالحسنة فلم يعملها كتبها الله له حسنة كاملة، وإن الرجل ليدرك بنيته ما أدركه العامل بعمله والمدار على الصدق وصلاح القلب.

 

مضت أيام الله الفاضلة وفيها ظهر الفقه المفتقد فقه الأولويات، فكم هو جميل أن ترى مسلمًا مضحيًا يتحرج من سقوط شعرة، ويمسك عن أخذ شعره لأجل الأضحية، وهي مسألة ذات خلاف، ولكن المؤسف أن تراه بعد ذاك إذا ضحى بذبيحته ضحى بلحيته وهي حرام بلا خلاف.

 

كم يسعدك أن نرى مسلمة تشعر بالحيرة والأسى؛ لأنها شكت في الحصاة السابعة هل سقطت في الحوض أم لا، ولكن ستأسى حينما ترى تلك المسلمة لا تبالي بسقوط جلباب الحياء والعفاف عنها بتبرجها وخضوعها.

 

ليست الخطورة في تساقط الشعور من الرؤوس بل الخطر يكمن في فقد الشعور من النفوس، الشعور بتعظيم الله وإجلال شعائره.

 

يا معشر العاملين: يا من عرفتم للمواسم الربانية قدرها: إن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل، وكان نبيكم -صلى الله عليه وسلم- إذا عمل عملاً أثبته، فاجعلوا من هذه الرحلة الإيمانية بداية لحياة ملؤها الصلاح والتقوى ونهايتها الخاتمة الحسنى (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النحل:97].

 

وإن من أراد أن يداوم على أعماله الصالحة ويسابق إلى الخيرات، فإن من المفيد له أن يعرف أهمية المداومة عليها، وفضل المداومة، وفوائدها، وآثارها، والأسباب المعينة عليها، وحال الصحابة -رضي الله عنهم- في ذلك.

 

عن عائشة -رضي الله عنها- أنها كانت تصلي الضحى ثماني ركعات ثم تقول: "لو نشرني أبواي ما تركتها".

 

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لبلال عند صلاة الفجر: "يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك بين يدي في الجنة"، قال: "ما عملت عملاً أرجى عندي أني لم أتطهر طهوراً في ساعة من ليل ولا نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي".

 

أيها العاملون الموفقون: لا يفوتنكم أن تكثروا من دعاء الله -تعالى- أن يعينكم على الثبات على طاعة الله في زمن كثرت فيه الفتن، وتنوعت أسباب الانحراف، في زمن قل أن تجد على الحق أعواناً.

 

أسأل الله -تعالى- أن يغفر ذنوبكم، وأن يصلح قلوبكم، وأن يقبل عملكم ويقيل زللكم.

وأستغفر الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد فإن من الأمور التي ينبغي الاهتمام بها بعد القيام بأي عمل: مسألة قبول العمل؛ فإن التوفيق للعمل الصالح نعمة كبرى، ولكنها لا تتم إلا بنعمة أخرى أعظم منها، وهي نعمة القبول. فما أعظم مصيبة من لم يُقبل؟ وما أشد الخسارة إن رُدَّ العمل على صاحبه، وباء بالخسران المبين في الدين والدنيا.

 

اسع إلى القبول باستصغار العمل وعدم العجب والغرور به: فإن الإنسان مهما عمل وقدم فإن عمله كله لا يؤدي شكر نعمة من النعم ولا يقوم بشيء من حق الله -تبارك وتعالى-، ومما يعين على استصغار العمل: معرفة الله -تعالى-، ورؤية نعمه، وتذكر الذنوب والتقصير.

 

اسع إلى القبول بالخوف مِن رَدّ العمل وعدم قبوله: وقد وصف الله حال أسلافنا بعد العمل فقال: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)[المؤمنون: 60-61]، وقد فسَّرها النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون ويخافون أن لا يتقبل منهم. وأُثِرَ عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: "كونوا لقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالعمل. ألم تسمعوا الله -عز وجل- يقول: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)[المائدة:27].

 

احرص على القبول بالرجاء وكثرة الدعاء: فالخوف بلا رجاء يورث اليأس والقنوط، والرجاء بلا خوف يسبب الأمن من مكر الله، وكلها أمور مذمومة تقدح في عقيدة الإنسان وعبادته.

 

وعندما يتحقق الرجاء فإن الإنسان يرفع يديه سائلاً الله قبول عمله؛ فإنه وحده القادر على ذلك، كما فعل الخليل وابنه إسماعيل -عليهما السلام-: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[البقرة:127].

 

وإذا أردت القبول فأكثر الاستغفار: فمهما حرص الإنسان على تكميل عمله؛ فإنه لا بد من النقص والتقصير، ولذلك علّمنا الله -تعالى- كيف نرفع هذا النقص فأمرنا بالاستغفار بعد العبادات.

 

اسع إلى القبول بالإكثار من الأعمال الصالحة؛ فالعمل الصالح شجرة طيبة، تحتاج إلى سقاية ورعاية، حتى تنمو وتثبت، وتؤتي ثمارها.

 

كن من الأخفياء الذين يستترون بأعمالهم ينفق أحدهم فلا تعلم شماله ما تنفق يمينه، وإذا ذكر الله خاليًا فاضت عيناه، لاكما هو حال البعض منا لا يكاد ينتهي من الشعائر حتى يكون قد علم بعمله الأقارب والأباعد، يسبقه التصوير، ويلحقه الحديث في المجالس عن التنقلات والنفير (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)[البقرة:196].

 

كن من الأتقياء الذين يتقربون إلى الله بإكمال العمل وإتمامه، وتتبع أركانه وواجباته ومسنوناته، يسعون جهدهم إلى بلوغ الكمال، لا أولئك الذين يتقربون إلى الله بملاحقة الرُّخَص، وتتبع الشواذ من الآراء، و"إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه".

 

اللهم تب على التائبين، واغفر ذنوب المذنبين، وثقل أعمال المقبلين وارحمنا برحمتك أجمعين.

 

المرفقات
opdMIm49ETES1s0Yy4AhmfwerxeWQg9ADblp0KMi.doc
Vt8mHuiIXNDcsxWZjgOF2EXVspYpWXYfHKGsMbyx.pdf
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life