أ. د. عمر بن عبدالعزيز قريشي
إن الرسالات من منبع واحد هو الله - تعالى - والإسلام خاتمتها؛ ولذلك كان أشمل وأكمل، فمن طبيعة اللاحق أن يستفيد بالسابق، وأن يضيف جديدًا إليه، ومع أن الرسالات من الله، فإنه - تعالى - أعطى الدواء بقدر طاقة المريض، فكان يُعطي البشرية من الهدى والتوحيد بقدر ما تحتمله البشرية، وما يناسب عُودها الذي بدأ ضعيفًا ثم اشتد رويدًا رويدًا، حتى اكتمل نموها بالرسالة الخاتمة.
هذا وتاريخ اليهودية له أثر كبير في عقيدتهم، بخلاف غيرهم، فالتاريخ الإسلامي مثلاً ليس ذا أثر في العقيدة الإسلامية.
ولقد حدثنا القرآن الكريم عن أثر أنبياء بني إسرائيل وصوَّرهم في صورة كريمة، وقد انطبق عليهم القانون الإلهي في اختيار الرسل ﴿ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ ﴾ [الحج: 75]؛ فأنبياء بني إسرائيل - ككل الأنبياء - صفوة أخيار، وعلى عكس هذا نجد حديث التوراة المحرَّفة عن هؤلاء، فإن الذين كتبوا التوراة لم يراعوا عند الحديث عن أنبيائهم، إلاًّ ولا ذمة، ولم يبدرْ في حديثهم أي تقديس لهم أو إجلال، فنسبوا إليهم ما يدنس تاريخهم وما ينبو عن الذوق.
وأما عقيدة بني إسرائيل كما صورها القرآن الكريم، فإنه صورها سليمة صادقة صافية، لا تختلف عن عقيدة المسلمين؛ كما قال - تعالى -: ﴿ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ ﴾ [النساء: 163]؛ فالعقيدة الأصلية لبني إسرائيل كانت متمثلة في الإيمان بالله الواحد الأحد، الفرد الصمد، إله الناس جميعًا، والإيمان بالملائكة، والرسل، والكتب، واليوم الآخر، وما يتصل بذلك من الحساب والثواب أو العقاب، ولكن تغيرت معالم العقيدة هذه مع تحريف التوراة، واختراع التلمود، وتقرير البروتوكولات؛ فاليهود سرعان ما ثاروا في وجه أنبيائهم، ورفضوا الاستجابة لهم، وطرحوا العقيدة التي جاء بها هؤلاء الأنبياء، ثم هاجموهم، وقتلوهم أحيانًا، واستبد بهم الضلال والجحود، فعبدوا غير الله، وأنكروا البعث، ونسبوا لأنبيائهم ما لا يمكن أن يصدر من أنبياء أبدًا.
ولذلك ضُرِبت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضبٍ من الله؛ كما قال - تعالى -: ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ﴾ [البقرة: 74]، وقال - تعالى -: ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 85]، وقال - تعالى -: ﴿ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 46].
ومن الناحية الواقعية التاريخية يتضح أن بني إسرائيل أهملوا المصدر الحقيقي للعقيدة وهو السماء، وانساقوا خلف مصادر أخرى، فقد مرَّت ببني إسرائيل أحداث خطيرة، منذ عاشوا في مصر، ووقعوا بين شقي الرحى في فلسطين، ونُفُوا إلى بابل، وفي فترة الصراع والتشرد كتبوا العهد القديم ووضعوا التلمود، وبرتوكولات حكماء صهيون - كما سنرى بعد - أصبحت هي المصادر الواقعية للعقيدة اليهودية؛ [راجع بتوسع: اليهودية، د/أحمد شلبي، ص 140 - 155، ط/ مكتبة النهضة المصرية، (الخامسة) سنة 1978م].
واليهود أمة منعزلة عن سائر الأمم، تكره الاختلاط بغيرها، فهم عاشروا المصريين، ومع ذلك لم يأتلفوا معهم، حتى جاءهم "موسى" - عليه السلام - وأخرجهم من مصر، برغم أنهم سادوا أيام "يوسف" - عليه السلام - وكان يمكنهم أن يمتزجوا مع أبناء الشعب بصورة كاملة، وعلى مر العصور لازمتهم جبلَّتهم، فلقد عاشوا في بلدان عديدة مددًا طويلة، ومع ذلك خرجوا منها مطرودين أو محاطين بالكراهية والمقت.
وقد عُرِف اليهودي المعاصر بأوصافه الخاصة القائمة على حب الذات، والتعصب، ومحاولة فرض السياسة على العالم كله بمنهج مرحلي، معتمدًا في مسلكه على تعاليم اليهود الأوائل الذين تركوا له كتبًا تحدد له المنهج الواجب الاتباع.
فاليهودية بقايا متحجرة؛ أي: إنها مجتمعات استثنائية منعزلة قد بقيتْ من عصر سابق، كما أن المتحجرات سجل باقٍ لأشكال الحياة التي وجدت في الأعصر الخالية؛ [دراسات في الأديان "اليهودية " د.أحمد غلوش، ص 15، بتصرف].
يقول الأستاذ "عباس العقاد":
"إن أصبعًا من الأصابع اليهودية كامنة وراء كل دعوة تستخف بالقيم الأخلاقية، وترمي إلى هدم القواعد التي يقوم عليها المجتمع الإنساني في جميع الأزمان، فاليهودي "كارل ماركس" وراء الشيوعية التي تهدم الأخلاق والأديان، واليهودي "دور كايم" وراء علم الاجتماع الذي يلحق نظام الأسرة بالأوضاع المصطنعة، ويحاول أن يبطل آثارها في تطور الفضائل والآداب، واليهودي "جان بول سارتر" وراء الوجودية التي نشأت معززة لكرامة الفرد، مجنحًا بها إلى حيوانية تصيب الفرد والجماعة؛ [الصهيونية العالمية للأستاذ عباس العقاد، ج 14، ص 141، بتصرف من المجموعة الكاملة لمؤلفات الأستاذ العقاد، ط/ دار الكتاب اللبناني، بيروت - لبنان، بدون تاريخ].
لقد عرف التاريخ في بني إسرائيل شر الجماعات التي تصلح أن تكون موضعًا لدراسة الآفات الإنسانية لمن شاء أن يدرس ويفكر ويعتبر، ولقد حاول بنو إسرائيل ألا تكون طباعهم السيئة مقصورة عليهم، بل شاءت لهم أهواؤهم وسوَّلت لهم أنفسهم وشياطينهم أن يطرحوا الآخرين معهم في حمأة الأخلاق الفاسدة، والمنكرات والرذائل؛ فنظموا لذلك المنظمات، وأسسوا المؤسسات، وهذا يجعلنا نؤكد أنهم جناة على الأخلاق؛ إذ كل رذيلة من رذائلهم المنطوية عليها صدورهم، والجاري تعاملهم بها، قد استطاعوا بمهارتهم وكيدهم أن يجرُّوا الناس إليها، ويطبعوهم عليها زرافات ووحدانًا، حتى صار المجتمع العالمي كله اليوم - إلا قليلاً ممن عصم الله ورحم - مجتمعًا يهوديَّ الصفات والأحوال، وإن لم يكن مجتمعًا يهودي الجنس والنسب...؛ [جنايات بني إسرائيل على الدين والمجتمع، للأستاذ محمد ندا، ص 209، بتصرف، ط/ دار اللواء، أولى، عام 1984م، بالسعودية / الرياض].
واليهود لا يؤمنون إلا بالمادة، ولا قيمة للمعنويات عندهم، ولا وزن للأخلاق، ولا نصيب للروح، ولا مكان للمبادئ، ولا محل للصدق والوفاء، ولا وجود للأمانة والحياء، فهذه أمور لا يعرفها اليهود، ولا تعرفها منظماتهم المنتشرة في العالم، وكذا سائر الصفات التي هي فوق كل الغرائز.
وهذا الإيمان بالماديات وحدَها يقضي على مقومات الأخلاق الإنسانية والاجتماعية، بل على حقيقة الإيمان الديني؛ لأن جزءًا كبيرًا من الدين قائم على ما وراء المادة والغيبيات، ومنه "اليوم الآخر"، ولذا نرى اليهود لغلبة المادة وسيطرتها عليهم لا يؤمنون باليوم الآخر وما فيه، وليس أدل على ذلك من أن كتبة التوراة أخلوها من ذكر هذا اليوم، فلم تذكر التوراة شيئًا عن الآخرة، ولا عن الملائكة، ولم تذكر جنة ولا نارًا، وكل ما تَعِدُ به المحسنين مادي دنيوي فحسب؛ [جنايات بني إسرائيل على الدين والمجتمع، ص 211 - 212، بتصرف].
وذكر الآخرة لم يرد في نص واحد أو صريح، وكل ما ورد فيها من إشارات مثل كلمة (آخرتهم آخرتها)؛ فإنه يحتمل أن تؤول إلى نهاية الأمر.
"ولما كانت الحياة الدنيا هي غاية همهم، ومبلغ علمهم، والمادية هي مبتغاهم الأسمى، بل شعارهم الذى يسيرون وراءه لا يضلون عنه؛ فقد صاروا نفعيين أنانيين، يهدمون المبادئ من أجل ذواتهم، ويدوسون المصالح العامة في سبيل منافعهم الشخصية، فحملتهم أنانيتهم ونفعيتهم أن يسلكوا كل سبيل مُلْتَوٍ، وكل طريق منحرِف للحصول على المال والمنافع، فلم يتورعوا عن الكذب والخداع والغش والنفاق والتضليل"؛ [المرجع السابق، ص 215].
وهذه هي التوراة تتحدث عنهم فتقول: "لأنهم - أي اليهود - من صغيرهم إلى كبيرهم كل واحد مولع بالربح، ومن النبي إلى الكاهن كل واحد يعمل بالكذب"؛ [سفر ارمياء، إصحاح، (13)].
ويقول الشيخ الإمام محمد أبو زهرة:
"لا نجد في اليهود إلا الرياء، ومَلَق الأقوياء والنفاق، وأن يكون للقول ميدان وللعمل ميدان، ولقد أشاعوا النفاق في الأرض حتى توهم الناس أن مَن لم ينافق ليس بكيِّس، ومَن لم يتملق لم يؤتَ الحكمة، ومَن لم يداهن فهو أحمق، ومَن لم يمالئْ على الشر فهو داعٍ إلى الفتنة، مثير للسوء، ومَن يجهر بالحق فهو معاند مثير للشغب.
إلى أن قال: ولقد نشروا النفاق في الأرض كلها، وبثوا له الدعاية بأسماء مختلفة، فمرة بأنه الحكمة، وأخرى بأنه الكَيْس، وثالثة بأنه السياسة الناجحة، حتى أشاعوا بين الناس أن السياسة والأخلاق لا يجتمعان، وذلك قول الزور، ولقد قرر الحكماء حقًّا وصدقًا أن مَن يقول إن الأخلاق لا تجتمع مع السياسة لم يفهم الأخلاق ولا السياسة، فالسياسة الفاضلة هي والأخلاق متلازمتان لا تنفصلان"؛ [مجلة لواء الإسلام، عدد شعبان، 1387هـ، ص 722].
تراهم ينافقون الأقوياء والكبراء والحكام في سبيل أطماعهم والوصول إلى أغراضهم المادية الدنيئة، ويغدرون بالعهود، ويخونون الأمانات، ويَفجُرون في الخصومة، وتلك أهم خصال النفاق تجمَّعت في اليهود وعلى رأسها خصلة الكذب، إنها شر صفة يتصف بها إنسان على الأرض، فهو أساس النفاق والكفر والفساد.
وعلى هذه المبادئ أسَّسوا منظماتهم الدولية، وأقاموا تنظيماتهم السياسية والاقتصادية.. لقد اعوجَّت نفوس اليهود فأبت إلا أن تحول حياة البشر إلى جحيم، وتسعى لكي تضع نفسها في القمة فوق بني آدم - ولو على جماجم البشر وأشلائهم - مستخدمة في ذلك كل الوسائل ولو كانت الحروب المدمرة للعالَمين، فماذا فعلوا من جنايات تقضي، أو قضت على المجتمع الإنساني؟ وما أقاموا من منظمات؟
في بحثنا هذا جواب مختصر لأهم ما فعله اليهود مع المجتمع الإنساني بصفة عامة، ومع المسيح والمسيحيين بصفة خاصة، والله الموفِّق.
التعليقات