عناصر الخطبة
1/أهمية الأمن في استقرار الحياة 2/من أضرار ذهاب الأمن 3/من أسباب تحقيق الأمن 4/الحث على الحفاظ على الأمناقتباس
وفي البَلَدِ الأَمِينِ تُرَفْرِفُ راياتُ الأَمَانِ، وَحَقٌّ عَلى كُلِّ مَنْ وَطِئَ ثَرى بَلَداً دَعا لَها نَبِيُّ اللهِ إِبراهيمَ -عليهِ السلامُ- بالأَمِنِ، أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللهُ قَدْ استْجابَ ذاك الدُّعاءَ، فَلْيَحْذَرْ مِنْ كُلِّ سَبَبٍ يَسْلُبُه أَمْنَه، وأَصْدَقُ المُؤْمِنِينَ نُصحاً مَنْ نَصَحَ لِلَّهِ، ولِكِتابِهِ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَكُلَّ ضَلالَةٍ فِي النَّارِ.
أيها المسلمون: تُفتَحُ الدُّنيا على أَقْوَامٍ، وَتُغْلَقُ أَمَامَ آخَرِيْن، وَتُبسَطُ الأرزاقُ على قُرَى، وَقُرَى يَتَقَلَّبُوْنَ في دِيَارِهِمْ مُمْحِلِيْن، ومَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا وهِيَ إِلى طِيْبِ العَيْشِ راغِبَة، تَطْمَعُ أَنْ تُصَبَّ عَلِيْها الخَيْرَاتُ، وتُفْتَحَ لَها البَرَكاتُ، ويُوسَعَ لَها فِي الرِّزْقِ، وتُدْرِكَ بَيْنَ الوَرَى كَرِيْمَ الحَياةِ، ولا يَبْسُطُ الرِّزْقَ إِلا مَنْ بِيَدِهِ خَزَائِنُهُ؛ (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ)[الحجر: 21]، ولا يُبْسُطُ الرِّزْقَ إِلا مَنْ مَلَك؛ (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)[الذاريات: 58]، وَإِذَا أُغلِقَتْ أَبْوَابُ رِزْقٍ عَنِ القُرَى، فَلَيْسَ لَهَا مِنْ دُوْنِ رَبِّكَ فاتِحُ.
إنَّ الحَيَاةَ الكَرِيْمَةَ لِلأُمَمِ مِنْ أَسْمَى المَطَالِبِ وَأَجَلِّ الأُمْنِيَّاتِ، ولا حَياةَ كَرِيْمَةٌ لأُمَةٍ مَا لَمْ يَعُمَّ أَمْنُها، الأَمْنُ بِسَاطٌ لِكُلِّ نِعْمَةٍ، وَعَلَى بِسَاطِ الأَمْنِ تَطِيْبُ للنَّاسِ الحَياة، وَمَا نُزِعَ الأَمْنُ مِنْ أُمَةٍ إِلا نُزِعَ اسْتِقْرارُها، واضْطَرَبَ قَرارُها، واصْطَلَى بِنارِ الخَوفِ أَحْرارُها، وتَشَتتَ في الآفاقِ عُمَّارُها.
ما نُزِعَ الأَمْنُ مِنْ أُمَةٍ فأَدْرَكَتْ في عَيْشِها رَخاءً، ولا في نَوْمِها هَناءً، ولا فِيْ حَياتِها صَفاءً، وما أَدْرَكَ قِيْمَةَ الأَمْنِ إِلا مَنْ بَاتَ لَيْلَةً يُقَلِّبُ الطَّرْفَ في الآفاقِ خائِف، "اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ".
امْتَنَّ اللهُ عَلى أَهْلِ مَكَّةَ بِما أَسْبَغَ عَلِيْهِم مِنْ نِعَمٍ، أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وآمَنَهُم مِنْ خَوف، فَمَنْ أَسْبَلَ عَلِيْهِم هَذهِ النِّعَمَ، فَهُو المُسْتَحِقُّ لأَنْ يُطَاعَ ويُعْبَدَ، وأَنْ يُفْرَدَ بالعِبادَةِ ولَهُ يُسْجَد؛ (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)[قريش: 3 - 4].
خَاطَبَ القُرآنُ أَهْلَ القُرى، وَأَبَانَ لَهُم مَا فِيْهِ صَلاحُ دِيْنهِم وصَلاحُ دُنْياهُم، أَبَانَ لَهُم دَعائِمَ أَمْنِهِم وَعَزِّهِم واسْتِقْرارِهِم ورَخائِهِم، خَاطَبَ القُرآنُ أَهْلَ القُرى، فَهُم بِكَلامِ رَبِهِم يُوْعَظُون: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا)[النساء: 66 - 68].
خَاطَبَ القُرآنُ أَهْلَ القُرى، وأَهْلُ القُرى أَهْلُ الحَوَاضِرِ والمُدُن، أَهْلُ المَمَالِكِ والدُّوَل، كُلُّ مَكَانٍ اتَّصَلَتْ بِهِ الأَبْنِيَةُ واتَّخَذَهُ النَّاسُ قَراراً فَهْوَ قَرْيَةٌ، فَمَكَّةُ مِنْ أَكْبَرِ حَوَاضِرِ الجَزِيْرةِ العَرَبِيَّةِ، سَمَّاهَا القُرْآنُ قَرْيَةً: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ)[محمد: 13]، (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)[الشورى: 7]، خَاطَبَ القُرآنُ أَهْلَ القُرى، فَجَاءَهُم مِنَ الهُدَى ما بِهِ يَسْتَبْصِرُون، ومِنَ الآياتِ ما بِهِ يُوعَظُون؛ (وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ)[يونس: 101].
وَعَدَ اللهُ أَهْلَ القُرى بَكِرِيْمِ العَيْشِ، وسَعَةِ الرِّزْقِ، وتَتَابُعِ الخَيْراتِ، وحُلُولِ البَرَكاتِ، إِنْ هُم لَزِمُوا الإِيْمانَ والتَّقْوَى، فاسْتَقامُوا على أَوامِرِ اللهِ، واسْتَجابُوا لِشَرِيْعَةِ اللهِ، وَوَقَفُوا عِندَ حُدُودِ اللهِ، وانْتَهُوا عَنْ مَحارِمِ الله؛ (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)[الأعراف: 96]، ولَكِنَّ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ عَواقِبَ الإِصْرارِ على الأَوزَارِ يَهْلَك؛ (وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[الأعراف: 96]، (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[آل عمران: 117].
تَنْعَمُ الأُمَمُ بالأَمْنِ إِنْ هِيَ آمَنَتْ، ولا أَمْنَ لِمَنْ عَنِ الإِيْمانِ انْحرَفْ؛ (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)[الأنعام: 82]، (لَهُمُ الأَمْنُ) فَهُوَ لَهُم مُخْتَصٌّ بِهِم، يَتَقَلَّبُونَ فِيْهِ في كُلِّ مَنازِلِهِم، أَمْنٌ في الدُّنْيا مِنْ حُلُولِ العذابِ ومِنْ زَوالِ النِّعَمِ، ومِنْ انْقِلابِ الحَالِ ومِنْ سُوءِ المآل، وأَمْنٌ في القَبْرِ، وأَمْنٌ في الحَشْر، وأَمْنٌ عِنْدَ اشْتِداد الأَهوال؛ (أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[فصلت: 40]، (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ)[الأنبياء: 103]، فَلَهُم الأَمْنُ المُطْلَق في الدُّنْيا والآخِرَة، وإِنْ مَسَّهُم شَيءٌ مِنَ الخَوفِ في أَزْمِنَةٍ مِنْ أَزْمانِهِم فَلَسًوفَ يَنْجَلِيْ، وَذاكَ بَلاءٌ يُمْتَحَنُونَ بِه، تُرْفَعُ لَهُمْ فيهِ الدَّرَجاتُ، وتُحَطُّ عَنْهُم بِه السَّيئِاتِ، والعاقِبَةُ لِمَنْ صَبَر؛ (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)[البقرة: 155].
تِلْكَ حَقِيْقَةُ الأَمْنِ لِمَنْ وَعَى، ولَرُبَّما تَقَلَّبَتْ أَمُمُ الكُفْرِ في بِلادِها آمِنَةً تَرْفُلُ في التَّرَفِ، وتُرَفْرِفُ فِيْها مَناظِرُ النَّعِيْم، ولَعْمْرِي إِنَّ ذَاكَ الأَمْنَ فِيْهِم لَنْ يَدُوم، وإِنَّ تِلْكَ المَفاتِنِ فِيْهِم لَنْ تَبْقَى؛ قَدْ يُذِيْقَهُم اللهُ بأَسَهُ في الدُّنيا، كَما أَذَقَ بَعْضَ الأُمَمِ قَبْلَهُم، فَيُنْزِلُ بِهِم عِقابِهِ، ويَنْتَزِعُ مِنْهُم أَمْنَه، ويُجازِيْهِم بِما كَسَبُوا؛ (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ)[الأنبياء: 11 - 15].
ولَرُبَّما مُتِّعُوا في الحَياةِ مُسْتَدْرَجِيْنَ، ثُمَّ انْقَلَبُوا إِلى مَآلِهِم في الآخِرَةِ خائِفِيْنَ مَلْعُونِيْن؛ (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)[آل عمران: 178]، (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ)[آل عمران: 196 - 197]، دَخَلَ عُمَرُ -رَضْيَ اللهُ عَنْه- عَلى رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قالَ: فَرَأَيْتُ أثَرَ الحَصِيرِ في جَنْبِهِ فَبَكَيْتُ، فَقالَ: "ما يُبْكِيكَ؟"، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّ كِسْرَى وقَيْصَرَ فِيما هُما فِيهِ، وأَنْتَ رَسولُ اللَّهِ!، فَقالَ: "أَمَا تَرْضَى أنْ تَكُونَ لهمُ الدُّنْيَا ولَنَا الآخِرَةُ"(رواه البخاري ومسلم).
فَما فَقِهَ مُؤْمِنٌ هذهِ الحَقِيْقَةَ إِلا رَشَد، يُبْصِرُ الحَياةَ بِمِيزانِ الحَقِّ الذِيْ أَقَامَهُ اللهُ، فَلا يُغْلَبُ أَمامَ مَفاتِنِ الحَياةِ التي بُسِطَتْ في مَرابِعِ المُتْرَفِين، بَلْ يَرى خَلْفَ كُلِّ لذَّةٍ يَتَمَتَّعُ بِها الكَافِرُونَ حَسْرَة، ويَرى َوَراءَ كُلِّ سُرُوْرٍ يَتَقَلَّبُ بِه أَلَمْ، فلا يَنْهَجُ نَهْجاً نَهَجُوه، ولا يَقْتَفِيْ دَرْباً سَلَكُوه؛ (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ)[التوبة: 55].
أقول هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب، فاستغفروه إنَّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ رَبِّ العَالمين، وأَشْهَدُ أَن لا إله إلا اللهُ ولي الصالحين، وأَشْهَدُ أَنَّ محمداً رسول رب العالمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليماً.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- لعلكم ترحمون.
أيها المسلمون: تَنْعُمُ القُرى بالأَمْنِ إِنْ هِيَ آمَنَت، وتُدْفَعُ عَنْها المَكارِهُ إِنْ هِيَ باللهِ اعْتَصَمَت؛ (وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)[الحج: 78]، وما مَزَّقَ أَرْوِقَةَ الأَمْنِ مِثْلُ مُخالَفَةٍ لأَمْرِ اللهِ، وتَناحُرٍ وتَنافُرٍ ونِزَاع؛ (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[الأنفال: 46].
ما امْتَنَّ اللهُ على قَرْيَةٍ بِنِعْمَةٍ كَامْتِنانِهِ علَيْهِم بِنْعمَةِ الأَمْن التي بِها يَتَقَلَّبُون؛ (وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ)[سبأ: 18]، (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ)[العنكبوت: 67].
ظِلالُ الأَمِنِ أَكْرَمُ ظِلالٍ، ومَنْ لَمْ يأَمَن على دِيْنِهِ لَمْ يُقِم عِبادَةَ رَبِهِ كَما أُمِر؛ (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)[النساء: 97].
يُحْفَظُ الأَمْنُ ويُحْمَى جَنَابُه، ولا أَمانَ لِمَنْ أَضاعُوا سُبُلَ النَجاة، بالعَدْلِ قامَتِ السَّماواتُ والأَرْض، وبالقِسْطِ قَامُ مِيزانُ الحَق، وبالقِيامِ بِأَوامِرِ اللهِ يُحْكَمُ صَمَّامُ الأَمَانِ؛ (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[النور: 55]، أَمَانٌ مِنَ اللهِ لِقَومٍ إِلى رَبِهِم يَرْجِعُون، يُنِيبُوْنَ إِليهِ وَيَسْتَغْفِرُوْن، وَيَتُوبُونَ إِليه وَلا يَسْتَكْبِرُون؛ (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)[الأنفال: 33].
وَبَطَرُ النِعْمَةِ والانْغِماسُ في مَفاتِنِ الحَياةِ. مِنْ أَقْرَبِ الأَسْبابِ لِسَلِبِ النِّعَم، يَغِيْبُ عَقْلٌ إِذا اسْتَحْكَمَ هَوى، وتَضْعُفُ بَصِيْرَةٌ إِذا زَاغَ بَصَر، ويَدْنُو حَتْفٌ إِذا فاضَ تَرَف؛ (وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ * فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[الحجر: 82 - 84]، (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا)[الطلاق: 8].
وفي البَلَدِ الأَمِينِ تُرَفْرِفُ راياتُ الأَمَانِ، وَحَقٌّ عَلى كُلِّ مَنْ وَطِئَ ثَرى بَلَداً دَعا لَها نَبِيُّ اللهِ إِبراهيمَ -عليهِ السلامُ- بالأَمِنِ، أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللهُ قَدْ استْجابَ ذاك الدُّعاءَ، فَلْيَحْذَرْ مِنْ كُلِّ سَبَبٍ يَسْلُبُه أَمْنَه، وأَصْدَقُ المُؤْمِنِينَ نُصحاً مَنْ نَصَحَ لِلَّهِ، ولِكِتابِهِ، ولِرَسولِهِ، ولأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ، وعامَّتِهِمْ.
اللهم احفظ علينا ديننا الذي هو عصمة أَمرنا، واحفظ لنا أمننا وأماننا، وأصلح ولاة أمورنا.
التعليقات