عناصر الخطبة
1/إقبال المؤمن على الآخرة 2/التحذير من الانكباب على الدنيا 3/شتان بين طلاب الدنيا وطلاب الآخرة 4/ بشارات نبوية لمن كانت الآخرة همه 5/وجوب الاهتمام بضرورات الدنيا.اقتباس
فَأَيُّ مصيبةٍ مِنْ مصائِبِ الدُّنْيَا تهونُ أَمَامَ المصيبةِ في الدينِ، وأيُّ تقصيرٍ في جنبِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- لا يَجْبُرهُ كُنُوزُ الدُّنْيَا وَإِنِ اجْتَمَعَتْ، ومتَى عاشَ العبدُ هَمَّ آخِرَتِهِ، قَوِيَ يقينُه، وقَلَّتْ غَفْلَتُهُ، وَدَامَتْ خَشْيَتُهُ، وَسَعَى لِلآخِرَةِ سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا...
الخطبةُ الأولَى:
الْحَمْدُ للهِ الْكَرِيمِ الوَهَّابِ، الرَّحِيمِ التَّوّابِ؛ (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شّدِيدِ العِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ)[غافر: 3]، وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلهِ وصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)[الأنفال: 29].
عِبَادَ اللهِ: لَقَدْ وَجَّهَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- الْعِبَادَ إِلَى الأَهْدَافِ السَّامِيَةِ، والمقَاصِدِ العَالِيَةِ فأمَرَنا أَنْ نكُونَ مِنْ طُلَّابِ الآخِرَةِ، وأَنْ نَبْذُلَ فِي طَلَبِهَا الأوْقَاتَ والأعْمَارَ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[العنكبوت: 64]، وحَذَّرَنَا مِنَ الافْتِتَانِ بِالدُّنْيَا وزُخْرُفِهَا، أو الانشغالِ بملَذَّاتِهَا، قَالَ -سُبْحَانَهُ-: (وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ) القصص: [60].
عِبَادَ اللهِ: والنَّاسُ في الإقبالِ على الآَخِرَةِ، والانْصِرَافِ عن الدُّنْيَا صِنْفَانِ أخْبرَ عَنْهُمَا رَبُّنَا -عَزَّ وَجَلَّ- بِقَوْلِهِ: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ)[الشورى: 20].
فَالصِّنْفُ الأوَّلُ هُم أُولُو الأَلْبَابِ الَّذِينَ وُفِّقُوا للصَّوَابِ، فَفَطنُوا لما يُرَادُ بِهِم، وفَقهُوا كَلامَ رَبِّهِم بِقَوْلِهِ: (قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ)[الفرقان: 15]؛ فَعَلَتْ هِمَّتُهُمْ، وَسَمَتْ فِكْرَتُهُم، وَجَعَلوا الآَخِرَةَ هَمَّهُمْ، والجَنَّةُ غَايَتَهُم، ولمّا تَغَلْغَلَ همُّ الآخرةِ فِي سُوَيْدَاءِ قُلُوبِهِم، هَانَ عَلَيْهِمْ مَا ضَاعَ مِنْ دُنْيَاهُمْ، فَسَارَعُوا إلى اللهِ بِالطَّاعَةِ، وَبَادَرُوا إليهِ بالعبادَةِ، جَعَلُوا أعمَارَهُم مَطِيَّةً للوصولِ إلى ربِّهِمْ؛ ليَقِينِهِمْ أنَّ العيشَ الحقيقيَّ عيشُ الآخرةِ، قالَ تعالى: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْر وَأَبْقَى) الأعلى: [16-17].
والصِّنْفُ الثَّانِي هُمُ المفْلِسُونَ الغافلونَ، الَّذِينَ آثَرُوا الْعَاجِلَةَ عَلَى الآَخِرَةِ، فَقَعُدُوا عَن الْفَرَائِضِ، وَوَقَعُوا في المَحَارِمِ، وَأَشْغلَهُمُ الدِّينَارُ وَالدِّرْهَمُ، وقَامَ الشُّحُّ عِنْدَهُمْ مَقَامَ الْبَذْلِ، أَلْهَاهُمُ التَّكَاثُرُ، وأَشْغَلَهُمُ التَّفَاخُرُ، فَكَانُوا كَالَّذِي أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ، وَبَنَى بَيْتَهُ عَلَى مَوْجٍ جَرَّارٍ، فَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ، وضَلُّوا عَن الصَّوَابِ، وأضْحَتْ الدُّنْيَا مُنْتَهَى سَعْيِهِم، وغَاية آمَالِهِم، إِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا، وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا سَخِطُوا وَأَبوا، فَكَانُوا كَالَّذِي أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا.
أَيُّهَا المؤْمِنُونَ: وَقَدْ أَخْبرَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ هذينِ الصِّنْفَيْنِ بقَولِهِ: "مَنْ كَانَتْ الآخِرَةُ هَمَّهُ؛ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنيَا وَهِيَ راغمةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنيَا إلّا مَا قُدِّرَ لَهُ"(أخرجه الترمذي 2465، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 2/ 634).
عِبَادَ اللهِ: وفِي هذا الحديثِ يُعَلِّمنَا نَبِيُّنَا -صلى الله عليه وسلم- أنَّ استشعارَ هَمّ الآخِرةِ، والعملَ لهَا، مِنْ أَهَمِّ مَا يُعِينُ العبدَ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْ هُمُومِ الدُّنْيَا وَكَدَرِهَا، فَأَيُّ مصيبةٍ مِنْ مصائِبِ الدُّنْيَا تهونُ أَمَامَ المصيبةِ في الدينِ، وأيُّ تقصيرٍ في جنبِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- لا يَجْبُرهُ كُنُوزُ الدُّنْيَا وَإِنِ اجْتَمَعَتْ، ومتَى عاشَ العبدُ هَمَّ آخِرَتِهِ، قَوِيَ يقينُه، وقَلَّتْ غَفْلَتُهُ، وَدَامَتْ خَشْيَتُهُ، وَسَعَى لِلآخِرَةِ سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا.
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وفِي الْحَدِيثِ ثَلاثُ بِشَارَاتٍ نَبَوِيَّةٍ لمنْ كَانَتْ الآَخِرَةُ هَمُّهُ، وفي الْجَنَّةِ هِمَّتُهُ، الْبِشَارَة الأُولَى: جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ في قَلْبِهِ، أَيْ: رَزَقَهُ اللهُ الْكِفَايَةَ، وَقَنّعَهُ بِمَا فِي يَدِه، وأغْنَاهُ عن النَّاسِ، وَهَذَا هُوَ الْغِنَى الْحَقِيقِيّ، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "لَيْسَ الْغِنَى عَن كَثْرَةِ العَرَضِ، ولَكِنَّ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ"(أخرجه البخاري 6446، ومسلم 1051).
البِشَارةُ الثانيةُ: جَمَعَ اللهُ لَهُ شَمْلَهُ، وهَذِهِ نُعْمَى عَين كُلّ إنسانٍ، أنْ يَجْمَعَ اللهُ لَهُ شَمْلَهُ، وَهُو الاجْتِمَاعُ الْقَلْبِيّ والْبَدَنِيُّ، وَيَجْمَعُ عَلَيْهِ فِكْرَهُ بِسَدَادِ الرَّأْيِ، وحُسْنِ الْقَوْلِ، وَيَجْمَعُ عَلَيْهِ قَلْبَهُ بِدَوَامِ الطُّمَأْنِينةِ والسَّكِينةِ.
البِشَارةُ الثَّالثةُ: وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِي رَاغِمَةٌ، أَيْ: رَغْمًا وَجَبْرًا، فَلَمَّا كَانَتْ الآخِرَةُ هَمَّهُ، كَفَاهُ اللهُ دُنْيَاهُ، وَضَمنَ لهُ رِزْقَهُ.
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا)[الإسراء: 18-19].
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذِّكْرِ الحكيمِ، فاستغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وامْتِنَانِهِ، وأَشْهَدُ ألا إِلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الدَّاعِي إلى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وصَحْبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بَعْدُ: فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ: واعْلَمُوا أنَّ انْشِغَال المرْءِ بِأَمْرِ آَخِرَتِهِ لا يَعْنِي أَنْ يَغْفَلَ عَنْ أُمُورِ دُنْيَاهُ، مِنْ مَسْكَنٍ وَدِرَاسةٍ، وزواجٍ، وعَمَلٍ، وتخطيطٍ وتَدْبِيرٍ، وَتَدْرِيبٍ وَتَرْبِيَةٍ، غَيرَ أَنَّ هَذِهِ الْهُمُومَ يَجِب أَنْ تَكُون صَغِيرَةً أَمَامَ هَمِّهِ الأَكْبَرِ، وشُغْلِهِ الشَّاغِلِ، وهَدَفِهِ الأَسْمَى، وهُوَ الإِعْدَادُ لآخِرَتِهِ، والاسْتِعْدَادُ لِلِقَاءِ رَبِّهِ.
قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا، هَمَّ المعادِ، كَفَاهُ اللهُ هَمَّ دُنْيَاهُ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ أَحْوَالَ الدُّنيَا لَمْ يُبالِ اللهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهِ هَلَكَ"(أخرجه ابن ماجه 275، وحسّنه الألباني).
أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُجَنَّبنَا الغفلةَ، وَأَنْ يَرْزُقنَا الخَشْيَةَ، وأَنْ يُزَيِّنَ قُلُوبَنَا بالإيمانِ والتَّقْوَى. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلامَ والمسْلِمِينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشْرِكِينَ، وانْصُرْ عِبَادَكَ الموَحِّدِينَ.
اَللَّهُمَّ أمِّنا فِي أَوْطَانِنَا وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللهم وَفِّق وَلِيَّ أَمْرِنَا خادمَ الْحَرَمَيْنِ الشريفينِ إِلَى مَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وخُذْ بِنَاصِيَتِهِ إِلَى اَلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ وَفِّقْه وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وِإِخْوَانَهُ وَأَعْوَانَهُ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَسَلِّمْهُمْ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَشَرٍّ. اللَّهُمَّ احْفَظْ رِجَالَ الأَمْنِ، والمُرَابِطِينَ عَلَى الثُّغُورِ.
اللَّهُمَّ ارْحَمْ هذَا الْجَمْعَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ والمؤْمِنَاتِ، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِهِمْ، وآَمِنْ رَوْعَاتِهِمْ وارْفَعْ دَرَجَاتِهِمْ في الجناتِ واغْفِرْ لَهُمْ ولآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، واجْمَعْنَا وإيَّاهُمْ ووالدِينَا وإِخْوَانَنَا وذُرِّيَّاتِنَا وَأَزْوَاجَنَا وجِيرَانَنَا ومشايخنا وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَيْنَا في جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد، وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِين.
التعليقات