عناصر الخطبة
1/حقيقة الدنيا كما صورها القرآن 2/موعظة الحسن البصري لعمر بن عبدالعزيز 3/تحذير النبي من فتنة الدنيا.اقتباس
ولقد عُرِضت على نبيّنا بمفاتيحها وخزائنها لا يَنْقصْها عند الله جناح بعوضة، فأبى أن يقْبلها؛ كُرْه أن يُحبّ ما أبغض خالقه، أو يرفع ما وضع مليكه، فزواها عن الصالحين اختياراً، وبسطَها لأعدائه اغتراراً، فيظنّ المغرورُ بها المقتدرُ عليها أنه أُكْرم بها...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحَمْدُ للهِ تَفَرَّدَ بِالْعِزَّةِ وَالْمُلْكِ والْجَلَالِ، وَأَشْهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الْكَبِيرُ المُتَعَالُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، حذرنا من الدنيا وغوائلها وكان من دعائه: "اللهم اجعل رزق آل محمد كفافا", صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيهِ, وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ خَيرِ صَحْبٍ وآلٍ، والتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: قال -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
عباد الله: بيّن الله -تعالى- لنا حَقِيقَةَ الدُّنْيَا، وَهُوَ -سُبْحَانَهُ- خالقُها العالمُ الخبير بها, قال -تعالى-: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[الحديد: 20].
من أخطر فتن هذا الزمان أن يجعلَ المسلمُ الدنيا أكبر همِّه، ومبلغَ علمه، وغايةَ وجوده، يقول -جل وعلا- مُتوعِّدًا من هذا حاله: (وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ)[إبراهيم: 2، 3] [إبراهيم: 2، 3]، وقال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[يونس: 7، 8].
ومن ذلك أخذ السلف أكبر عبرة وأعظم موعظة, ذكر ابن أبي الدنيا أن الحسن البصري كتب إلى عمر بن عبدالعزيز: "أما بعد: فإن الدنيا دار ظعَنٍ، ليست بدار إقامة، إنما أُنزل إليها آدم -عليه السلام- عقوبة، فاحذرها -يا أمير المؤمنين-؛ فإن الزاد منها تركها، والغنى فيها فقرها، لها في كل حين قتيل، تُذِلُّ من أعزها، وتُفقر من جَمعها، هي كالسم يأكله من لا يعرفه، وهو حتفه، فكن فيها كالمداوي جراحَه، يحتمي قليلاً مخافة ما يكره طويلا، ويصبر على شدة الدواء مخافة طول البلاء، فاحذر هذه الدار الغرّارة الخدّاعة الخيّالة، التي قد تزينت بخدَعِها، وفَتَنت بغرورها، وختَلت بآمالها، وتشوّفت لخطابها؛ فأصبحت كالعروس المجلوّة، فالعيون إليها ناظرة، والقلوب عليها والهة، والنفوس لها عاشقة، وهي لأزواجها كلّهم قاتلة، فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته؛ فاغتر وطغى ونسي المعاد، فَشُغل بها لبُّه حتى زلَّت عنها قدَمُه، فعظُمت عليها ندامته، وكثرت حسرته، واجتمعت عليه سكراتُ الموت وألمه، وحسرات الفوت، وعاشقٌ لم ينل منها بغيَتَه؛ فعاش بغُصّته، وذهب بكمده, ولم يُدرِك منها ما طلب، ولم تسترح نفسه من التعب, فخرج بغير زاد، وقدم على غير مهاد، فكن أسرّ ما تكون فيها أحذرَ ما تكون لها؛ فإن صاحب الدنيا كلّما اطمأنّ منها إلى سرور أشخصتْه إلى مكروه، وصِلِ الرّخاء منها بالبلاء، واجْعل البقاء فيها إلى فناء، سرورُها مشوبٌ بالحزن، أمانِيها كاذبة، وآمالها باطلة، وصفْوُها كدر، وعيْشها نكد، فلو كان ربنا لم يخبر عنها خبراً، ولم يضرب لها مثلاً؛ لكانت قد أيْقظَت النائم، ونبّهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله فيها واعظٌ وعنها زاجرٌ؟! فمالها عند الله قدْر ولا وزْن، ولا نظَر إليها منذ خلقها، ولقد عُرِضت على نبيّنا بمفاتيحها وخزائنها لا يَنْقصْها عند الله جناح بعوضة، فأبى أن يقْبلها؛ كُرْه أن يُحبّ ما أبغض خالقه، أو يرفع ما وضع مليكه، فزواها عن الصالحين اختياراً، وبسطَها لأعدائه اغتراراً، فيظنّ المغرورُ بها المقتدرُ عليها أنه أُكْرم بها, ونسي ما صنع الله -عز وجل- برسوله -صلى الله عليه وسلّم- حين شدّ الحجر على بطنه" إ هـ.
قالَ ابنُ القَيِّمِ: "وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنَ التَّزْهِيدِ فِي الدُّنْيَا، وَالْإِخْبَارِ بِخِسَّتِهَا، وَقِلَّتِهَا وَانْقِطَاعِهَا، وَسُرْعَةِ فَنَائِهَا".
خَيرُ الكَلَامِ -أَيُّهَا الْمُؤمِنُونَ- كَلَامُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات: 37 - 41].
أقول ما سمعتم, وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدي ولوالديكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على نبيه, وعلى آله وصحبه ومن تبعه, وبعد:
أيُّهَا المُسْلِمُونَ: أَخْبَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ الدُّنْيَا لَوْ سَاوَتْ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ؛ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ، وَأَخْبَرَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهَا سِجْنُ المُؤمِنِ وَجَنَّةُ الكَافِرِ.
وَأَمَرَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- العَبْدَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا كَأَنَّهُ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ، وكان من دعائه -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا, ولا مبلغ علمنا, ولا إلى النار مصيرنا"، وَأَخْبَرَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ يَتْبَعُ المَيِّتَ أَهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أَهْلُهُ وَمَالُهُ، وَيَبْقَى عَمَلُهُ.
فالكيّس من فهم الدنيا قبل رحيله, وتزوّد منها لمنزله بعد موته, وأحسن الطلب، قالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "لَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ، أَوْ مَوْضِعُ قَدَمٍ مِنَ الجَنَّةِ، خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا".
اللهم صلّ وسلّم وبارك على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه والتابعين.
التعليقات