اقتباس
تكلمنا في الجزء الأول عن أربع نصوص نبوية أُشكل فهمها، وفي هذا الجزء نستكمل هذه النصوص ونفسرها التفسير الصحيح ونرد على شبهات الضالين والمضللين.
نواصل الحديث عن تفسير بعض النصوص الشرعية التي التبس فهمها على كثير من المسلمين، فظنوا فيها انتقاصاً لمكانة المرأة في الإسلام، وفهموها على غير مراد قائلها، وأنزلوها تطبيقاً في أمور الحياة، فسببوا كثيراً من الإشكاليات الشرعية والاجتماعية بسبب هذا الفهم السقيم.
أيضا هذه النصوص استغلها أعداء الأمة في التشنيع على رسول الإسلام -صلى الله عليه وسلم- وعلى الشريعة وعلى الأمة كلها.
وقد تكلمنا في الجزء الأول عن أربع نصوص نبوية أُشكل فهمها، وفي هذا الجزء نستكمل هذه النصوص ونفسرها التفسير الصحيح ونرد على شبهات الضالين والمضللين.
النص الخامس: كيد النساء:
هذه المرة النص القرآني, ويستدل به ويفهمه المسلمون خطأ, ويعظمون به سلباً صفة مذمومة هي: صفة الكيد بالباطل, فيقولون: إن ربنا قد وصف كيد النساء بأنه عظيم، وقال: (إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) [يوسف: 28] في حين وصف كيد الشيطان، فقال: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) [النساء: 76], وعلى هذا فالمرأة أشد فسادا وشرا وسوءا من الشيطان نفسه.
وهذا الفهم وهذا الاستدلال في منتهى الخطر, وهو ناجم عن موروثات ثقافية انتقلت لنا من التصورات السابقة، والحضارات القديمة ونظرتها المريبة الدائمة تجاه المرأة.
وعضد أحاديث وأخبار مكذوبة موضوعة من مثل طاعة المرأة ندامة! هلكت الرجال حين أطاعت النساء! اتقوا شرار النساء! وكونوا في خيارهن على حذر! إلى آخر هذه الأخبار التي ولدت في الشعور الجمعي عند كثير من المسلمين الخوف من المرأة والحذر منها, والاستدلال الدائم بقوله: (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ).
والحق أن الاستدلال خاطئ من وجـهين:
الوجه الأول: إن سياق الآيتين مختلف, فالأولى تذكر مدى ضعف كيد الشيطان إذا ما قورن بكيد الله -عز وجل- لأوليائه، فهو عز وجل يدافع عنهم, ويدبر لهم أمورهم, ويهيأ لهم سبل الانتصار, فلذلك كانت الآية: (الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) [النساء: 76].
وقد يكون كيد الشيطان قويا ضد الإنسان العاصي والفاجر الذي قطع عن نفسه أسباب المعية الربانية, والتأييد الإلهي, وعندها يسهل على الشيطان إخلاله وغوايته؛ كما قال الله -عز وجل-: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ) [الحشر: 16].
أما السياق الثاني: فيصور قصة هروب يوسف -عليه السلام- من مراودة امرأة العزيز, وهي تطلبه ليرجع إليها, فإذا هما أمام زوجها لدى الباب, فلم ترتبك ولم تتلجلج في هذا الموقف العصيب, بل على الفور قلبت الحقيقة, وارتدت ثوب الفضيلة, واشتكت لزوجها محاولة يوسف إغوائها, فالكيد العظيم هذا هو سرعة الانتقال النفسي في لحظة واحدة من الغواية إلى الفضيلة والعفاف، فالكيد الأول غير الكيد الثاني, والموقف الأول غير الموقف الثاني.
الوجه الثاني: إن هذه الواقعة لا تصلح للاستدلال؛ لأنها كما يقول أهل العلم: واقعة أعيان وليست بيان حال, فهذه حاله خاصة بهذه المرأة المتلونة، وليس الأمر والوصف ينسحب على كل جنس المرأة.
النص السادس: شؤم المرأة:
عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنما الشؤم في ثلاثة في الفرس والمرأة والدار" (البخاري ومسلم), وفي رواية سهل بن سعد: "إن كان في شيء ففي المرأة والفرس والمسكن " (البخاري كتاب الطب).
هذا الحديث لم يمثل مشكلة عند آحاد المسلمين فقط، بل أيضا عند أهل العلم المعتبرين, الذين استشكل عليهم الحديث بتعارضه مع أحاديث أخرى صحيحة مثل حديث أنس -رضي الله عنه- النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا عدوى ولا طيرة, ويعجبني الفأل الصالح؛ الكلمة الحسنة" (البخاري في كتاب الطب).
والطيرة والتطير، هو التشاؤم الذي كان منتشرا عند عرب الجاهلية.
وجاء نفي التطير في أحاديث وروايات كثيرة كلها صحيحة بلغ حدها حد التواتر، ولأهل العلم ثلاث أقوال في تفسير هذا الحديث المشكل:
القول الأول: ما قالته عائشة -رضي الله عنها- عندما بلغها الحديث, فقد دخل عليها رجلان وقالا لها: إن أبا هريرة يحدث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار"، فقالت: والذي أنزل القرآن على أبي القاسم ما هكذا كان يقول, ولكن كان نبي الله يقول: "كان أهل الجاهلية يقولون: الطيرة في المرآة والدار والدابة" ثم قرأت: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا) [الحديد: 22]، وقد رد الحافظ ابن حجر وابن الجوزي وغيرهما عن عائشة هذا الاستدراك، وقالوا: إن الخبر قد رواه العديد من الصحابة غير أبي هريرة.
القول الثاني: وهو ما قاله الإمام مالك وطائفة من العلماء: إن الحديث على ظاهره، وأن الأصل في الإسلام أنه لا طيرة ولا تشاؤم إلا في هذه الأشياء الثلاثة.
القول الثالث: إن الشؤم ضد اليمن، وعدم البركة، والمراد به في الحديث الأمر المحسوس المشاهد، وشؤم المرأة: سلاطة لسانها, وسوء أخلاقها, وعدم إنجابها, وتعرضها المريب, وشؤم الدار: ضيقها، وقلة مرافقها, وسوء جوارها, وشؤم الفرس: كثرة عيوبها وضعفها ولؤمها؛ فالحديث ليس من باب التطير المنهي عنه.
وللألباني -رحمه الله- تأويل جميل في هذه المسألة فيقول: "إن لفظ الحديث قد اختصر اختصارا مخلا, وإنما أصله بلفظ: "إن كان الشؤم في شيء ففي الدار والمرأة والفرس" ، والحديث يعطي في مفهومه أن لا شؤم؛ لأن معناه لو كان الشؤم ثابتا في شيء لكان في هذه الثلاثة, ولكنه ليس ثابتا في شيء أصلا، على أنه الذي يظهر -والله أعلم- رجحان القول الثالث في المسألة.
ومما يرجح كفة القول الثالث ما أخرجه الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- مرفوعاً: "من سعادة المرء: المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والمركب الهنيء, ومن شقاوة المرء: المرأة السوء، والمسكن السوء، والمركب السوء".
وعلى هذا يكون توجيه هذا الحديث المشكل, والذي استغله أعداء الإسلام, وأساء فهمه المسلمون، ورموا المرأة بالشؤم, وفتحوا على أنفسهم بذلك بابا من العبث بالعقيدة, وإدخال الأباطيل والشكوك في قدر الله وقدرته، والإسلام في الأساس قد جاء لبناء العقيدة الصحيحة, وهدم محل الاعتقادات الجاهلية, والتي كان من تصوراتها القديمة والموروثة إثبات ووجود الشؤم بصفة دائمة ولازمة لجنس المرأة.
وقد وضحنا بفضل الله معنى هذا الحديث حتى لا يتسرع المسلمين, ويجازفون بأقوال واعتقادات تخالف العقيدة الصحيحة.
النص السابع: سجود المرأة لزوجها:
عن عبد الله بن أبي أوفى -رضي الله عنهما- قال: إن معاذ -رضي الله عنه- لما قدم من الشام سجد للنبي -صلى الله عليه وسلم-, قال: "ما هذا يا معاذ؟" قال: "أتيت الشام فوافيتم يسجدون لأساتذتهم وبطارقهم, فوددت في نفسي أن نفعل ذلك بك" فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فلا تفعلوا فإني لو كنت أمرت أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها" (أخرجه أحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع) هذا الحديث النبوي الصحيح قال عنه أعداء النبوة والإسلام: إنه أكبر دليل على ذكورية المجتمع المسلم, وضياع حقوق المرأة فيه, وقالوا: إن الإسلام يجعل الذكر منكم الإله الذي يعبد في السماء, فهو إله المرأة في الأرض, ويجب أن تنزله في الدنيا منزلة المعبود المسجود له في السماء, إلى آخر هذا الكلام الذي ينم عن جهل مطبق باللغة العربية أولا, وسوء فهم متعمد لتفكيك البنية التحتية للمجتمع المسلم، ولتدمير العلاقات الأسرية, حتى أنه من كثرة الهجوم والطعن على الإسلام من خلال هذا الحديث أنكر بعض أهل العلم صحة هذا الحديث, أو أول لغير مراده, من أجل تفادي المواجهة ضد أعداء الإسلام والنبوة.
أما عن تفسير هذا الحديث، فهو واضح الدلالة والمعنى لمن كان عنده أدنى علم باللغة العربية, فـ "لو" في صدر الحديث تفيد الامتناع من الحدوث والاستبعاد عن الواقع, وليس ما في الحديث ما يدل على أمر الزوجة للسجود لزوجها، بل معنى الحديث الظاهر الواضح حث الزوجة على طاعة زوجها، وتذكير الزوجة بعظم ومكانة هذه الطاعة، وارتباط هذه الطاعة بطاعة الله -عز وجل-، وعندها تعلم الزوجة أنها مأجورة مثابة عند قيامها بحق زوجها, ويتجلى هذا الثواب العظيم في الحديث الصحيح: "إذا صلت المرأة خمسها, وصامت شهرها, وحصنت فرجها, وأطاعت زوجها, قيل لها: ادخلي من أي أبواب الجنة شئت" (صحيح الجامع: 660).
وهذه الطاعة من المرأة للرجل في البيت أمر في غاية الأهمية الاجتماعية والتنظيمية, لضمان سلامة إدارة هذا البيت, فالزواج شركة لها رئيس ولها مرؤوس, والرئيس بنص القرآن والسنة والإجماع هو الزوج, ومن حق هذا الرئيس أن يطاع طالما أنه لا يأمر بمعصية أو قطيعة رحم, وهذه الطاعة من المرأة للرجل لا تقدح في أصل المساواة بينها في الإنسانية والكرامة والمسؤولية والجزاء والعقاب.
وأعداء النبي وأشياعهم من المثقفين والمثقفات! يقولون: عن المساواة بين الرجل والمرأة تقتضي التحرر النهائي والكامل عن طاعة الرجل والزوج, ولعل ذلك يفسر لنا ظاهرة الفشل الأسري المستشري بين أوساط الناشطين في جمعيات حقوق المرأة التابعة للمؤسسات الدولية التي تمول بأموال أمريكا وغيرها لحرب الإسلام، فإنك لا تكاد ترى زعيمة ولا قائدة ولا مفكرة ولا داعية للتحرر والانطلاق إلا وهي مطلقة أو منفصلة أو معلقة أو لم تتزوج قط, ومعظمهن قد مررن بتجارب زواج فاشلة لمحاولتهن تطبيق الضلال الذي يعشش في رؤوسهن على حياتهن الخاصة, فكانت النتيجة معروفة؛ مما جعلهن ينقلبن حربا ضروسا على الإسلام والمسلمين, ولعل ذلك هو الهدف الأساسي لكل محاولات الطعن في النصوص التشريعية التي تتناول موضوع المرأة, فإفشال العلاقة الزوجية، وهدم الأسرة المسلمة؛ يمهد السبيل لهدم المجتمع الإسلامي كله, وهو عين مرادهم.
النص الثامن: كمال المرأة:
عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كمل من الرجال كثير, ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون, ومريم بنت عمران, وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام" (البخاري).
هذا الحديث يتخذه الطاعنون والحاقدون ذريعة ووسيلة أخرى في ترويج مذهبهم النسوي البغيض, والقول بظلم المرأة في الإسلام واتهامها الدائم بالنقص والدونية وإيثار الرجال في كل موطن إلى آخر هذه الأباطيل المعروفة.
للحافظ ابن حجر تفسير بديع في الفتح لهذا الحديث يرد به على المشككين، فيقول رحمه الله: "استدل بهذا الحصر على أنهما نبيتان؛ لأن أكمل النوع الإنساني الأنبياء ثم الأولياء والصديقين والشهداء, فلو كانت غير نبيتين للزم ألا يكون في النساء ولية ولا صديقة ولا شهيدة. والواقع أن هذه الصفات في كثير منهن موجودة, إلا أن يكون المراد من الحديث أنهن غير أنبياء, فلا يتم الدليل على ذلك لأجل عائشة, وقد ورد في حديث آخر: "إن خير نساء الأمة خديجة بنت خويلد"، قال القرطبي: "الصحيح أن مريم نبية؛ لأن الله -تعالى- أوحى إليها بواسطة الملك, وأما آسية فلم يرد ما يدل على نبوتها", وقال الكرماني: "لا يلزم من لفظ الكمال نبوته؛ لأنه يطلق لتمام الشيء وتناهيه", فالمراد بلوغها النهاية في جميع الفضائل التي للنساء، وقد نقل الإجماع على عدم نبوة النساء. وهذا هو القول الراجح في المسألة وهو تفسير الحديث إن شاء الله -تعالى-, فإن إجماع أهل العلم على عدم نبوة النساء, ورد قول الأشعري والقرطبي في دعواهم نبوة النساء. وإن توجيه ومراد الرسول -صلى الله عليه وسلم- والله أعلم بمراده إن كمال الرجال المذكور في الحديث هو كمال النبوة, وقد وردت بعض الآثار أن عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألف من الرجال وهو عدد كبير, أما الكمال المذكور عن النساء فهو كمال خاص بهن. والرسول -صلى الله عليه وسلم- قد علم أصحابه القرآن, وقرؤوا فيه قوله عز وجل: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ) [الأنبياء: 7], فهم يعلمون ابتداءً أنه لا نبوة للنساء, ففهموا أن كمالهن المذكور في الحديث هو كمال خاص بهن إذ أن كمال الرجال النبوة, أو كمال النساء في مجال خاص بهن من الأعمال الصالحات، والبذل والعطاء والتضحية والصبر والجهاد, وفي هذا المجال لم تصل إلى مستوى الكمال الإنساني الديني إلا مريم وآسية من الأمم السابقة, وخديجة وفاطمة من أمة الإسلام" انتهى كلامه رحمه الله.
فليس إذًا في الحديث مذمة للنساء ولا ظلما للمرأة, بل هو دعوة مفتوحة لكل من تريد أن ترتقي في سلم الكمال الإنساني, وتؤدي جميع حقوق الله والعباد التي عليها, وكلما ارتقت كلما اقتربت من الكمال, ولا حرج على فضل الله -عز وجل-.
التعليقات