عناصر الخطبة
1/ الاستعداد للموت واستشعار قربه 2/ كيف يكون ذكر الموت؟! 3/ الموت مصير كل حي 4/ تباين مواقف الناس عند الموت 5/ الدنيا دار بلاء وابتلاءاهداف الخطبة
اقتباس
ولو لم يكن بين يدي الموت كُربٌ ولا هَولٌ سوى سكرات الموت لكان جديراً بالإنسان أن يتعظ ويتكدر عليه سروره، ويفارقه سهوه وغفلته، والعجب كل العجب، أن الإنسان لو كان في أعظم اللذات وأطيب المجالس التي يأنس بها مع أولاده وأصدقائه وأقربائه، وأُخبر أن داعياً سوف يحضر ويدعوه إلى أمر من الأمور، لتنكّد وتكدّر عليه مجلسه، وفسد عليه عيشه، وهو في كل لحظة بصدد أن يدخل عليه ذلك الداعي...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى، واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، اتقوا يوماً تأتي كل نفس تجادل عن نفسها، وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون.
أيها المسلمون: إن الله -جلّت قدرته وتقدست أسماؤه- أوجدنا في هذه الحياة من عدم: (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً). أوجدنا في هذه الدنيا لا للدوام والبقاء، ولكن للموت وما بعد الموت: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ).
حكم المنية في البرية ساري *** ما هذه الدنيا بدار قرارِ
بينا يُرى الإنسان فيها سائراً *** حتى يُرى خبراً من الأخبارِ
(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ).
قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "أكثروا من ذكر هادم اللذات الموت". رواه الترمذي. وعن أبي بن كعب -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا ذهب ثلث الليل قام فقال: "يا أيها الناس: اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه". رواه الترمذي.
أيها المسلمون: إن الموت مما ينبغي الاستعداد له، واستشعار قربه، فإنه أقرب غائب يُنتظر، وما يدري الإنسان لعله لم يبقَ من عمره إلا اليسير وهو مقبل على دنياه ومعرض عن آخرته.
تؤمل في الدنيا طويلاً ولا تدري *** إذا جنّ ليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من صحيح مات من غير علة *** وكم من مريض عاش حينًا من الدهر
***
الموت باب وكل الناس داخله *** فليت شعري بعد الموت ما الدار
الدار جنة عدنٍ إن عملت بما *** يرضي الإله وإن فرطت فالنار
هما مصيران ما للمرء غيرهما *** فانظر لنفسك ماذا أنت تختار
ولو لم يكن بين يدي الموت كُربٌ ولا هَولٌ سوى سكرات الموت لكان جديراً بالإنسان أن يتعظ ويتكدر عليه سروره، ويفارقه سهوه وغفلته، والعجب كل العجب، أن الإنسان لو كان في أعظم اللذات وأطيب المجالس التي يأنس بها مع أولاده وأصدقائه وأقربائه، وأُخبر أن داعياً سوف يحضر ويدعوه إلى أمر من الأمور، لتنكّد وتكدّر عليه مجلسه، وفسد عليه عيشه، وهو في كل لحظة بصدد أن يدخل عليه ذلك الداعي، فكيف به إذا أيقن أن ملك الموت سوف يدخل عليه في أية لحظة بسكرات النزع، وهو عنه في سهو وغفلة، وما لذلك سبب إلا الجهل والغرور، واشتغال القلب بالدنيا.
ليس للموت -يا عباد الله- وقت معلوم عند الناس فيُخاف في ذلك الوقت ويُؤمن منه في سائر الأوقات، فليس يأتي في الشتاء دون الصيف، ولا يأتي في الليل دون النهار، ولا يأتي بعد عمر الخمسين فيأمنه من هو دون ذلك، وليس له علة دون علة فيأمنه من لم يصبه ذلك، فحقٌ على العالم بأمر الله -عز وجل- وأنه الذي انفرد بعلم ذلك الوقت أن لا يأمنه في وقت من الأوقات، وأن يكون مستعداً له أتم الاستعداد؛ سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الكيِّس من الناس من هم؟! فقال: "أكثرهم للموت ذكراً، وأحسنهم له استعدادًا". رواه ابن ماجه.
أيها المسلمون: إنّ ذكر الموت لا بد أن يكون مع تفكّر قلب فارغ عن الشهوات، واستحضار لحاله عند الموت وأهواله، وشدائده وسكراته، ولا بد من تفكّر في شدة النزع والألم الذي يعانيه عند خروج الروح من البدن، أعاننا الله وإياكم وجميع المسلمين على ذلك، حتى قالوا: إن خروج الروح من البدن أشد من الضرب بالسيف، ونشر المناشير، وقرض المقاريض؛ لأنه يهجم على الإنسان ويستغرق جميع أجزائه من كل عرق من العروق، وعصب من الأعصاب، وجزء من الأجزاء، ومِفصل من المفاصل، ومن أصل كلّ شعرة، من المفرق إلى القدم، ليستلّ الروح منها، فلا تسأل عن كربه وألمه، فإنما يصيح المضروب ويستغيث لبقاء قوته، وأما الميت عند موته فإنه ينقطع صوته من شدة ألمه؛ لأن الكرب قد بالغ فيه، وغلب على قلبه، وعلى كل موضع فيه، وضعفت كل جارحة فيه، فلم يبق فيه قوة لاستغاثة، أما العقل فقد غشيه وشوشه، وأما اللسان فقد حجزه وأبكمه، والأطراف فقد ضعّفها وخدّرها، فإن بقيت فيه قوة، سَمعتَ له عند نزع الروح وجذبها غرغرة من حلقه وصدره، وقد تغيّر لونه، واربدّ وجهه، حتى كأنه ظهر من التراب الذي هو أصله. وقد جذب منه كل عرق على حدته، فالألم منتشر في داخله وخارجه، حتى ترتفع الحدقتان إلى أعلى أجفانه، وتتقلص الشفتان، ويتقلص اللسان، فلا تسأل عن بدن يُجذب منه كل عرق من عروقه، ثم يموت كل عضو من أعضائه تدريجياً، فأول ما يبرد قدماه، ثم ساقاه، ثم فخداه، حتى تبلغ الحلقوم، فعند ذلك ينقطع نظره إلى الدنيا وأهلها، ويُغلق دونه باب التوبة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يقبل التوبة من العبد ما لم يغرغر". رواه الترمذي.
الموت: مصير كل حيّ.. الموت: نهاية كل إنسان في هذه الدنيا.. الموت: لا يفرّق بين صغير وكبير، ولا بين حاكم ومحكوم، ولا بين شريف ووضيع: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ).
الموت: الذي يفر منه الجميع وهو يطلبهم: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).
الموت: باب مفتوح أمام كل منا سيلجه، ومركب حتماً سيركبه، ومشهد عظيم سيشهده، لا مفر له منه، ولا محيد له عنه، إيمان يقيني قائم بذلك في النفوس، وواقع مشهود محسوس ملموس. قال مطرّف بن عبد الله الشخّير: "إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم، فاطلبوا نعيماً لا موت فيه".
الموت الذي ينتظر كلاً منا بلا موعد ولا خيار: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ).
الموت: وُصف في كتاب الله بقوله: (كَلاَّ إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِي * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ * فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى).
الموت: الذي لم ينجُ منه نبي مرسل ولا عبد صالح، وقال سبحانه لخير خلقه: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ).
هو الموت ما منه ملاذٌ ومهرب *** متى حُط ذا عن نعشه ذاك يركب
نشاهد ذا عين اليقين حقيقة *** عليه مضى طفلٌ وكهلٌ وأشيب
الموت: حقيقة قاسية رهيبة، تواجه كل حيّ فلا يملك لها ردًا، ولا يستطيع لها أحد ممن حوله دفعًا، وهي تتكرر في كل لحظة، وتتعاقب على مر الأزمنة، يواجهها الجميع: الصغار والكبار، الأغنياء والفقراء، الأقوياء والضعفاء، المرضى والأصحاء، قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).
ولعظم ما نحن مقدمون عليه وصائرون إليه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا". رواه البخاري.
ففي الموت: عظة وتذكير، وتنبيه وتحذير، وكفى به -والله الذي لا إله إلا هو- من تقرير ومصير.
الموت: هو الخطب الأفظع، والأمر الأشنع، والكأس التي طعمها أكره وأبشع.
إنه الحادث الأهدم للذات، والأقطع للراحات، والأجلب للكريهات.
إنه أمر يقطع أوصالك، ويفرق أعضاءك، ويهدم أركانك، لكننا نسيناه أو تناسيناه، وكرهنا ذكره ولقياه، مع يقيننا أنه لا محالة واقع وحاصل، ولا مفر منه ولا حائل.
إلى كم ذا التراضي والتمادي *** وحادي الموت بالأرواح حادي
فلـو كنـا جمـاداً لاتعظنا *** ولكنا أشد من الجماد
تنادينا المنيـة كـل وقـت *** وما نصغي إلى قول المنادي
وأنفاس النفوس إلى انتقاص *** ولكن الذنوب إلى ازدياد
فالحمد لله الذي قصم بالموت رقاب الجبابرة، والحمد لله الذي كسر به ظهور الأكاسرة، والحمد لله الذي قصّر به آمال القياصرة، والحمد لله الذي نغّص على تلك النفوس الظالمة الفاجرة.
إنه جدير بمن الموت مصرعه، والتراب مضجعه، والدود أنيسه، ومنكر ونكير جليساه، والقبر مقرّه، وبطن الأرض مستقرّه، والقيامة موعده، والجنة أو النار مورده، إنه جدير بمن هذا شأنه، أن لا يكون له فكر إلاّ في الموت، ولا ذكر إلاّ له، ولا استعداد إلاّ لأجله، ولا تدبير إلاّ فيه، ولا تطلّع إلاّ إليه، ولا تأهب إلاّ له، ولا تعريج إلاّ عليه، ولا اهتمام إلاّ به، ولا انتظار ولا تربص إلاّ له.
فسبحان من حكم على خلقه بالفناء، فما لأحد عنه محيص ولا محيد، وسبحانه كم أبكى بالموت خليلاً بفراق خليله، وسبحانه كم أيتم طفلاً فشغله ببكائه وعويله!!
أوحش المنازل من أقمارها، ونفّر الطيور من أوكارها، فسبحانه من إله أذلّ بالموت كل جبار عنيد، وكسر به من الأكاسرة كل جبار وصنديد، فالملك والمملوك، والغني والصعلوك، بقوا تحت الأرض إلى يوم الوعيد.
ماذا تُؤمل والأيام ذاهبـةٌ *** ومـن ورائـك للأيـام قُطّاع
وصيحةٍ لهجوم الموت منكرةٌ *** صُمّت لوقعتهـا الشنعاء أسماع
وغُصّةٍ بكؤوسٍ أنت شاربها *** لـها بقلبـك آلام وأوجـاع
يا غافلاً وهو مطلوبٌ ومُتَّبعٌ *** أتـاك سيـلٌ من الفرسان دفَّاع
خذها إليك طِعاناً فيك نافذةً *** تعدي الجليس وأمر ليس يُسطاع
إن المنية لو تُلقى على جـبلٍ *** لأصبح الصخر منه وهو ميّاع
أيها المسلمون: الموت لا خلاف فيه، ولا ينكره أحد منا، وليست هذه قضيتنا، لكن قضيتنا ما هي مواقف الناس عند الموت، هل يستوون؟!
الجواب: أنهم لا يستوون؛ إن للناس مواقف شتى:
فمنهم: من يقول: (رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ) فيقال له: كلا.
ومنهم: من يقول: (لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ) فيجابُ بـ (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا).
ومنهم من يُردّ عليه ويُذكّر بالعمر المديد والزمن الطويل الذي عاشه ولكنه لم ينتفع به ولم يزده طول العمر إلاّ بعداً عن الله فيقال له: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ).
ومنهم: من يقول: (يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ)، فيجاب على هذه الطلبات المتعددة المتنوعة بقوله تعالى: (بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمْ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).
نعم تتباين مواقف الناس، وتختلف مواقف الناس عند الموت: (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ).
ألا أيها اللاهي وقد شاب رأسه *** ألما يزعك الشيب والشيب وازع
أتصبُ وقد ناهزت خمسين حجة *** كأنك غر أو كأنك يافع
حذار من الأيام لا تأمننها *** فتخدعك الأيام وهي خوادع
أتأمن خيلاً لا تزال مغيرة *** لها في كل يوم في أناس وقائع
وتأمل طول العمر عند نفاده *** وبالرأس وسم للمنية لامع
يرجّي الفتى والموت دون رجائه *** ويسري له ساري الردى وهو هاجع
ترحل من الدنيا بزاد من التقى *** فإنك مجزي بما أنت صانع
روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك".
اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة، واجعلنا ممن كتبت لهم الحسنى وزيادة، واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين يا أرحم الراحمين.
أستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أقدامكم على النار لا تقوى، وأن ملك الموت قد تخطاكم إلى غيركم، وسيتخطى غيركم إليكم فخذوا حذركم، الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
أيها المسلمون: اعلموا -ألهمنا الله وإياكم الرضا بقضائه وقدره، ورزقنا وإياكم وجميع المسلمين الاستعداد للقائه- أنه ما من مخلوق مهما امتد أجله وطال عمره إلا والموت نازل به، وخاضع لسلطانه، ولو جعل الله الخلود لأحد من الخلق لكان الأولى بذلك الأنبياء والرسل، وكان أولاهم بذلك صفوة أصفيائه، سيد ولد آدم على الإطلاق محمد -صلوات الله وسلامه عليه-؛ قال الله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ)، وقال تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ).
أيها المسلمون: إن الدنيا دار بلاء وابتلاء، وامتحان واختبار، لذلك قدّر الله فيها الموت والحياة، وهي مشحونة بالمتاعب، مملوءة بالمصائب، طافحة بالأحزان والأكدار، يزول نعيمها، ويذل عزيزها، ويشقى سعيدها، ويموت صغيرها وكبيرها. هذه الدنيا، قد يُؤذى مؤمنوها، وقد يُسوّد منافقوها، مُزجت أفراحها بآلام، وحلاوتها بالمرارة، وراحتها بالتعب، فلا يدوم لها قرار، ولا يدوم لكل شخص حال، الفقير قد يَغنى، والضعيف قد يقوى، والمطارد قد يَستوطن، والمضيّق عليه قد يأتيه سعة رب العالمين، والمتوسِّعُ في كل شيء، ما هي إلا لحظات إلا وضمة القبر تحتضنه.
فاتقوا الله -عباد الله-، واتعظوا بماضيكم وحاضركم، فكم من ملوك وجبابرة، فتحوا البلاد، وسادوا العباد، وأظهروا السطوة والنفوذ، حتى ذُعرت منهم النفوس، ووجلت منهم القلوب، ثم طوتهم الأرض بعد حين، فافترشوا التراب، والتحفوا الثرى، فأصبحوا خبراً بعد عين، وأثراً بعد ذات. وإلاّ فأين عاد وثمود؟! وفرعون ذو الأوتاد؟! أين الأكاسرة؟! وأين القياصرة؟! ثم أين الجبابرة؟! السعيد من وعظ بغيره، والسعيد من استدرك قبل أن يحل به الأجل.
قال بعضهم: دخلنا على عطاء السلمي نعوده في مرضه الذي مات فيه، فقلنا له: كيف حالك؟! فقال: "الموت في عنقي، والقبر في يدي، والقيامة موقفي، وجسر جهنم طريقي، ولا أدري ما يفعل بي".
ودخل المزني على الإمام الشافعي -رحمه الله- في مرضه الذي مات فيه، فقال له: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟! فقال: "أصبحت عن الدنيا راحلاً، وللإخوان مفارقًا، ولسوء عملي ملاقيًا، ولكأس المنية شاربًا، وعلى ربي -سبحانه وتعالى- واردًا، ولا أدري أروحي صائرة إلى الجنة فأهنّيها، أو إلى النار فأعزيها". ثم أنشأ يقول:
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي *** جعلت الرجا مني بعفوك سلمًا
تعاظمني ذنبي فلما قرنته *** بعفوك ربي كان عفوك أعظمَ
وما زلتَ ذا عفوٍ عن الذنب *** لم تزل تجود وتعفو منةً وتكرمًا
قال بعض الحكماء: "مازالت المنون ترمي عن أقواس، حتى طاحت الجسوم والأنفس، وتبدلت النعم بكثرة الأبؤس، واستوى في القبور الأذناب والأرؤس، وصار الرئيس كأنه قط لم يَرؤُس".
أيها المسلمون: من عامل الدنيا خسر، ومن حَمل في صف طلبها كُسر، وإن خلاص مُحبها منها عَسر، وكل عاشقيها قد قُيّد وأسر؛ قال الله تعالى: (مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً).
هذا؛ وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على خير البرية وأفضل البشرية، صاحب الحوض والشفاعة، اللهم صلّ على محمد...
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
التعليقات