اقتباس
هذه بعض النماذج التاريخية لجنايات الجهل والبغي من الجهلاء والدهماء والعامة وأتباع كل ناعق بحق بعض كبار علماء الأمة والخسارة الفادحة التي خسرتها الأمة من عواقب تلك الجنايات، نسوقها بين يديــ ...
الجهل مصيبة المصائب، وآفة الآفات في المجتمعات، فإذا حلَّ الجهل في أمة من الأمم، لا يكون مصيرها إلاَّ الهلاك والبوار، لأنها لا تستطيع على شيء، وعندما لا تستطيع على شيء، فإنها ستكون عرضة دائماً وأبداً لبغي الأعداء. وضرر الجاهل أشد وأنكى على المجتمع من غيره، وقد قيل: (عداوة العاقل أقل ضرراً من مودة الجاهل)، لماذا؟ لأن الأحمق ربما ضر وهو يقدر أن ينفع، والعاقل لا يتجاوز الحد في مضرته، فمضرته لها حد يقف عليه العقل، ومضرة الجاهل ليست بذات الحد، والمحدود أقل ضرراً ما هو غير محدود.
ولقد ذم الله تعالى الجهل وحذر منه وبيّن أنه سبب إعراض المعرضين عن دعوة الأنبياء والمرسلين وأن الناس لجهلهم كذبوا بهم يقول تعالى مخبراً عن قول نوح لقومه (وَ يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ)[هود:29].
وذكر سبحانه أن الجهل هو الذي دفع قوم لوط لعمل جريمتهم البشعة من اللواط، قال تعالى (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)[النمل:55].
والجهل أيضا يدفع الناس للشرك بالله قال تعالى عن موسى عليه السلام وقومه (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إسرائيل الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)[الأعراف:138].
ويعتبر ظهور الجهل وانتشاره من علامات قرب وقوع الساعة؛ ففي الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن بين يدي الساعة لأياما ينزل فيها الجهل ويرفع فيها العلم ويكثر فيها الهرج والهرج: القتل"، وقال أيضا: "إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل ويشرب الخمر ويظهر الزنا".
فرتب -عليه السلام- على قلة العلم ورفعه وظهور الجهل وكثرته كثرة وقوع المحرمات وانتهاكها ومن أعظمها القتل وهو الهرج وهذا القتل الذي يقع هو: بين المسلمين بعضهم البعض وهو دليل على تفرقهم ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن بين يدي الساعة لهرجا قال: قلت يا رسول الله ما الهرج؟ قال: القتل ثم قال: ليس بقتل المشركين ولكن يقتل بعضكم بعضا...".
ولا يزال الجهل والتعصب أعدى أعداء العلم والعلماء؛ فهما نقيضان متضادان، كلاهما حرب على الآخر، كلاهما في حالة صراع قائمة ومستمرة عبر التاريخ، فالعلم نور وحق وبيان والعلماء أهله وحراسه ومناصروه، والجهل ظلم وظلام وباطل وبهتان والجهلاء أهله وحراسه ومناصروه، الجهل داء والعلم دواء، الجهل سقام القلوب والنفوس والعقول والعلم شفاؤها؛ لذلك فإن الله -عز وجل- قد أعلى من شأن العلم والعلماء وجعلهم ورثة الأنبياء، وجعل فضل العالم على العابد كفضل النبي -صلى الله عليه وسلم- على أدنى المسلمين، وعلى مر التاريخ عانى علماء الأمة الربانيون من سفاهة الجهلاء وحماقة المتعصبين الكثير من الويلات والمحن، بل إن بعضهم قد راح ضحية الجهل والتعصب، ففقدت الأمة العديد من كبار الأئمة والعلماء بسبب ذلك.
وهذه بعض النماذج التاريخية لجنايات الجهل والبغي من الجهلاء والدهماء والعامة وأتباع كل ناعق بحق بعض كبار علماء الأمة والخسارة الفادحة التي خسرتها الأمة من عواقب تلك الجنايات، نسوقها بين يدي خطباء الأمة ودعاتها لينشروها بين الناس ويحذروا من خطر الجهل والبغي به على علماء الأمة ورجالها المخلصين.
العالم الرباني وكيع بن الجراح
يتبوأ الإمام الكبير وكيع بن الجراح مكانة خاصة ومميزة في طبقات حفاظ الأمة، وثبت أعلامها، وعلى الرغم من أن العصر الذي كان يعيش فيه وكيع بن الجراح زاخر بالكثير من الحفاظ والأئمة الأعلام، إلا أن وكيعًا بن الجراح كان علمهم المقدم، وأوفرهم نصيبًا في الثناء والمدح، وهذه طائفة من أقوالهم:
قال الإمام أحمد بن حنبل: ما رأيت أحدًا أوعى للعلم ولا أحفظ من وكيع، وما رأيت مثل وكيع في العلم والحفظ والإسناد والأبواب، مع خشوع وورع. وقال عبد الرزاق بن همام: رأيت الثوري وابن عيينة ومعمرًا ومالكًا، ورأيت، ورأيت، فما رأت عيناي قط مثل وكيع. وقال يحيى بن معين: ما رأيت أفضل من وكيع، فقيل له: ولا ابن المبارك؟ قال: قد كان ابن المبارك له فضل، ولكن ما رأيت أفضل من وكيع، كان يستقبل القبلة، ويحفظ حديثه، ويقوم الليل، ويسرد الصوم. قال إسحاق بن راهويه: حفظي وحفظ ابن المبارك تكلف، وحفظ وكيع أصلي، قام وكيع فاستند، وحدث بسبعمائة حديث حفظًا.
ومع هذه المكانة العظيمة فقد تعرض وكيع بن الجراح لعدوان الجهل والبغي عليه من قبل العامة في الحجاز بسبب روايته لحديث اعتقد العوام في مكة والمدينة أن فيه انتقاص من قدر النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أنهم قد أجمعوا على قتله وصلبه، وتم إلقاء القبض عليه بالفعل، ولولا شفاعة الإمام سفيان بن عيينة عند الخليفة هارون الرشيد حتى أطلقوه من الحبس. وبعدما خرج وكيع بن الجراح من مكة اتجه إل المدينة ولكن الخبر قد سبقه إلى أهلها فاستعدت العوام للقائه بالحجارة لرجمه دون إذن الوالي، فلما عرف بعض علماء المدينة مثل سعيد بن منصور هذا الخبر، وعزم أهل المدينة على قتل وكيع أرسل إليه بريدًا عاجلا ألا يأتي المدينة ويغير مساره إلى طريق الربذة، فلما وصل البريد إلى وكيع، وكان على مشارف المدينة، عاد إلى الكوفة.
بعد هذه الحادثة لم يستطع وكيع بن الجراح أن يذهب إلى الحج مرة أخرى، وحيل بينه وبين مكة والمدينة، وخاض الجهال في حقه، واتهموه بالتشيع والرفض، ولكنه تجاسر سنة 197هـ، وحج بيت الله الحرام؛ فقدر الله عز وجل وفاته بعد رجوعه من الحج مباشرة؛ فمات ودفن بفيد على طريق الحج بين مكة والكوفة.
فائدة الخطيب: عدم الفهم الصحيح لمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم قد يدفع البعض-من باب الغيرة-للمسارعة باتهام الآخرين بتهم خطيرة يترتب عليها مآلات أخطر، لذلك فترسيخ المعاني الحقيقة للمحبة المحمدية تُكسب صاحبها فهماً ورحمة ومحبة لأهل العلم.
شيخ الصنعة الإمام البخاري
واحد من أكبر علماء الأمة الذين وضع الله-عز وجل-له ولمؤلفاته القبول التام عند الناس عبر العصور، حتى صار علامة على الصحة ومعياراً للصواب، ولسنا في حاجة لسوق ثناء ومدح الناس لعلمه وورعه ومكانته العلمية، فهو من الأمور التي صارت معلومة بالضرورة عند جماهير المسلمين، ومع ذلك تعرض لويلات وويلات من الجهل وسوء الظن والبغي بغير حق من بعض أقرانه، فصار نصال الفتن والمحن تنهال عليه في أواخر حياته رحمه الله، حتى مات وحيداً فريداً من كثرة ما ناله من أذى الجهل والبغي.
البغي والحسد والغيرة دفعت هذه المرة بعض معاصري الإمام البخاري لئن يؤجج نار الفتنة والمحنة في كل مكان يذهب إليه الإمام، وقد افترى على الإمام أنه من اللفظية -الذين يقولون لفظي بالقرآن مخلوق- أثناء إقامته في نيسابور وخاض في حقه حتى ملأ الأرض كذباً وافتراءً على الإمام الكبير، واُجبر الإمام على الخروج من نيسابور متجها إلى مرو لمواصلة رحلته العلمية، ولكن الأكاذيب والافتراءات راحت تطارده في كل مكان، وتناقل الجهال والدهماء الشائعات وتلقفوها بآذانهم.
وكان البخاري يؤكد في كل مكان أنه لم يقل إن لفظه بالقرآن مخلوق، فعندما سأله الحافظ أبو عمرو الخفاف عن هذه المسألة، فقال له: "يا أبا عمرو، احفظ ما أقول لك: مَن زعم مِن أهل نيسابور وقوس والري وهمذان وحلوان وبغداد والكوفة والبصرة ومكة والمدينة، أني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذَّاب، فإني لم أقله، إلا أنّي قلت: أفعال العباد مخلوقة"، ومعنى هذا التصريح أن الذي خاض في حق البخاري وشوَّه سيرته ومكانته، قد بنى حملته على البخاري على لازم قول البخاري أن الأفعال مخلوقة، فقال الذهبي: "إنَّ البخاري يقول: إنَّ ألفاظنا من أفعالنا وأفعالنا مخلوقة، إذًا هو يقول إن لفظي بالقرآن مخلوق، ولازم القول ليس بلازم، كما هو مذهب جمهور المحققين من العلماء، إلا إذا التزمه صاحب القول، أما إذا نفاه وتبرأ منه فلا يلزمه ولا يشنع عليه بسببه".
وتحت وطأة البغي والجهل والافتراء اضطر البخاري في آخر أيامه للنزول عند أحد أقاربه ببلدة خرتنك، الواقعة بين بخارى وسمرقند، ليموت فيها بعد أيام قليلة من الهم والحزن على ما أصابه من جنايات البغي والحسد والافتراء.
فائد الخطيب: التحذير من كلام الأقران في بعضهم البعض، وعدم الالتفات للنقد الذي مبعثه الهوى والحسد، فقلّ من سلم من هذا الداء الذي لو انضم إليه البغي والجهل كان أسرع وصفة لتدمير الآخرين وإهالة التراب على تاريخهم ومكانتهم العلمية.
الإمام الطبري رائد التفسير والتاريخ
يتربع الإمام ابن جرير الطبري على قمة سلم التصنيف لعلماء الأمة بلا منازع، فهو أكثر علماء الإسلام تصنيفًا، ويعتبر رائد علمي التفسير والتاريخ في الإسلام، وعلى منواله نسج من جاء بعده، ولابن جرير مصنفات كثيرة زاخرة بالفوائد الجمة، أشهرها على الإطلاق كتاب (التفسير المسمى بجامع البيان) الذي لم يصنف مثله، والذي لو ادعى عالم أن يصنف منه عشرة كتب، كل كتاب منها يحتوي على علم مفرد مستقصى لفعل. والذي قال عنه أهل العلم: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصّله لم يكن كثيرًا. وله كتاب تاريخ الملوك والرسل من أنفس كتب التاريخ.
وقد تعرض الإمام الطبري لحملة افتراءات وبغي كان وقودها التعصب المذهبي بسبب تحامل الحنابلة في العراق عليه، وذلك لأسباب تعد في مجملها واهية لا سند لها إلا البغي والتعصب المذهبي بسبب الخلاف الفقهي بينه وبين رأس حنابلة العراق أبي بكر بن أبي داود، فقد افتروا عليه ورموه بالتشيع، وكانت العامة مع الحنابلة في هذا العصر، فراجت الافتراءات والأكاذيب بحق هذا العالم الجليل، وقام الحنابلة بالتشويش على الطبري في مجالسه، وتنفير الطلبة من مجالسه، ومع ذلك ظل الإمام صابرًا محتسبًا مواظبًا على الدرس لا ينقطع عنه، حتى قام الحنابلة ذات يوم بسبه وشتمه أثناء الدرس، وأقاموه بالقوة من حلقة الدرس ومنعوه من الجلوس للتدريس، وألزموه القعود في بيته.
نقل الطبري دروسه إلى بيته فكان يجتمع مع طلبة العلم في بيته، فأغاظ ذلك الأمر عوام الحنابلة بشدة، فدفعهم التعصب المذهبي المذموم لأبعد دركات الغلو والظلم، حيث قاموا بمحاصرة بيت الطبري ومنعوه من الخروج من بيته، ومنعوا طلاب العلم من الدخول عليه، حتى إن كل طلاب العلم والحديث الذين دخلوا بغداد سنة 309هـ لم يجتمعوا به ولم يرووا عنه شيئًا بسبب طغيان جهلة الحنابلة، ومنهم الإمام حسنيك بن علي دخل بغداد ولم يكتب شيئًا عن الطبري، وعندما علم أستاذه ابن خزيمة ذلك قال لتلميذه (حسنيك): "ليتك لم تكتب عن كل من كتبت عنهم وسمعت من أبي جعفر، وبئس ما فعلت الحنابلة بحقه".
ظل الطبري حبيسًا في بيته يعاني من الاضطهاد الشديد، ولا يدخل عليه أحد إلا القليل من خاصته، وكان قد جاوز الخامسة والثمانين وأنهكته السنون، ورحلات طلب العلم في شتى بقاع الأرض، وزادت المحنة من آلامه وأوجاعه، والجهلة والمتعصبون لا يردهم شيء، لا مكانة علمية ولا كبر سن، ولا مؤلفات ومصنفات عظيمة في التفسير والتاريخ وغيرهما، وظل الجهلة محاصرين لبيت الطبري حتى حان وقت الرحيل في شوال سنة 309هـ، وقد ظل الطبري يردد الشهادة قبل موته عدة مرات، ثم مسح يده على وجهه وغمض بصره بيده، وبسطها وقد فارقت روحه الحياة.
وبلغت المحنة أوجها ووصل التعصب إلى ذروته، وظل الحنابلة على حصارهم لبيت الطبري حتى بعد أن بلغهم خبر وفاته، مما دفع أصحاب الطبري لأن يدفنوه في صحن داره برحبة يعقوب ببغداد، ولم يخرج الطبري من حصاره حتى بعد موته، ولكن هذا الحصار والتعصب المقيت لم يمنع الناس أن يأتوا إلى بيته للصلاة عليه حتى إن الناس ظلوا عدة شهور يصلون على قبره ليلاً ونهارًا. فتعساً للجهل والبغي والتعصب!!
فائدة الخطيب: التعصب المذهبي أخطر صور وتجليلات الجهل والبغي!! فالجهل ليس مجرد عدم العلم أو ضعف الفهم، الجهل هو سلوك مبعثه ضيق العطن وكسل العقل، والتعصب لشيخ أو رأي بعينه، دون إطلاع على باقي الآراء. فكم من قتيل راح ضحية التعصب المذهبي، وكم من بلاد خربت، وبيوت أُغلقت، ومدارس أُحرقت بسبب التعصب المذهبي والفتن بين أتباع المذاهب.
الإمام النسائي مجدد المائة الثالثة
يحتل النسائي مكانة سامقة في ثبت علماء الأمة، فهو يقف في مصاف كبار علماء الأمة، وإمامًا من أكبر أئمة الحديث، حتى إن السيوطي رحمه الله قد قال عنه: "النسائي مجدد المائة الثالثة". وقال الحافظ أبو علي النيسابوري: "أبو عبد الرحمن النسائي الإمام في الحديث بلا مدافعة"، وقال الإمام الدار قطني: "أبو عبد الرحمن النسائي مقدم على كل من يذكر بهذا العلم من أهل عصره"، وقال الإمام الذهبي: "كان من بحور العلم، مع الفهم، والإتقان، والبصر، ونقد الرجال، وحسن التأليف، جال في طلب العلم في خراسان، والحجاز، ومصر، والعراق، والجزيرة، والشام، والثغور، ثم استوطن مصر، ورحل الحفاظ إليه، ولم يبق له نظير في هذا الشأن"، وقال أيضاً: "ولم يكن أحد في رأس الثلاث مائة أحفظ من النسائي، هو أحذق بالحديث وعلله ورجاله من مسلم، ومن أبي داود، ومن أبي عيسى، وهو جار في مضمار البخاري، وأبي زرعة".
طاف النسائي معظم أقاليم الإسلام، واستقر في مصر فترة طويلة، ارتفع بها شأنه وعلا ذكره، وأقبل عليه طلبة العلم والمحدثون وعموم الناس لسماع مجالسه، وهذا الأمر مجلبة للحسد والغيرة عند ذوي النفوس المريضة.
بدأت محنة النسائي مع الجهل والبغي والتعصب عندما خرج إلى الشام وفي نيته نشر العلم النافع، فلما وصل إلى الرملة بفلسطين، عقد مجلسًا للتحديث بجامعها الكبير، وأخذ في رواية الأحاديث في فضل علي -رضي الله عنه- وآل البيت وفي باقي الصحابة، وكانت النصب -معاداة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وآل البيت- منتشراً بلاد الشام، فلما أخذ النسائي في رواية أحاديث فضل الصحابة، طلبوا منه أن يروي حديثًا في فضل معاوية رضي الله عنه، فامتنع النسائي من ذلك؛ لأنه وبمنتهى البساطة لم يخرّج حديثًا في فضل معاوية، ومروياته كلها ليس فيها حديث واحد في ذلك، فألحوا عليه، فرفض بشدة وكان كما قلنا ضابطًا متقنًا شديد التحري لألفاظه ورواياته للأحاديث، فألحوا عليه أكثر وشتموه واتهموه بالتشيع والرفض، فرد عليهم بكلام شديد، ولأن الجهل والتعصب يعمي البصائر، ويسوّد النفوس، فسبوه وشتموه، وقاموا بجره من رجليه لخارج المسجد، وكان شيخاً كبيراً جاوز الثمانين، فلم يحتمل مثل هذه الإهانة الجسدية والنفسية، ومما زاد الطين بلة، ما ورد عن قيام بعض الجهلة والمتعصبة بضربه في خصيته ضربة مميتة، فحُمل الإمام النسائي مريضاً مدنفاً، فلما أفاق قال لمن معه: "احملوني إلى مكة كي أموت بها، ولكن القدر كان أسرع من مراده وبغيته، فمات بعد أيام من اثر الضرب والإهانة، فرزقه الله -عز وجل- حياة هنية وميتة سوية، وختم حياته بصيانة علمه وأحاديثه، وعده كثير من أهل العلم من الشهداء، ونعم الشهيد هو الذي يموت على يد الجهال والدهماء والأغبياء المتعصبة الذين لا يعرفون الحق من الباطل والعالم من الظالم.
الإمام ابن حبان
أحد أوعية العلم الكبار، ورجل من كبار رجالات الحديث: أبو حاتم محمد بن حِبَّان البستي، صاحب الكتب الشهيرة، والمصنفات الفائقة، حمل العلم والحديث عن أكثر من ألفي شيخ، فيا لها من همة عالية رفعته لمصاف علماء الأمة الكبار، وحفاظها المعروفين، له مصنفات كثيرة وشهيرة لم يبق منها للأسف الشديد سوى النذر اليسير، أشهرها على الإطلاق كتاب الأنواع والتقاسيم، الذي أطلق عليه أهل العلم اسم: (المسند الصحيح)؛ وهو كتاب لا يقدر على الكشف منه إلا من حفظه تمامًا وقد التزم ابن حبان فيه بنظام دقيق، كما أن له كتبًا أخرى مشهورة: مثل التاريخ، والضعفاء، العلل، مناقب الشافعي، موقوف ما رُفِعَ، الهداية، وكتبًا كثيرة ضاعت بسبب فساد الأحوال وضعف الخلافة.
تعرض ابن حبان لحادثة في غاية الغرابة تجلت فيها الاثار الخطيرة للجهل والجهلاء وعواقب تصدر الجهلة وسيطرتهم على الرأي العام. ومفاد الحادثة أن الإمام ابن حبان أثناء إلقائه لأحد الدروس في نيسابور سئل عن النبوة فقال: النبوة "العلم والعمل"، وكان يحضر مجلسه بعض الوعاظ؛ فقام إليه واتهمه بالزندقة، والقول بأن النبوة مكتسبة، وارتفعت الأصوات في المجلس، وهاج الناس بين مؤيد للتهمة، ونافٍ لها، وخاضوا في هذا الخبر على كل وجه، حتى كتب خصوم ابن حبان محضرًا بالواقعة، وحكموا عليه بالزندقة، ومنعوا الناس من الجلوس إليه، وهُجر الرجل بشدة، وبالغوا في أذية ابن حبان، وتمادوا في ذلك حتى كتبوا في أمر قتله وهدر دمه إلى الخليفة العباسي وقتها، فكتب بالتحري عن الأمر، وقتله إن ثبت عليه التهمة، وبعد أخد ورد اتضحت براءة ابن حبان، ولكنهم أجبروه على الخروج من نيسابور إلى سجستان، وهناك وجد أن الشائعات تطارده، والتهمة ما زالت تلاحقه، وتصدى له أحد الوعاظ هناك، واسمه يحيى بن عمار، وظل يؤلب عليه حتى خرج من سجستان، وعاد إلى بلده "بست"، وظل بها حتى مات رحمه لله مهمومًا محزونًا من الأباطيل، وتهم الزندقة والإلحاد.
وهكذا يكون أثر الكلمة إذا أُلقيت على من لا يفهمها وكان ذا جهل مركب، فيفهمها عكس مرادها، ثم يبني عليها آراءً وأحكاماً ثم يدغدغ عواطف العامة والدهماء بها حتى يشعل الأرض ناراً من حول قائلها.
فائدة الخطيب: التحذير من خطورة المسارعة باتهام الآخرين والخوض في نياتهم بسبب كلمة متوهمة، وضرورة التأني قبل إصدار الأحكام الخطيرة بحق الغير، والحرص على الاستفهام على مراد القائل.
التعليقات