عناصر الخطبة
1/القصص القرآني من وسائل التربية 2/ما يجب اعتقاده في الأنبياء 3/جمع الله لداود بين النبوة والملك 4/مهنة داود وحكمه بين الناس 5/ملاحظات حول قصة حكم داود بين الخصمين 5/عبادة داود وما أنعم الله عليه 6/وفاته –عليه الصلاة والسلام-.اقتباس
إن نبي الله داود -عليه السلام- لم يُلهه ملكه وحكمه عن الإكثار من عبادة ربه -تبارك وتعالى-، فقد كانت روحُه المتألقة في سماء الطاعة تزداد رقيًا وصعوداً على أجنحة العبادة ومعارج الخلوة بربه, ولذلك كان ذا عبادة عظيمة، وتزلّف...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي خلق فسوى، وقدر فهدى، أحمده على نعمه الوفيرة، وآلائه الغزيرة، وأشهد أن لا إله إلا هو المعبود الحق في أرضه وسمائه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد أوليائه، وخيرة أصفيائه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران102], (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء1], (يَآ أَيَّهَا الَّذِينَ آَمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَ قُولُواْ قَولاً سَدِيداً * يُصلِحْ لَكُم أَعْمَالَكُم وَ يَغْفِرْ لِكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ مَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيمَاً)[الأحزاب70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-, وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: إن القرآن الكريم كتاب هداية وإرشاد، وتربية وتقويم، يقود الخلقَ إلى الخالق، ويحذرهم سبل المفاسد والبوائق, والمتدبرون له هم الذين يستفيدون من هدايته وعظاته، فتدبرُ القرآن غاية من غايات إنزاله، قال -تعالى-: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)[ص: 29].
إلا وإن من وسائل هداية القرآن: ذكرَ القصة عن الأفراد والجماعات والأمم، ومن ذلك: قصص الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- مع أقوامهم المسلمين والكافرين, وقد تميزت القصة القرآنية بأنها قصة حقيقية لا مكذوبة، وأنها واقعية لا متخيلة، وأن المذكور منها هو جانب العظة والعبرة؛ ولذلك نجد القصة القرآنية لا تتسم بالحشو والتفصيلات التي لا حاجة إليها.
وينبغي أن نعلم أن القصص عن الأمم الماضية قد امتدت إليها أيدي أهل الكتاب الآثمة وغيرهم فحرفتها زيادة ونقصانًا، بل أضافت فيها أشياء لا تليق بأهل الإيمان، ومن ذلك ما زادوه فيما يتعلق بالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، وهذا ما يسمى في علوم القرآن بالإسرائيليات والموضوعات، وهي الأكاذيب والأقاصيص التي طرأت على القصص القرآني, وقد تولى كِبرَ ذلك اليهودُ عليهم غضب الله، وقد تسلل بعضٌ من تلك الخرافات المنسوجة إلى بعض كتب التفسير والتاريخ.
والواجب علينا -معشر المسلمين- الاعتمادُ في القصة القرآنية على ما جاء في القرآن الكريم، وصحيح السنة، وأما التفصيلات الزائدة على ذلك فإن أهل العلم ينظرون فيها إلى ما وافق القرآن والسنة فيحكمون بقبوله، وإلا فحسب المسلمين كتابُ الله وسنة رسوله -عليه الصلاة والسلام-.
ويجب علينا كذلك أن نعتقد أن الأنبياء -عليهم السلام- معصومون من الدنايا ورذائل الأخلاق، وما يشين السلوكَ المستقيم، وعليه فكل حكاية أو قصة تخلُّ بمقام النبوة مما جاء عن بني إسرائيل وغيرهم يجب علينا ردُّها وتكذيبها.
أيها المسلمون: إن من القصص التي نُسجت حولها الأكاذيب، بل تغلغلت هذه الكذبات في عقول بعض الناس قصةَ نبي الله داود -عليه الصلاة والسلام- الذي أكرمه الله -تعالى- بكرامات متعددة.
وستناول في هذه الخطبة -بعون الله تعالى- قصة داود -عليه السلام- كما جاءت في القرآن وصحيح السنة، وننظر في تلك الأكاذيب الشنيعة التي نسبت إلى هذا النبي الكريم وهو بريء منها براءة الذئب من دم يوسف، وسنرجئ الدروس والعبر المستفادة من سيرة هذا النبي الكريم إلى خطبة قادمة إن شاء الله -تعالى-.
عباد الله: لقد كان نبي الله داود -عليه السلام- شابًا من بني إسرائيل، وحينما خرج طالوت ببني إسرائيل إلى مواجهة جالوت وجنوده خرج داود في جند طالوت، فثبت مع الثابتين وبقي من الفئة القليلة التي واجهت جالوت وجنده، فلما تواجه الجمعان والتقى الفريقان أعان الله -تعالى- داودَ -عليه السلام- على قتل جالوت بيده.
فلمعَ نجمُ داود في بني إسرائيل وعرفوا قدره، فملّكوه عليهم بعد طالوت، وآتاه الله النبوةَ بعد ذلك، فجمع الله له بين النبوة والملك وبين خير الدنيا والآخرة، وقد كان الملْك في بني إسرائيل في سبط، والنبوة في سبط آخر، فجمعهما الله -تعالى- لداود -عليه السلام-. قال -تعالى-: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ)[البقرة:251].
أيها الأحبة الفضلاء: عاش داود -عليه السلام- عفيفًا حريصًا على العزة في طعامه وصلاح أمر عيشه، فما كان يأكل إلا من عمل يده، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما أكل أحد طعامًا قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود -عليه السلام- كان يأكل من عمل يده"(رواه البخاري).
وقد كانت مهنته التي علّمها الله -تعالى- إياها مهنةً عسكرية تنفع الناس, وهي نسجُ الدروع وبيعها، وقد أحسن صناعتها وإتقانها بتعليم الله له، فكانت دروعه دقيقة وغير ثقيلة على لابسها، وإنما هي أخف محملاً وأتم وقاية، قال -تعالى-: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ)[الأنبياء:80]، وقال: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ)[سبأ:10] (أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[سبأ:11]. قال قتادة -رحمه الله-: "أول من صنع الدروع داود, وإنما كانت صفائح، فهو أول من سردها وحلّقها".
أيها المسلمون: حكمَ داود -عليه السلام- في بني إسرائيل وقضى بينهم في الخصومات، فكان الحاكم العادل والقاضي الفاصل، وقد ذكر الله -تعالى- في القرآن الكريم من قصص حكمه وقضائه قصتين:
القصة الأولى: في قوله -تعالى-: (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ * يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ)[ص: 21 - 26].
وفي هذه الآيات الكريمة بعض التنبيهات:
أولاً: يجب علينا أن نعتقد أن عصمة الأنبياء تقضي بعدم صحة ما ورد في بعض كتب التفسير والتاريخ من قصة المرأة مع داود -عليه السلام-؛ فإن ذلك المنسوب إليه معيبٌ في حق أدنى المؤمنين فضلاً عن الأنبياء والمرسلين.
ثانيًا: وأما قصة القائد المزعومة فإن أهل الإيمان والأخلاق العالية يتنزهون عن هذا الفعل الدنيء من النظر الحرام إلى المرأة، ثم تدبير حيلة التخلص من زوجها، وهي حيلة لقتل لبريء وتخلص من صاحب مساعد!، فإذا كان هذا لا يليق بهؤلاء فكيف بنبي أثنى الله -تعالى- عليه؟!.
ثالثًا: الخصومة التي حكتها الآيات خصومة حقيقية، وادعاء أنهما ملكان ليس عليه دليل، والأصل حمل الأشياء على حقيقتها حتى يقوم دليل صحيح ينفي الحقيقة.
رابعًا: ومثل ذلك يقال في معنى النعجة، فالمعنى الحقيقي لها معروف أنه في الغنم، وصرفه إلى المرأة معنى مجازي لم يقم عليه دليل، والقاعدة المطردة حمل الشيء على حقيقته حتى يقوم دليل على إرادة المجاز.
خامسًا: أن سبب فزع داود -عليه السلام- هو مجيئهما من غير الباب، فظن أنهما أرادا به سوء حينما تسورا المحراب -والله أعلم-.
سادسًا: القول بأن ذنب داود -عليه السلام- هو سماعه من الخصم الأول دون سماع الثاني غير صحيح؛ فإن هذا يطعن في عدل أي قاضٍ؛ فكيف بداود -عليه السلام- الذي أثنى الله عليه بالعدل وحسن القضاء.
سابعًا: لم يذكر الله -تعالى- ما هو ذنب داود -عليه السلام- الذي استغفر منه؛ لذلك لا داعي للخوض في الحدس والظنون للبحث عن ذلك، وتحميلِ الآيات ما لا تحتمل, والتوبة ليست مقصورة على التوبة من الذنب، بل التوبة قد تكون من البعد عن ذكر الله مدة من الزمن كما يقول الخارج من الخلاء: "غفرانك"، وقد تكون التوبة من التقصير في الطاعة، كما قيل: "حسنات الأبرار سيئات المقربين:, قال بعض المفسرين: "وهذا الذنب الذي صدر من داود -عليه السلام- لم يذكره اللّه؛ لعدم الحاجة إلى ذكره، فالتعرض له من باب التكلف، وإنما الفائدة ما قصه اللّه علينا من لطفه به وتوبته وإنابته، وأنه ارتفع محله، فكان بعد التوبة أحسن منه قبلها"(السعدي).
أيها المسلمون: والقصة الثانية في قوله -تعالى-: (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ)[الأنبياء:79].
تحكي هاتان الآياتان خبر حادثة عدَتْ فيها غنمُ أحد الخصمين في الليل على زرع الخصم الآخر فاحتكما إلى داود -عليه السلام-، فكان حكم داود أن تدفع الغنم إلى صاحب الزرع؛ لسبب اقتضى عنده ترجيح ذلك، ولعل السبب أن ثمن تلك الغنم يساوي ثمن ما أتلفت من الحرث، فكان ذلك حكمًا عادلاً في تعويض ما أتلف، وأما حكم سليمان -عليه السلام- فكان أن رأى أن تدفع الغنم لأصحاب الحرث مدة عام كامل كي ينتفعوا من ألبانها وأصوافها ونسلها ويدفع الحرث إلى أصحاب الغنم؛ ليقوموا بإصلاحه، فإذا كمل الحرث ورجع إلى حالته الأولى عاد إلى كل فريق مالُه، فرجع داود إلى حكم سليمان ابنه؛ لأنه أرفق بالخصمين، وإن كان قضاء داود صحيحًا؛ إذ الأصل في الغرم أن يكون تعويضًا ناجزاً؛ ولذلك أثنى الله عليهما فقال: (وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا).
عباد الله، وهناك قصة ثالثة في قضاء داود -عليه السلام- قريبة من القصة السابقة لم تذكر في القرآن، وإنما ثبتت في السنة، فقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينما امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك أنتِ، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود -عليهما السلام- فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: لا -يرحمك الله- هو ابنها، فقضى به للصغرى".
قال العلماء: يحتمل أن داود -عليه السلام- قضى به للكبرى؛ لشبه رآه فيها، أو أنه كان في شريعته الترجيح بالكبير، أو لكونه كان في يدها، وكان ذلك مرجحًا في شرعه, وأما سليمان فتوصل بطريق من الحيلة والملاطفة إلى معرفة باطن القضية، فأوهمهما أنه يريد قطعه؛ ليعرف من يشق عليها قطعُه فتكون هي أمَّه، فلما أرادت الكبرى قطعه عرف أنها ليست أمه،فلما قالت الصغرى ما قالت عرف أنها أمه، ولم يكن مراده أنه يقطعه حقيقة، وإنما أراد اختبار شفقتهما؛ لتتميز له الأم، فلما تميزت بما ذكرت عرفها، ولعله استقر الكبرى فأقرت بعد ذلك به للصغرى، فحكم للصغرى بالإقرار لا بمجرد الشفقة المذكورة.
وأما عن سبب نقض سليمان لحكم أبيه -عليهما السلام-، فقد قيل: إن داود لم يجزم، أو أن كلامه في القضية فتوى لا حكم، أو لعله كان في شرعهم نسخُ الحكم إذا رفعه الخصم إلى حاكم آخر يرى خلافه, -والله أعلم-.
أيها الأحبة الفضلاء: إن نبي الله داود -عليه السلام- لم يُلهه ملكه وحكمه عن الإكثار من عبادة ربه -تبارك وتعالى-، فقد كانت روحُه المتألقة في سماء الطاعة تزداد رقيًا وصعوداً على أجنحة العبادة ومعارج الخلوة بربه -سبحانه وتعالى-, ولذلك كان ذا عبادة عظيمة، وتزلّف كثير؛ ولهذا أثنى عليه الله -تعالى- بكثرة التوبة والرجوع إليه، فقال -تعالى-: (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ)[ص:17].
وأثنى عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحسن الصيام والصلاة، وأخبر أن خير الصلاة النافلة في الليل صلاتُه، وخير الصيام المستحب صيامه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه، وينام سدسه"(متفق عليه), وقال لعبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- الذي كان يديم الصيام: "فصم يومًا، وأفطر يومًا، وذلك صيام داود، وهو أفضل الصيام", قلت: إني أطيق أفضل منه يا رسول الله، قال: "لا أفضل من ذلك"(متفق عليه).
أيها المسلمون: لقد جمع الله لنبيه داود -عليه السلام- خيري الدنيا والدين، فقد أنعم عليه بنعم كثيرة، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا)[سبأ:10], وذكر ذلك أيضًا ابنه سليمان -عليه السلام- في معرض التحدث بالنعمة والشكر لله عليها، كما قال -تعالى-: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ)[النمل:15], فمن تلك النعم:
أولاً: القوة العلمية، قال -تعالى-: (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ)[البقرة:251]، وقال: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا)[النمل:15], وهذا العلم يشمل العلم بدين الله، والعلم بتدبير أمر الملك، والعلمَ بمنطق الطير، والعلم بمعرفة تسبيح الجبال معه، والعلم بصناعة الدروع الحصينة الخفيفة على حاملها، قال -تعالى-: (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ)[سبأ:10]، وقال: (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ)[ص:18], (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ)[ص:19].
ثانيًا: القوة البدنية، وتشمل هذه القوة: القدرةَ العظيمة على صناعة الدروع فكان الحديد في يده كالعجين يتصرف فيه كما يشاء، قال -تعالى-: (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ)[سبأ:10]، وتشمل كذلك: القوةَ العسكرية بقتله جالوت، والقوة على كثرة العبادة من صيام وصلاة وغيرها مع انشغاله بالملك.
ثالثًا: قوة الملك بتسخير الأسباب المادية والمعنوية؛ ليقوى ملكه من كثرة الجنود، وحسن السيرة، والعدل والفصل في الخصومات, قال -تعالى-: (وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ)[ص:20].
رابعاً: الإصابة في القول والفهم في القضاء، قال -تعالى-: (وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ)[ص:20].
خامسًا: المنزلة العالية عند الله -تعالى-، قال -تعالى-: (فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ)[ص:25].
سادسًا: البركة في الوقت وتيسير القراءة عليه، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "خُفف على داود -عليه السلام- القرآن، فكان يأمر بدوابه فتسرج، فيقرأ القرآن قبل أن تسرج دوابه"(رواه البخاري), والمراد بالقرآن هنا: التوراة أو الزبور، وقرآن كل نبي يطلق علي كتابه الذي أوحي إليه، وقيل: المراد بالقرآن: القراءة (فتح الباري).
سادسًا: حسن الصوت، فقد كان داود -عليه السلام- ذا صوت جميل، فكان إذا رجّع التسبيح والزبور بصوته الشجي رجّعت الجبال والطير مثل تسبيحه طربًا لصوته, قال -تعالى-: (وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ)[الأنبياء:79]، وقال: (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ)[ص:18], (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ)[ص:19].
وفي الصحيحين عن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي موسى: "لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة؛ لقد أُوتيت مزماراً من مزامير آل داود", قال العلماء: "المراد بالمزمار هنا الصوت الحسن، وأصله الآلة المعروفة وأطلق اسمها على الصوت للمشابهة، وآل داود هو داود نفسه، وآل فلان قد يطلق على نفسه؛ إذ لم يعرف من أقاربه أنه أُعطي من حسن الصوت ما أعطي"(فتح الباري).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
أيها المسلمون: لقد عاش نبي الله داود -عليه السلام- مائة سنة, كما جاء عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال: الحمد لله، فحمد الله بإذنه فقال له ربه: يرحمك الله يا آدم! اذهب إلى أولئك الملائكة إلى ملأ منهم جلوس فقل: السلام عليكم، قالوا: وعليك السلام ورحمة الله، ثم رجع إلى ربه فقال: إن هذه تحيتك وتحية بنيك بينهم، فقال الله له ويداه مقبوضتان: اختر أيهما شئت، قال: اخترت يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين مباركة، ثم بسطها فإذا فيها آدم وذريته فقال: أي رب! ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك، فإذا كل إنسان مكتوب عمره بين عينيه، فإذا فيهم رجل أضوؤهم أو من أضوئهم قال: يا رب، من هذا؟ قال: هذا ابنك داود، وقد كتبتُ له عمر أربعين سنة، قال: يا رب، زد في عمره قال: ذاك الذي كتبت له قال: أي رب، فإني قد جعلت له من عمري ستين سنة قال: أنت وذاك"(رواه الترمذي وأحمد والحاكم والبيهقي وابن حبان).
وقد كانت قصة موته كما جاء عند الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "كان داود النبي فيه غيرة شديدة، وكان إذا خرج أُغلقت الأبواب فلم يدخل على أهله أحد، حتى يرجع، قال: فخرج ذات يوم وغلّقت الدار، فأقبلت امرأته تطلع إلى الدار فإذا رجل قائم وسط الدار فقالت لمن في البيت: من أين دخل هذا الرجل الدارَ والدارُ مغلقة؟! والله لتفتضحن بداود، فجاء داود فإذا الرجل قائم وسط الدار فقال له داود: من أنت؟ قال: أنا الذي لا أهاب الملوك، ولا يمتنع مني شيء، فقال داود: أنت -والله- ملك الموت، فمرحبًا بأمر الله فقبضت روحه في مكانه"(رواه أحمد، قال ابن كثير: وإسناده جيد قوي).
هذا وصلوا وسلموا على المبعوث رحمة للعالمين, إمام المتقين, وقائد الغرِّ المحجلين وعلى ألهِ وصحابته أجمعين.
التعليقات