والله يريد الآخرة

محمد جلال القصاص

2022-10-06 - 1444/03/10
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

واليوم انقلبت هذه الثوابت الواضحة وضوح الشمس في حس كثيرين من المنتسبين (للفكر) والعمل الإسلامي، فراحوا يتكلمون عن (الإصلاح) الدنيوي، و(التقدم) المادي و(الرقي) الحضاري، وغير ذلك، وكله دخيل، وكله من بضاعة غيرنا ليست بضاعتنا، ولن تجد سوقا عندنا والقرآن في صدورنا يحدثنا (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[الأنفال: من الآية:67] والقرآن...

 

 

 

 

 

دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو نائم على حصير ليس عليه سوى إزاره وقد أثر الحصير في جنبه صلى الله عليه وسلم، ودار عمر بعينيه في بيت النبي فما وجد غير قبضة من شعير نحو الصاع وَقَرَظٍ [1]. في ناحية الغرفة وإهاب معلق على الجدار، فبكى عمر، وناداه الحبيب -صلى الله عليه وسلم-: «مَا يُبْكِيكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ» قال: يا نبي الله وما لي لا أبكي وهذا الحصير قد أثر في جنبك وهذه خِزَانَتُكَ  لا أرى فيها إلا ما أرى، وذلك كسرى وقيصر في الثمار والأنهار وأنت نبي الله وَصَفْوَتُهُ وهذه خِزَانَتُكَ.

 

قَالَ صلى الله عليه وسلم: «يا ابن الخطاب ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟» قال عمر: بَلَى [2].

 

وبعد فتح خيبر وما أفاء الله على رسوله من أهل القرى تَجَمْعَ نساءُ النبي -صلى الله عليه وسلم- حَوْلَهُ يطالبنه بسعة في الدار وزيادة في النفقة، فما استُجِيبَ لهم  بل خيروا بين البقاء على هذه الحال أو الطلاق. ونزل قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً . وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) [الأحزاب:28-29]، [3].

 

وقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حياته في غرفات بالطوب اللبن سقفها الجريد يطالها الرجل بيده وما كان من قلة ذات اليد فقد فتح الله عليه خيبر، وفاء الله عليه من أهل القرى ومن غيرهم، ولكن هكذا شاء الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم-.

 

ولما نصر الله نبيه وأظهر دينه تنادى نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإصلاح أموالهم، فنزل قول الله تعالى: (وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [ البقرة:195]، فكان التهلكة أن يقيموا في أموالهم ويدعوا الجهاد كما يقول أبو أيوب الأنصاري -رضي الله عنه-. [4].

 

والسياق العام الذي نشأ فيه الجيل الأول من الصحابة -رضوان الله عليهم- والذي هو ترجمة حقيقية لمراد الله من كلامه كان يعمل من أجل ترسيخ قيمة واحدة وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وتعبيد الناس لربهم، وإزالة كل العقبات التي تقف دون ذلك، ثم نشر قيم العدل بين الناس انطلاقا من منظور الشرع لمفهوم العدل. ولم يتجه الشرع إلى إصلاح الدنيا وعمارتها.

 

بل إننا نجد أن صلاح الدنيا وما يتكلمون عنه من رقي مادي وحضاري وعمارة.. الخ.

 

نَجِدهُ إحدى ثمرات الالتزام يشرع الله -عز وجل-، قال الله تعالى (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) [الأعراف:96].

 

وقال الله تعالى: (وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ) [هود:52]، (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً) [نوح:10ـ11-12]، ونجد أن فساد الدنيا إحدى ثمرات البعد عن شرع الله -عز وجل- قال الله: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) [الشورى:30]، (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم:41].

 

أتكلم عن سياقٍ عام وليست آيات وأحاديث بمفردها، وما قررته سالفا هو ما يبدوا لكل مطالع لحياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام. حِرصٌ على تعبيد الناس لربهم، وهذا رِبْعِيُّ بن عامر[5]  يرد على رُسْتُم حين سأله: "ما جاء بكم؟"، قال: "الله ابتعثنا والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام[6].

 

بعد أن فتحت مكة ودانت العرب لم تجلس الدعوة تعمر الجزيرة بالبنايات والمشاريع الاقتصادية، بل حملت سيفها ومصحفها وركبت خيلها وإبلها، وصارت وراء الكفر تتبعه شرقا وغربا وشمالا، تُحدث الناسَ بأن لا إله إلا الله، وتزيل العقابات التي تحول دون حرية الاعتقاد، التي تلبس على الناس دينهم وتكذب عليهم.

 

واليوم انقلبت هذه الثوابت الواضحة وضوح الشمس في حس كثيرين من المنتسبين (للفكر) والعمل الإسلامي، فراحوا يتكلمون عن (الإصلاح) الدنيوي، و(التقدم) المادي و(الرقي) الحضاري، وغير ذلك، وكله دخيل، وكله من بضاعة غيرنا ليست بضاعتنا، ولن تجد سوقا عندنا والقرآن في صدورنا يحدثنا (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[الأنفال: من الآية:67].

 

 والقرآن يأمرنا: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) [الكهف:28]، (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت:64] (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طه:131].

 

 

 

 

 

التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life