عناصر الخطبة
1/حِكَم ووصايا لصلاح الدين والدنيا 2/وصايا ونصائح لشباب الأمة النابهين 3/الظروف الصعبة في ظل الاحتلال والحصار 4/الوصية بإصلاح الباطن والظاهر 5/علاج ما يعانيه المسلمون من المشاكلاقتباس
إنَّ أقربَ الناس إلى الله -تعالى- يوم الجزاء مَنْ أدَّى الفرائضَ، واجتنَب المحارمَ وصبَر على البلاء، وشكَر للنعماء، واشتغل بالذِّكْر ونصَح لمن اعتبر، فافهم هذا جيدًا أيها المسلمُ، وابسُطْ في ذهنكَ ذلك، والتزِمْ به طولَ أيام حياتكَ، واعلم أنك لا تقوى على تقوى إلا بالصبر، فعليكَ به في كل آنٍ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي ابتدأ الإنسانَ بنعمته، وصوَّرَه في الأرحام بحكمته، وأبرَزَه إلى رِفقه، وما يسَّره له من رزقه، وعلَّمه ما لم يكن يعلم، وكان فضلُ الله عليه عظيمًا، ونبَّهَه بآثار صنعته، وأعذَر إليه على ألسنة المرسَلين الخِيَرة مِنْ خَلقه، فهدى مَنْ وفَّقَه بفضله، وأضلَّ مَنْ خذَلَه بعدله، ويسَّر المؤمنين لليسرى، وشرَح صدورَهم للذكرى، فآمَنوا بالله بألسنتهم ناطقينَ، وبقلوبهم مخلصينَ، تعلَّموا ما علَّمَهم، ووقَفوا عند ما حدَّ لهم، واستغنَوْا بما أحلَّ لهم عمَّا حرَّم عليهم، ونشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ، لا موهبةَ إلا منه، ولا بلوى إلا بقضائه، ونشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، مِلَّتُه كفايةٌ، وشريعتُه هدايةٌ، ومحاسِنُه نهايةٌ، وآراؤه خلاصةٌ، وأخلاقه نقاية، وأنظارُه عنايةٌ، اللهم صلِّ وسلِّم وبَارِكْ عليه، اللهم أَعِنَّا على طاعتكَ، وانصرنا على عدوكَ، وانشر علينا رحمتكَ، وارضَ اللهم عن الصحابة الكرام، حمَلَة العِلْم والأمناء على الوحي، وارضَ اللهم عن آل البيت الطاهرينَ، أصحاب الأخلاق والدِّين، وارضَ عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد فيا عباد الله: أصدقُ الحديثِ كتابُ الله -تبارك وتعالى-، وأصدقُ العُرَى كلمة التقوى، وخيرُ الْمِلَل ملةُ إبراهيم -عليه السلام-، وأحسنُ السُّنن سُنَّةُ نبيِّنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرُّ الأمورِ محدثاتُها، وخيرُ الأمورِ عزائمُها، ما قلَّ وكفى خيرٌ مما كَثُرَ وألهى، نفسٌ تُنجِيها خيرٌ من إمارة لا تُحصِيها، خيرُ الغِنى غِنى النَّفس، مكتوبٌ في ديوان المحسِنينَ: "مَنْ عَفَا عُفِيَ عنه".
الشقيُّ مَنْ شَقِيَ في بطن أمه، والسعيد مَنْ وُعِظَ بغيره، وخيرُ ما أُلقي في القلب اليقين، وأعظمُ الخطايا اللسانُ الكذوبُ، وسبابُ المؤمنِ فسوقٌ وقتالُه كفرٌ، وأكلُ لحمِه معصيةٌ، كم من دم سفَكَه فمٌ، كم من إنسان أهلَكَه لسانٌ، رُبَّ حرفٍ أدَّى إلى حتف، مَنْ طال عدوانُه زالَ سلطانُه، مَنْ زرَع الإحنَ حصَد المحنَ.
فيا أيها المسلم: اعلم أن مَنْ صدَق اللهَ نَجَا، ومَنْ أشفَق على دينه سَلِمَ من الردى، ومَنْ زَهِدَ في الدنيا قرَّت عيناه بما يرى من ثواب الله -تعالى- غدًا، كُنْ في الدنيا زاهدًا، وفي الآخرة راغبًا، وَاصدُقِ اللهَ -تعالى- في جميع أموركَ، تنجُ مع الناجينَ بإذن المولى الكريم، وتذكَّرُوا -يا عباد الله-، أن من كان آمِنًا في سِربِهِ، مُعافًى في بدنه عنده قوتُ يومه كان كمَنْ حِيزَتْ له الدنيا بحذافيرها، فإيَّاكَ ثم إيَّاكَ أيها المسلمُ والإعجابَ بنفسك، والتفريطَ فيما بقي من عمرك، إيَّاكَ واللجاجةَ، ولا تمشِ بغير حاجة، إيَّاكَ والغضبَ إلا في الله، ولا ترضَ عن أحد إلَّا في الله، لا تُحِبَّ الدنيا ولا تَبغَض الآخرةَ، فإنها تُخرِجُكَ من الإيمان، وتُدخِلُكَ في الكفر.
طُوبى لمن تواضَع في غير منقصة، وذَلَّ في غير مَسكَنة، وخالَط أهلَ الفقه والحكمة، طوبى لمن عمل بعِلْمه، وأنفَق الفضلَ من ماله، وأمسَكَ الفضلَ من قوله، طوبى لمن شغَلَه عيبُه عن عيوب الناس، طوبى لمن طال عمره، وحسن عمله.
روى الشيخان واللفظ للإمام البخاري: "اليد العليا خير من اليد السفلى، ومن يَستَعفِفْ يُعِفَّه اللهُ، ومَنْ يَستغنِ يُغنِه اللهُ".
عبادَ اللهِ: مَنْ كان في الدنيا غريبًا أصبح من الله قريبًا، ومَنْ أهلَكَتْه العبادةُ أحياه الفوزُ، ومَنْ سَلِمَ الخلقُ منه رضي الحقُّ عنه، ومَنْ ترَك شهوةَ الدنيا عوَّضَه اللهُ لذةَ الذكرى، ومَنْ كانت همتُه الذكرى فاز في الدنيا وفي الأخرى.
إنَّ أقربَ الناس إلى الله -تعالى- يوم الجزاء مَنْ أدَّى الفرائضَ، واجتنَب المحارمَ وصبَر على البلاء، وشكَر للنعماء، واشتغل بالذِّكْر ونصَح لمن اعتبر، فافهم هذا جيدًا أيها المسلمُ، وابسُطْ في ذهنكَ ذلك، والتزِمْ به طولَ أيام حياتكَ، واعلم أنك لا تقوى على تقوى إلا بالصبر، فعليكَ به في كل آنٍ، واسأل اللهَ الصبرَ على ما تكرهه، وعمَّا تهواه، (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ)[النَّحْلِ: 127].
يا معشر الشباب: عليكم بقيام الليل؛ فإنما الخير في الشباب، لكونه محلًّا للقوة والنشاط غالبًا، عَجِبَ ربُّكَ أيها المسلمُ من شابٍّ ليست له صبوةٌ، أين الذين (لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ)[النُّورِ: 37]؟ أين الذين (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ)[السَّجْدَةِ: 16]؟ أين الحمَّادون في السراء والضراء، والكاظمون الغيظَ والعافون عن الناس؟
فيا أيها المسلم: آنسَكَ الله بقربه، ومَنْ آنَسَه اللهُ بقربه أعطاه عزًّا من غير عشيرة، وعِلمًا من غير طلب، وغنى من غير مال، وأُنسًا من غير جماعة.
فيا أيها المسلم، يا مستور: اعقل في ستر مَنْ أنتَ، فإن كنتَ لا تعقل فاحذر الدنيا، وإن كنتَ لا تُحسِن أن تحذرها فاجعلها شوكةً، وانظر أين تضع قدمَكَ، أَسرِعْ إلى الله -تبارك وتعالى- وقل: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)[طه: 84]، يا عجبًا لقوم قد أُمروا بالزاد، وأُذنوا بالرحيل وقام أولهم على آخرهم فليت شعري ما الذي ينتظرون؟
نزَع اللهُ من قلوبنا حجابَ الغفلة والغرور، وحمانا عن مشابَهة كل ظلوم وكفور، وحبَّب إلينا لقاءه، ورزَقَنا ما رزقك أولياءه وأصفياءه وأحباءه، بمنه وكرمه.
عبادَ اللهِ: ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين استغفِروا الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي لا يبلغ مدحَه القائلون، ولا يُحصي نعماءه العادُّون، ولا يؤدي حقَّه المجتهدون، نحمدك على ما أفضتَ من النعم، ومنحتَ من الكرم، أنزلتَ علينا من بركات السماء، اللهم إنا بك مؤمنون، ولكَ شاكرون، ونشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ، ليست لصفته حدٌّ محدودٌ، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه، وعلى آهل بيته وأصحابه، الصفوة من أوليائه.
أما بعدُ فيا عباد الله: نعيش في هذه الأيام حياة صعبة، في ظل الاحتلال البغيض، انظروا إلى المسجد الأقصى، كيف تنتهك فيه الحرمات؟ فالمستوطِنون يعيثون فيه فسادًا، انظروا إلى بيوتنا كيف تُهدَم أمام أعيننا، لا بل في بعض الأحيان بأيدينا، فنسأل الله -تبارك وتعالى- أن يلهمنا الصبر على ما نعانيه في هذه الأيام.
أيها الأحباب: لا يزال الحصار مفروضًا على أهلنا في غزة، وأسرنا يعانون الأمرَّين، أنتم ترون بأم أعينكم كيف يعامَلون في هذه الأيام، وفي ظل البرد القارس الذي نعيشه الأيام. اللهم يسر أمورهم، واختم بالصالحات أعمالهم، اللهم خفف آلامهم يا رب العالمين، اللهم فك الحصار عن إخوتنا المحاصرين، وارحم أهلنا في بلاد الشام يا رب العالمين، من شر البرد، واكلأهم بعنايتك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها الأحباب: انظروا إلى أبناء الدنيا اليوم، فإذا نظر إلى أحدهم وجد خوف الرزق على قلبه كالجبال، كاد يموت من همه، وخوف الخَلْق، وخوف سقوط المنزلة من قلوبهم والفرح بمدحهم، والثناء عليهم، وحُبّ الرئاسة، وطلب العلو، والتبصبص للأغنياء، والاستحقار للفقراء، وتناول النعمة على أيدي الغفلة والأنفة من الفقر، والاستكبار في موضع الحق، والحقد على أخيه المسلم، والعداوة والبغضاء، كل ذلك نشاهده في هذه الأيام، فهذه أوساخ قد انضمت عليها طويات صدره، وظاهره صوم وصلاة وزهادة وعبادة، فإذا ما انكشف الغطاء بين يدي الله -تبارك وتعالى- عن هذه الأشياء ظهَر نَتْنُها، وأعرَض الناظرون عن النظر إليها من قُبحِها، ففيمَ هذا الفسادُ يا عبادَ اللهِ؟ أشكًّا في وعد ربكم؟ أم خوَرًا في أصل طبعكم؟ أم عجزًا عن دفع الباطل؟ ما كان إلا لسفه أحلامكم، وسوء نظركم في عاقبة أموركم، كيف بكم إذا انكشف الغطاء؟ وتجلَّى الجليل لفصل القضاء؟ يا مسكينُ كم تبكي وتصيح! دع المعاصي تستريح، كم هذا البكاء والانتحاب! قف في الدياجي على الباب.
أتدرون يا عبادَ الله ما هو علاج مشاكلنا في هذه الأيام؟ العلاج في قوله -تبارك وتعالى-: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرَّعْدِ: 28]، العلاج في قوله: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)[الْمَعَارِجِ: 19-25].
اللهم إنَّا نتوجَّه إليكَ من هذه الرحاب الطاهرة، أن ترضى عنا، يا كريم، اللهم ألهمنا ذِكرَك على كل حال، وذكر الموت في كل حين، اللهم إنا ضعفاء عن العمل بطاعتك، فارزقنا النشاط فيها، والقوة عليها بالنية الحسنة، التي لا تكون إلا بعزتك وتوفيقك، اللهم ثبتنا باليقين والبر والإحسان والتقوى، وذكر المقام بين يديك، والحياء منك، وارزقنا الخشوع فيما يرضيك عنا، والمحاسبة لأنفسنا، وإصلاح ساعاتنا، والحذر من الشبهات، اللهم ارزقنا التفكر والتدبر لما تتلوه ألسنتنا من كتابك، والفهم له، والمعرفة بمعانيه، والنظر في عجائبه، والعمل بذلك ما بقينا، إنك على كل شيء قدير، اللهم فأتمم علينا غامر إحسانك، وأوجِبْ لنا الخلود في دار أمانكَ.
عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].
التعليقات