نصائح الخطباء: احذرهم أن يكرهوك (1-3)

محمد علي فتح الله

2022-10-10 - 1444/03/14
التصنيفات: مقالات في الوعي

اقتباس

إن الخطيب إذا أحبه الناس تعاموا عن أخطائه ومثالبه؛ فيعدون إطالته الخطبة مع شح المعنى وضعف المبنى؛ حرصا منه عليهم، ويعدون تقصير خطبته وعدم استكمال الموضوع وغياب المقصود رأفة بهم...

في كل عمل خصلة؛ إن وجدت قضت عليه، وأفسدته، وإن غابت هان ما بعدها!، فالصلاة لغير القبلة -عمدا- مفسد لها؛ مهما كان خشوعها وحسنها!. كذلك خطبة الجمعة؛ إن كرهها الناس، وكرهوا خطيبهم؛ فقدت قيمتها!، ولم تحقق مرادها!.

 

التحدي الذي يواجه الخطيب يتمحور حول: "الاستماع المثمر" فالمصلون؛ بالتزامهم بآداب الجمعة؛ في حكم المستمع المنصت، لكن هذا لا يضمن أن يكون مثمرا، إن نجاح الخطبة؛ ليس مشروطا بما يتبعها من تحول في سلوك المصلين؛ فهذا مطلب آخر متعلق بالمصلين، لكن تحقيق الاستماع المثمر مهمة الخطبة الناجحة، وتلك مهمة الخطيب، إن نجح فيها؛ أدى ما عليه!. الخطبة الناجحة؛ ستكون الخطوة الأولى في قبول التوجيه، وتطبيقه عمليا. إن أخفقت الخطبة في تحقيق الاستماع المثمر؛ فالغالب أن تكون تبعات الأثر العملي؛ أبعد عن الحدوث.

 

الاستماع المثمر هو الإنصات الذي:

* يحضر فيه القلب.

* لا ينشغل بغيره العقل.

* تسكن فيه الجوارح.

* تركز فيه الحواس.

* يقدم فيه المستمع القبول المبدئي لما سيقال.

 

الخصائص الاربع الأولى واضحة لكن الخامسة: القبول المبدئي ربما لا ينتبه لها؛ مع أنها من أكثر ما يصرف الناس عن الاستفادة من الخطبة، ومفادها أن الخطيب يجب أن يكون له قدر من المصداقية والقبول لدى المصلين؛ حتى يمنحوه قبولا مبدئيا لما سيلقيه عليهم في خطبته، إذا كان المصلون يكرهون الخطيب، أو لا يثقون فيه، كأن يعتبروه من مذهب مخالف -كما هي حال خطباء الحوثة؛ عندما فروضوا على الناس لم يكن أحد يستمع لهم في حقيقة الأمر، ولولا الخوف وفضل الجمعة لخرج المصلون من المساجد، وهذا ما كان يحدث في كثير من الأحيان، وهناك درجات أقل حدة في الكراهة: كأن يكون الخطيب سلفيا يخطب في متصوفة عن بدعة المولد!- أو كان أقلا علما وشأنا منهم -كأن يكون الخطيب محدود العلم والمعرفة، ويخطب فيمن هم أعلم منه وأعلى شأنا، كأن يكون خطيبا في مسجد جامعة شرعية، كل المصلين فيها طلبة علماء وعلماء، وهو أقلهم شأنا وعلما-، أو كان المصلون كارهين له وهذا يحدث كثيرا إذا لم يقدم المصلون القبول المبدئي بما سيلقى عليهم؛ فإن ما يفعله الخطيب ليس أكثر من عبث وتضييع وقت! باستثناء إقامة الجمعة وفضلها وواجبها، لكن غاية ما ينتظره المصلون من الخطيب: ساعة نزوله من المنبر!

 

في بعض الأحيان يكون الخطيب مفوها، مقتدرا، جمع مقومات الأداء الخطابي الناجح، عندها قد يعتدل المصلون؛ ويتراجعوا عن موقفهم الابتدائي الرافض له ويمنحوه فرصة الاستماع المثمر.

 

الاستماع المثمر أمر عسير الاستدامة، لا يكاد يستمر لدقائق معدودات على قلة استدامته؛ فإنه شديد الحساسية؛ ينتفي لأدنى مؤثر، إن أهم المؤثرات في تحقيق الاستماع المثمر، أو نفيه يكمن في: حب المتحدث، أو بغضه، هذا هو العامل الحاسم؛ الذي تتضاءل دونه بقية المؤثرات الأخرى.

 

لقد جمع الله في الرسل كل مقومات الاستماع المثمر، وكان هذا الاستماع المثمر البلاغ المبين الذي أخذ الله عليهم -صلوات الله عليهم وسلامه-.

 

تاج هذه المؤثرات: الحب! إلى جوار الحجة البالغة، والبلاغ المبين، من اليسير تلمس معالم هذا الحب، في الكثير من الشواهد، التي وردت في ذكر: كيفية استماع الصحابة -رضوان الله عليهم- للنبي -صلى الله عليه وسلم-، كانت مشاعر المحبة تغمر كل موقف بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام في مجلسه وهم حوله متحلقين، أو في معسكره وهم دونه متترسين، أو فوق منبره وهم إليه بأبصارهم شاخصين، أو في ركوبه وهم حوله راجلين، أو مردفين، تلك المحبة؛ أسست للحجة، والبلاغ المبين رسوخا في العقول، وصنعت في القلب تعظيما، لا يدانيه تعظيم ملك، أو سلطان؛ كما في خبر زيد بن الدثنة -رضي الله عنه-: ..فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ، حِينَ قَدِمَ لِيُقْتَلَ: نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ يَا زَيْدُ، أَتُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا عِنْدَنَا الآنَ بِمَكَانِكَ، يُضْرَبُ عُنُقُهُ؛ وَأَنَّكَ فِي أَهْلِكَ؟، قَالَ: "وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنْ مُحَمَّدًا الآنَ فِي مَكَانِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ، تُصِيبُهُ شَوْكَةٌ تُؤْذِيهِ؛ وَأَنِّي جَالِسٌ فِي أَهْلِي"، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا رَأَيْتُ مِنَ النَّاسِ أَحَدًا يُحِبُّ أَحَدًا؛ كَحُبِّ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- مُحَمَّدًا، ثُمَّ قَتَلَهُ نِسْطَاسٌ.

 

وما روي من خبر عروة بن مسعود الثقفي في صلح الحديبية وفيه: ..ثُمَّ جَعَلَ عُرْوَةُ يَرْمُقُ صَحَابَةَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- نُخَامَةً؛ إِلا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمُوا خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، قَالَ: فَرَجَعَ عُرْوَةُ لأَصْحَابِهِ فَقَالَ: "أَيُّ قَوْمٍ وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ، وَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ؛ تَعْظِيمَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ؛  فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ، وَجِلْدَهُ، فَإِذَا أَمَرَهُمُ؛ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ؛ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمُوا؛ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ؛ تَعْظِيمًا لَهُ".

 

لقد أنعم الله على أنبيائه بمحبة الناس لهم، قال تعالى: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)[طه:39]، إن هذه المحبة التي حازها الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وسائر الرسل -عليهم السلام-؛ قامت على أركان واضحة تُجمل فيما يلي:

الحرص: الذي تكاد تهذب معه النفس، قال تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ)[التوبة:128].

 

الزهد والإيثار: ومن ذلك ما ورد في حديث: "مَا سُئِلَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى الْإِسْلَامِ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ، قَالَ: فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَأَعْطَاهُ غَنَمًا بَيْنَ جَبَلَيْنِ. فَرَجَعَ إِلَى قَوْمِهِ، فَقَالَ: يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا؛ فَإِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَاقَةَ".

 

التفاني في خدمة الناس؛ كما في حديث: "..إن كانت الوليدة من ولائد أهل المدينة لتجيء فتأخذ بيد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فما ينزع يده من يدها حتى تذهب به حيث شاءت".

 

وسئلت عائشة -رضي الله عنها-: هَلْ كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُصَلِّي وَهُوَ قَاعِدٌ قَالَتْ: "نَعَمْ؛ بَعْدَ مَا حَطَمَهُ النَّاسُ.." من شدة اجتهاده -صلى الله عليه وسلم- في خدمة أصحابه والناس عامة.

 

كمال الخلقة والخلق: قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[الْقَلَمِ:4]، وكان -صلى الله عليه وسلم- كامل الخلقة؛ طيب الريح، ندي الكف، جميل المحيا، حسن القسمات، رابع البدن. أجمل الناس، وأحلاهم، وأحسنهم خلقة ومظهرا ومنطقا وفعلا -صلى الله عليه وسلم-.

 

كمال البيان والبلاغ المبين، قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[المائدة:3]، وفي حجة الوداع شهد له الناس بإكمال الرسالة والبلاغ المبين كما في الحديث: "وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟"، قَالُوا: نَشْهَد:ُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقَالَ: بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ، وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ: "اللهُمَّ اشْهَدْ، اللهُمَّ اشْهَدْ".

 

السلامة من المنفرات والمفِضّات، قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)[آلِ عِمْرَانَ: 159].

 

على الدعاة أن يكتسبوا محبة الناس لهم، بدون أن يحبهم الناس لن تستقيم لهم دعوة، الدعاة مجردون من كل الوسائل، محرمون من كل المنابر، مطاردون في كل المجالات، يضيق عليهم في كل سبيل يسلكوه في هداية الأمة، ربما لم يعد في أيديهم غير منبر الجمعة وهم يُزَاحمون فيه، ويُحرَمون في كثير من الأحيان!. باكتساب محبة الناس لهم؛ لن يضرهم إعلان معاد، أو معادة محلية، أو دولية؛ فإن المحبة ستصنع لهم -في قلوب الناس- المنابر، وتفتح لهم الطرق، وسيتغاضى الناس عن الحملات المغرضة التي تشن عليهم.

 

المحبة تخفف عيوب الدعاة وسيئاتهم، وعجزهم المزمن، وفي والوقت نفسه تعظم جهودهم المحدودة، وعملهم الكليل، بدون المحبة لا دعوة تبلغ ولا صحوة ترجى!.

 

إن حيازة الخطيب لمحبة المصلين أمر عسير بعيد المنال في كثير من الأحيان، ذلك أن التواصل بين الخطيب والناس المصلين؛ يكون لدقائق معدودة، على فترات متباعدة نسبيا، من فوق المنبر لا يتاح فيها طويل وقت للتفاعل، وتبين المحاسن، ولا يتيسر خلالها التفاعل على المستوى الشخصي، الذي هو أساس الدعوة وقبولها.

 

على الخطيب أن يجتهد في تأمل حاله، وتحسين ما بينه وبين الله، واستكمال التوجيهات الشرعية في الحقوق العامة، وحقوق الناس؛ قبل حق الله والعبادة؛ لعله أن يحوز بطول صبر وجهاد محبة الناس له، وكل بحسب استطاعته، ذلك أن أساس الخطبة: الوعظ -سيـأتي في حلقة موضوع الخطبة أن موضوعها وعظي بالدرجة الأولى-؛ وأساس قبول الوعظ: القدوة، والتواصل عبر المنبر ليس محلا للقدوة.

 

إن الخطيب عندما يعتلى المنبر يكون في أبهى حلة، وأحسن موقف، وأفضل سمت، موقف على جلالته؛ لا يفصح الكثير من عن محاسن الخطيب وأخلاقه، وحقيقة سمته، لذلك يكون وعظه خطبته مجردا من المثال والقدوة! وهنا يكمن التحدي؛ أن تتلخص كل وسائل الخطيب في إقناع المصلين؛ في قدرته على إلقاء خطبة تستوعب كل مقومات الأداء المثالي.

 

هذا هو التحدي الحقيقي الذي يواجه الخطيب، كيف سيتقبل الناس وعظه لهم، ودعوته لهم بالصبر على الشدة؟؛ وهو في أبهى حلة، وأحسن حال (حال الخطبة)!.

 

أما إن كان الخطيب مخالطا للناس -جماعته الذي يأتمون به- قريبا منهم، مخالطا لهم فهو بين أمرين: إما أن تصدَّق خطبته فعله؛ فهنا يكون قد حاز المفتاح السحري لقلوب، وعقول المصلين؛ وإن كانت خطبته معيبة!. وإما أن تكون خطبته تكذَّب فعله وسمته؛ فهنا لا فائدة من خطبته، وعليه أن يعتزل المنبر، ويشتغل بإصلاح نفسه!.

 

قد يعجز الخطيب عن كسب محبة الناس، وقد تحول دون ذلك ظروف وأعذار، لكن على الخطيب ألا يكرهه الناس؛ فكثيرا ما يكره الناس إمامهم، ومؤذنهم، وخطيبهم! وإذا علم الخطيب أن الناس تكرهه؛ ولم يجتهد لإزالة أسباب الكره، أو لم يترك الخطابة فيهم؛ فقد تلبس بأمر مشين: تنفير الناس من العبادة، وتعطيل استفادتهم منها، وهذا من فتنة الدين التي حذر الله منها.

 

إن الخطيب إذا أحبه الناس تعاموا عن أخطائه ومثالبه؛ فيعدون إطالته الخطبة مع شح المعنى وضعف المبنى؛ حرصا منه عليهم، ويعدون تقصير خطبته وعدم استكمال الموضوع وغياب المقصود رأفة بهم، إن أغرب في القول، وأتى بما هو مستنكر شاذ؛ تأولوا له، وإن شطح وبالغ في الإغراب؛ أحسنوا الظن به. وإن تفاصح وتفيهق؛ قالوا: عليم فصيح، وإن ألحن وأعجم؛ قالوا متواضع يتخفى بعلمه، لا يحب كشف جهلنا!، وإن أتى بعجيب شاذ مفتعل؛ قالوا: يحب التجديد، وإن تأتأ؛ قالوا: ما أظرفه، وأعذب لسانه! وإن تعالى عليهم؛ قالوا: هكذا هيبة العلماء، وجلال العلم، وإن شدد عليهم، وبالغ في نكران الحاجة، والظرف؛ عدوه غيورا على الدين، وإن تفلت في الإباحة، مع انتفاء الحاجة، وتيسر الأمر؛ عدوه رحيما بالأمة، فقيه بالواقع.

 

أما إن كرهوه -فلأمه الويل-  فإن أطال الخطبة؛ لحاجة المقام ويسر الحال؛ قالوا: تعمد حبسنا وشغلنا!، وإن قصر خطبته لمطر، أو عارض موجب؛ قالوا: متعجل لخاصة أمره؛ لا يحسن أداء واجبه، إن استقصى الموضوع وجوده؛ عدوه تعالما، وإن حرص على الفصاحة والإعراب؛ قالوا: متشدق مغرور، وإن خالف ما هم عليه لأمر جلل؛ لا يحسن السكوت عنه؛ عدوه فظا غليظا جاهلا، وإن أدركته سعلة وحشرجة؛ قالوا انقطع بيانه وخانه عقله، إن سكن وتوقّر؛ قالوا: متكبر متعال، وإن تباسط وتساهل؛ قالوا: سفيه أحمق، إن أخذ بالعزيمة في موضعها؛ عدوه متشددا، وإن قدم الرخصة لحضور موجبها؛ ظنوه رقيق الدين، مهزوم من الواقع!.

 

وعين الرضا عن كل عيب كليلة *** ولكن عيب السخط تبدي المساوئ

 

وزارات الأوقاف والمؤسسات المعنية بتعيين الأئمة والخطباء، وتأهيليهم مسؤوليتها عظمى في هذا المجال. يجب على هذه المؤسسات أن: تراقب أداء الخطباء. وتتأكد من خلوهم من المعايب والمنفرات، وأن تعمل على استكمالهم للمحاسن والمقبلات، بالتدريب والتأهيل والمراقبة والمحاسبة أو الإقالة.

 

إن أعيت الحيلة في بعض الخطباء للأسف فإن جهود هذه المؤسسات لا تكاد تتجاوز التعاقد، واختبار بسيط قبل التكليف، وربما الاكتفاء بالسمعة، والتزكية في التعيين، بعدها تختزل العلاقة في استلام الراتب، أو في توجيه الخطبة؛ لا في زيادة إفادة الناس منها، فيزداد كره المصلين للخطباء، ولمن عينهم، ولمن وجههم، ويفقد الناس الفائدة والخير من إحدى النعائم، التي من الله بها على هذه الأمة: خطبة الجمعة.

 

قد يعذر الخطيب في عدم محبة الناس له؛ ولا يعذر في كرههم له؛ فبيده إزالة أسباب الكراهة له، وبيده تأكيدها واستفحالها، وعلى الخطيب -إن شعر- أن الناس تتجنب خطبته، وتذهب لغيره أن يستشعر ما هو عليه من سوء، ويفتش في حاله وأحواله، ويتعلم ويسأل من يثق في رأيه عن سبب كره الناس لخطبته، جاء في الحديث: "ثَلَاثَةٌ لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ آذَانَهُمْ: الْعَبْدُ الْآبِقُ حَتَّى يَرْجِعَ، وَامْرَأَةٌ بَاتَتْ وَزَوْجُهَا عَلَيْهَا سَاخِطٌ، وَإِمَامُ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ".

 

وقياس الخطيب بالأمر مع الأولى، فإن كره الخطيب أعظم ضررا من كره الإمام على عبادتهم.

 

وفيما يلي ثماني معايب على كل خطيب تجنبها قبل أن يصعد المنبر في الجمعة التالية، فإن عجز فليعتزل:

الأولى: الفرض والإكراه:

 

الأصل أن الإنسان ينفر مما يفرض عليه لمجرد الفرض! ويميل لما اختاره وإن لم يكن في مصلحته، ومن رحمة الله -عز وجل- بعباده أن رتب على طاعته عظيم أجر لا يكاد يقف عند حد، غير أن ما يرتبط بطبائع البشر يحتاج لأكثر من الأجر والثواب لركون الانفس إليه، وحسن الإفادة منه، ومن ذلك خطبة الجمعة.

 

الأصل أن يكون خطيب القوم منهم، وباختيارهم أو على الأقل لا يكون مفروضا عليهم؛ على كره منهم، غير أن الظروف قد تجعل من الخطيب -بغير قصد منه- مفروضا على الناس.

 

في الغالب يكون مجرد ترقب حيادي لا يحمل أي موقف ابتدائي من الخطيب، فيكون موقف المصلين من الخطيب حيادي أقرب إلى إحسان الظن بالخطيب في الابتداء، وبمرور الوقت وتكرار الخطب؛ إما أن يتصاعد رصيد الخطيب من المحبة والتقدير أو يتعاظم سخط الناس عليه، لكن بعض الخطباء يواجه تحديا ابتدائيا من الخطبة الأولى، كأن يكون بديلا مفروضا لخطيب محبوب من الناس؛ أقصي من الخطابة، أو أعاقه ظرف وعارض عن الخطابة في الناس، أو أن يكون الخطيب من مدرسة وبيئة ثقافية مغايرة تماما للبيئة الثقافية لعامة جماعة المسجد، وقد يكون لهذا الاختلاف بعدا اجتماعيا، أو حركي، أو فقهي. 

 

في مثل هذه الظروف سيواجه الخطيب تحديا حقيقيا؛ ورفضا ابتدائيا يحتم عليه اتخاذ العديد من الإجراءات والتدابير التي تذيب هذا الموقف الابتدائي، وتحوله -في الغالب- إلى ولاء قوي، وقبول استثنائي، وهذا ينطبق على عامة جماعة المسجد باستثناء "حرس الخطيب" -سيأتي ذكرهم في حلقة مستقلة-.

 

الفرض والإكراه الذي يقابله الرفض وعدم الاستجابة الإيجابية يكون على ثلاثة أوجه:

الأول: الفرض الشخصي:

وهو فرض خطيب لا تريده جماعة المسجد، يعتبر هذا أعلى درجات الإجبار لأن الموقف الابتدائي من الخطيب يكون في غاية السلبية ويتطلب منه جهودا كبيرة لتجاوز هذه الكراهية، وتحويلها إلى علاقة يسودها الألف والقبول أو الحياد على أقل تقدير. هناك جملة من الأمور التي تعين في مثل هذه الموقف؛ منها:

* التواصل مع جماعة المسجد: أن يجلس إليهم، وينادمهم، ويستمع إليهم. ويتفحص رغباتهم، وهمومهم.

 

* أن يسعى ما أمكنه في مصالحتهم: فقد يكون مسجده سعاني من الإهمال ونقص الخدمات، وقد يكون تعيينه سببا في ل الكثير من هذه الإشكالات

 

* ألا يبادرهم بما يكرهون في خطبته؛ فلا يتعمد نقاش المواضيع التي هي على خلاف ما هم عليه. وعليه أن يؤجل إصلاح هذه الأخطاء، أو تغيير هذه المفاهيم بعد أن يكون قد أزال ما بينه وبينهم من جفوه ونفرة أو توجس وريبة.

 

* أن يجتهد في التيسير عليهم في الخطبة: فيقصرها إلى الحد الأدنى، وينضبط في صالته وتلاوته ووقت صعوده المنبر ومدة خطبتيه؛ حتى يروا منه تقديرا لهم وحرصه على التيسير عليهم.

 

الثاني: الفرض الموضوعي:

ربما تتسامح جماعة المسجد مع الفرض الشخصي بعد فترة؛ فيتغير موقفها من التوجس والرفض إلى القبول والرضا، أما الفرض الموضوعي؛ فإنه غالبا لا يتغير، في كثير من الأحيان يعمد الخطيب إلى المبادرة إلى مواضع الخلاف مع الجماعة، ليس هذا فحسب بل يجعل مناقشة هذه الخلافات وتحريرها همه الأكبر، وموضوعه الأول الذي لا ينفك عنه.

 

إن بعض الخطباء تدفعهم "روحهم الصدامية" للاشتداد في الإنكار والإلحاح، أو فرض "موقفهم السياسي"، أو اختياره في مسألة؛ الذي ينتهي غالبا بإفساد قضيته الصحيحة؛ حتى وإن كانت عادلة.

 

إن من صور الفرض الموضوعي التي تستجلب كره الناس ونفورهم: الإلحاح على القضايا التي توافق فيها جماعة المسجد خطيبها؛ فما يفعله الكثير من الخطباء من تكرار الحديث عن حجاب المرأة وسترها بمناسبة تستدعي وبغير مناسبة، بل تصبح ديباجة ثابتة في كل خطبة مهما تغير موضوعها، هؤلاء يتجاهلون قاعدة نفسية مهمة: "الإلحاح يفسد القضايا الصحاح".

 

ومن أكثر صورة الفرض قبحا وشناعة وأذية للمصلين ما يعمد إليه الخطباء من تحويل الدعاء إلى نوع من الموقف من قضية معينة، وحدث معين أو شخوصا بعينهم. فيكون عامة دعائه توصيفا لما يريده، وتجريم لما يبغضه أو تزكية لما يريده، في حين لا تمثل اللهم في بداية هذه الديباجات أكثر من مقدمة لا قيمة لها، ولا شك أن هذا صورة من الاعتداء في الدعاء؛ فالدعاء يكون محايدا يوافق الحق بعمومه، بدون تشخيص، وتفصيل يخصه، خصوصا إن كان دافعه موقف خفي وراي مبيت. 

 

الثالث: الفرض الشكلي:

أهون أنواع الفرض والإكراه، غير أنه قد يكون بالغ الأثر فيدفع المصلين لتغيير المسجد، أو ترك الجمعة، هذا النوع يتعلق بالأمور الشكلية من توقيت الصعود على المنبر ومدة الخطبة، أو اتباع نمط ثابت غير مبرر في شكل الخطبة؛ مثل الإكثار والمبالغة من الشواهد الشعرية، أو الإصرار على خطبة الحاجة -لا دليل على أن ما يسمى بخطبة الحاجة أمر مندوب مطلوب في خطبة الجمعة، ويكفي البدء بحمد الله والثناء عليه- ويزداد الأثر السلبي لخطبة الحاجة عندما يكون موضوع الخطبة أقل فائدة وأكثر أخطاء وأقل شواهدا من موضوع خطبة الجمعة، والمداومة على الصيغ المطولة من خطبة الحاجة يولد في المستمعين سلوكا سلبيا تجاهها؛ إذ في الغالب ما يهمل الإنصات المثمر لها من عامة المصلين، وقد يكون أسلوب الخطيب يوحي بأنها مجرد بداية شكلية؛ فيسردها بأداء متعجل لا ترسل فيه ولا تعنٍّ، وعندما يبدأ موضوع خطبته يظهر كل ما يستطيع من المجملات والمحسنات، هذا خطأ فاحش فإن آيات الله -التي ترد في خطبة الحاجة- أولى بالاستماع والتأمل من كل ما سيقوله الخطيب، مهما كان موضوعه.

 

بعض الخطباء يفرض على الناس حديثا، أو موعظة بعد صلاة الجمعة، إن المداومة على هذا السلوك يولد لدى المصلين شعورا بشكلية خطبة الجمعة، وأن الموضوع الحقيقي إنما يكون بعد الصلاة، ويولد لدى عامة المصلين شعورا بأن للخطيب خاصة من المصلين يوليهم عنايته، وعامة لا قيمة لهم، والمداومة على هذا من غير حاجة بدعة غير مستحسنة.

 

وللكلام بقية.

التعليقات
زائر
22-06-2022

جزاك الله خيرا ما أحسن مقالتك وأكثرها افادة

 

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life