عناصر الخطبة
1/مواقف من همم الصحابة 2/ثبات أبي بكر في فتنة الردة 3/بين هموم السلف وهموم الخلف 4/من صفات عالي الهمةاقتباس
راح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أن خرّج جيلا همه علو الإسلام، ونشر العقيدة، والثبات على الدين، يرحل جابر مسيرة شهر، لا لرؤية خضرة أو حضور محفل؛ وإنما لسماع حديث فاته، ويضمحل جسم عمر، لا لغلبة فريق أو ذهاب منصب...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله العلي الأعلى، ذو الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنَّهُ هُو البر الرحيم، وأشهدُ أنَّ محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على دربه إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[المائدة: 35].
كان الصحابةُ -رضوان الله عليهم- حولَ الرسولِ -عليه الصلاة والسلام- تتنزلُ الآياتُ بين ظهرانيِهم، وقائدُهم ومربيهم ومعلمُهم لا يفترُ عن تذكيرِهم وتعليمهِم وشحذِ هممهم، فلما رحلَ المعلمُ وانقطع الوحي، لم تخبُ تلكَ الجذوة الإيمانية، ولم تنطفئ تلك الشعلة الدعوية، ولم يحلَّ التقاعدُ على أكابرِهم، ويستكِن شبابهم، بل سابقوا الزمن، وعادوا فتية للحق.
فأخذ خالد اللواء فارسا ضرغاما، وقائدا فذا؛ ففتح البلدان، وسحق حكم فارس والروم، وانطلق ابن عباس يتلقى العلم من أكابر الصحابة، ولزم زيد بن ثابت ينهل من علمه، وكان إذا أقبل زيد بن ثابت قام إليه ابن عباس وأخذ بخطام راحلته فيقول له: "تنح يا ابن عم رسول الله"، فقال: "هكذا أمرنا أن نصنع بعلمائنا".
ولما مات زيد بن ثابت قال أبو هريرة: "مات حبر الأمة، ولعل الله أن يجعل في ابن عباس منه خلفا"، وجلس أبو هريرة يحدث الناس وأصبح راوية الإسلام.
قال الذهبي في السير: "كان أبو هريرة يخرج يوم الجمعة، فيقبض على رمانتي المنبر قائما، ويقول: "حدثنا أبو القاسم الصادق المصدوق"، فلا يزال يحدث حتى يسمع فتح باب المقصورة لخروج الإمام، فيجلس".
ومضى ابن مسعود وأبو الدرداء وأبو موسى يقرؤون الناس القرآن في البلدان والأمصار.
هم الرجال بأفياء العلم نموا *** وتحت سقف المعالي والنَّدى وُلِدوا
جباههم ما انحنت إلا لخالقها *** وغيرُ من أبدع الأكوان ما عبدوا
الخاطبون من الغايات أكرمها *** والسابقون وغيرُ اللهِ ما قَصَدُوا
إنهم جيل يحيون الهمة في الضمائر، إن الهمة لا تقف بانتهاء العمل الوظيفي، وإن الروح العاملة لا تخبو عندما يمتلك الإنسان قصراً منيفاً أو مركباً فارها، الهمة تبقى وقّادةٌ ما بقي الدين.
يجلي ذلك ما سطره الرجل الأول في هذه الأمة، قال أبو هريرة -رضي الله عنه-: "والذي لا إله إلا هو لولا أن أبا بكر استخلف ما عُبد الله"، فقيل له: مه يا أبا هريرة!، فقال: "إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجه أسامة بن زيد في سبعمائة إلى الشام، فقبض وارتدت العرب حول المدينة، واجتمع إليه أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فقالوا: رد هؤلاء، تُوجه هؤلاء إلى الروم وقد ارتدت العرب؟! فقال أبوبكر: والذي لا إله إلا هو لو ظننت أن الطير تخطفني، وأن السباع جرت بأرجل أمهات المؤمنين؛ ما رددت جيشاً وجهه رسول الله، وما حللت لواء عقده رسول الله، والله لو لم يبق في القرى غيري لأنفذته".
ليتَ شِعْرِي ما الَّذِي أطلقهُمْ *** مِنْ عِقَالِ وبقيناً أَسَرَا
ما لنا نحنُ عَجِبْنَا وَاغْتَرَرْنَـــــا *** أوَ لَسْنَا كُلُنَا طيناً ومَاء
لو تبعنا في الهدى آثارهــم *** لانطلقنا وسمونا للعلاء
جيلُ يجسدُ الحياة الحقيقية؛ أن العمر أقل من أن يقضى في همة تنتهي بشهرة، أو رؤية خضرة، أو حصول على مركب ومسكن الحياة.
الحقيقية يجسدها رسول الأمة حين ربى بمنهجه أن الحياة هو ما تنتجه وتخرجه لا ما تستمتع فيه، قال عبد الله بن مسعود: نام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حصير فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وطاء، فقال: "ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب، استظل تحت شجرة ثم راح وتركها"(أخرجه الترمذي).
راح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أن خرّج جيلا همه علو الإسلام، ونشر العقيدة، والثبات على الدين، يرحل جابر مسيرة شهر، لا لرؤية خضرة أو حضور محفل؛ وإنما لسماع حديث فاته، ويضمحل جسم عمر، لا لغلبة فريق، أو ذهاب منصب، أو خسارة في دنيا؛ وإنما هما للمسلمين، قال أسلم: "لو لم يرفع الله المحل عام الرمادة، لظننا أن عمر يموت هما بأمر المسلمين".
هم الرجال إذا ما جئت تمدحهم *** سمت على الحرف تيجان وازهار
ويجمع ذلك كله قول ربنا -عز وجل-: (لِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ)[الشورى: 15].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي كان بعباده خبيرا بصيرا، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هاديا ومبشرا ونذيرا، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيدا.
أما بعد: عالي الهمة له نظامٌ يسير عليه, وهدفٌ يصبو إليه, ومنهجٌ لا يحيد عنه, ووقتٌ يَبْخَلُ به، في صحيح مسلم قال رَبِيعَةُ بْنُ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيُّ -رضي الله عنه-: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: "سَلْ", فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ, قَالَ: "أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ؟", قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ, قَالَ: "فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ".
له همــةٌ لا منتهى لكبارهـــــــا *** وهمَّتُه الصغرى أجلّ من الدهر
كبيــرُ الهمــة لا يَنْقُضُ عَزْمَه, ولا تهون قواه، يجعل قول الله -تعالى- نُصب عينيه: (فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)[آل عمران: 159]، عالي الهمة يعلم أنه إذا لم يزد شيئًا في الدنيا, فسوف يكون زائدا عليها.
إذا ما مضى يومٌ ولم أصطنع يدًا *** ولم أقتبس علمًا فما هو من عمري
المكارمُ منوطةٌ بالمكاره، والمصالحُ والخيرات لا تُنَالُ إلا بحظٍّ من المشقة.
بَصُرتُ بالراحة الكبرى فلم أرها *** تُنال إلا على جسرٍ من التَّعَبِ
إن على كل منا أن يضع نفسه في المكان الملائم، كل بحسبه وعلى قدر إمكانياته، من استطاع أن يميط شوكة عن طريق فليمطها، ومن أمكنه أن يبذر حبة خير في الأرض فليبذرها، ومن استطاع أن يرد شرا فليدفعه كل ينفق مما لديه؛ (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا)[الطلاق: 7].
ربنا أوزعنا أن نشكر نعمتك التي أنعمت علينا، وأن نعمل صالحا ترضاه.
التعليقات