عناصر الخطبة
1/الهداية اختيار من الله واصطفاء 2/نماذج من ثبات المهتدين 3/من قصص التائبين وصدق توبتهم 5/دروس وهدايات من قصص التائبين الثابتيناقتباس
فعلى العبد أن يبذل الأسباب لنيل هداية الله -عز وجل-، ومن أعظمها الإقبال على القرآن تلاوة وتدبراً، ومنها التأسي بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، ومنها الدعاء وخاصة دعاء سورة الفاتحة: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)[الفاتحة: 6]، ومنها الإقبال...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الْحَمْدَ لِلَّهِ رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وخاتم المرسلين، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله قال -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
إخوة الإيمان: قال -تعالى-: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)[القصص: 68]، قال ابن القيم -رحمه الله-: "كما خلقهم وحده -سبحانه- اختار منهم من تاب وآمن وعمل صالحا، فكانوا صفوته من عباده وخيرته من خلقه، وكان هذا الاختيار راجعا إلى حكمته وعلمه -سبحانه-، لمن هو أهل".
وأعظم اختيار يفوز به العبد ويضفر به أن يختاره الله للهدى، فيكون من المهتدين الصالحين العابدين الموحدين له -سبحانه-، قال -تعالى-: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ)[الأنعام: 125]، فالهداية محض فضلٍ وجودٍ من المولى -عز وجل-، هو الذي يهبها -سبحانه- لمن اختار من عباده.
ومما يؤكد هذه الحقيقة ويجليها هداية الله لأناس هم في ظاهر الحياة أبعد شيءٍ عن الهداية، ومع ذلك يمنّ الله عليهم بالهداية، وهاكم -عباد الله- بعض القصص:
أولا: قصة إيمان سحرة فرعون: قال -تعالى- في سورة الشعراء :(فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ * فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ * فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ)[الشعراء: 42 - 51].
كانوا أعظم الناس كفراً وعناداً، وطمعاً في الدنيا وللعلو فيها، وإذا بهم أعظم الناس إيماناً وثباتاً وزهداً في الدنيا، وطمعاً في الآخرة!، فسبحان مقلب القلوب وسبحان واهب الهداية ومعطيها، تأمل قولهم: (قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)[طه: 72، 73]، قال عبد الله بن عباس حين قالوا: (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ)[الأعراف: 126]: "كانوا في أول النهار سحرة وفي آخر النهار شهداء برره".
ثانياً: إيمان امرأة فرعون قال -تعالى-: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[التحريم: 11]، كانت آسية فتاة تحمل قلباً طيباً رحيماً على النقيض من زوجها الطاغية المتكبر، الظالم المتجبر فكانت تتقطع حسرة على صورة الظلم التي تراها في ذلكم القصر، ولم يكن لها الخيار في الاستمرار في هذه المعيشة الضنك رغم كل متع الحياة، فمن ذا يجرؤ على مخالفة فرعون أو عصيان أمره؟.
ورغم ذلك فقد كان فرعون يحبها فيحرص على تحقيق رغباتها، لذلك لما دخل الجنود بموسى -عليه السلام- قالت: (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ)[القصص: 9]، فاستجاب لطلبها ووهبه إياها، إلا أن صور الظلم التي عايشتها في قصر فرعون جعلتها تعيش في شتات عظيم، ووحشة كبيره، تناقل الجنود أخبار إيمان السحرة وكيف فعل بهم فرعون وجنوده، فآمنت بالله رب العالمين، قال الإمام البغوي -رحمه الله-: "لما غلب موسى السحرة آمنت امرأة فرعون، ولما تبين لفرعون إسلامها أوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد، وألقاها في الشمس".
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "إن فرعون أوتد لامرأته أربعة أوتاد في يديها ورجليها، فكان إذا تفرقوا عنها ظللتها الملائكة فـ(قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[التحريم: 11]، فكشف لها عن بيتها في الجنة"، وعَنْ سَلْمَانَ -رضي الله عنه- قَالَ: "كَانَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ تُعَذَّبُ بِالشَّمْسِ، فَإِذَا انْصَرَفُوا عَنْهَا أَظَلَّتْهَا الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا، وَكَانَتْ تَرَى بَيْتَهَا فِي الْجَنَّةِ"(رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني)، قال ابن كثير -رحمه الله-: "قالت العلماء: اختارت الجار قبل الدار".
هكذا رحلت -رضي الله عنها- عن الدنيا، ثابتة محتسبة صابرة على صنوف العذاب، ورحلت بخاتمة طيبة، وقد خلد الله ذكرها وقصتها في قرآن يتلى إلى قيام الساعة.
ثالثاً: توبة قاتل المائة، عن أبي سعيد الخدري أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعه وتسعين نفسا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على راهب فأتاه، فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسا، فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله، فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: نعم؛ ومن يحول بينه وبين التوبة؟! انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسا يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك؛ فإنها أرض سوء، فأنطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة"(رواه مسلم).
رابعاً: توبة زاذان الكندي، عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "أنه مر ذات يوم في موضع من نواحي الكوفة، فإذا فتيان فساق قد اجتمعوا يشربون، وفيهم مغن، يقال له: زاذان، يضرب ويغني، وكان له صوت حسن، فلما سمع ذلك عبد الله، قال: "ما أحسن هذا الصوت لو كان بقراءة كتاب الله!"، وجعل الرداء على رأسه ومضى، فسمع زاذان قوله، فقال: من كان هذا؟ قالوا: عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: وأي شيء قال؟ قالوا: إنه قال: ما أحسن هذا الصوت لو كان بقراءة كتاب الله -تعالى-؛ فقام وضرب بالعودة على الأرض فكسره، ثم أسرع فأدركه، وجعل المنديل في عنق نفسه، وجعل يبكي بين يدي عبد الله بن مسعود، فاعتنقه عبد الله بن مسعود، وجعل يبكي كل واحد منهما، ثم قال عبد الله: كيف لا أحبّ من قد أحبه الله -عز وجل-، فتاب إلى الله -عز وجل- من ذنوبه، ولازم عبد الله بن مسعود حتى تعلم القرآن، وأخذ حظا من العلم حتى صار إماما في العلم، وروى عن عبد الله بن مسعود وسلمان وغيرهما"(كتاب التوابين)
الخطبة الثانية:
الحمد لله عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
عباد الله: لنا في القصص السابقة دروس وهدايات منها:
أولاً: إن الهداية محض فضل الله وتوفيقه، فمن منّ الله عليه بالهداية عليه أن يكثر الحمد والشكر لله -عز وجل- أن هداه للاستقامة؛ إذ ذاك هو محض فضل الله -عز وجل-: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)[الحجرات: 17]، وتأمل قول أهل الجنة: (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[الأعراف: 43]، ولذك على العبد ألا يغتر ويصيبه العجب بالهداية، بل يسعى إلى زيادتها وتنميتها.
ثانيا: على العبد أن يتلمس أسباب الهداية ويفتش عنها، فمن رحمة الله أنه جعل أسبابًا للهداية، من حرص على تحصيلها وفقه الله لها؛ (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى)[الليل: 4 - 7]، وقال -تعالى-: (وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ)[النمل: 92].
فعلى العبد أن يبذل الأسباب لنيل هداية الله -عز وجل-، ومن أعظمها الإقبال على القرآن تلاوة وتدبراً، ومنها التأسي بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، ومنها الدعاء وخاصة دعاء سورة الفاتحة: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)[الفاتحة: 6]، ومنها الإقبال على عبادة الله ومحبته والتعلق به، ولزوم التوبة والاستغفار، ومرافقة الصاحين المهتدين.
تأمل قلب ذلك الرجل الذي قتل مائة نفس ومع ذلك تحرك قلبه في طلب الهداية والتفتيش عنها؛ طمعاً في الحصول عيها!، تأمل سعيه للحاق ببلدة الصالحين لما أوصاه العالم بقوله: "انطلق إلى أرض كذا وكذا؛ فإن بها أناسا يعبدون الله، فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك؛ فإنها أرض سوء، فأنطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت".
ثالثاً: الخوف على الهداية من أن تسلب من الإنسان، فقد كان الرسل والأنبياء -عليه السلام- والصالحون يخافون أشد الخوف من الزيغ بعد الهداية، ومن تقلب القلب، قال -تعالى-: (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)[آل عمران: 8]، وكان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك"، و"يا ولي الإسلام وأهله، بتني عليه حتى ألقاك"، فما أحوجنا إلى هذه الأدعية.
رابعاً: على الدعاة والمصلحين والمربين ألا ييأسوا من هداية أحد من الناس مهما كان ضلاله وبعده، فهذا موسى -عليه السلام- لم ييأس من السحرة بل وعظهم وذكرهم، وربما كانت هدايتهم بسبب هذه الموعظة؛ (قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى)[طه: 61]، وهذا عبد الله ابن مسعود -رضي الله عنه- يصطاد قلب زاذان الكندي بهذه الكلمات: "ما أحسن هذا الصوت؛ لو كان بقراءة كتاب الله".
المسؤولية في دلالة القلوب على الله -عز وجل- عظيمة، فلنبذل كل وسعنا في الدعوة إلى الله، فقد قال -صلى الله عليه وسلم- لعلي -رضي الله عنه-: "فوالله، لأن يهدي الله بك رجلا واحدا؛ خير لك من أن يكون لك حمر النعم"(متفق عليه).
التعليقات