اقتباس
فالسعي إلى التجرد من موجبات الوهم المضللة للوعي وإدراك الحقائق على وجهها أمر مندوب في العقول السليمة ، فالمرء يمدح على اتزان رؤيته وتصوره لما يجري حوله تصورا يقارب الحقيقة أو يطابقها ، والأمر يزداد أهمية في سياق من تصدى للإصلاح والتأثير في أي منبر من المنابر ، فيتعين عليه أن يرتقي بوعيه في أول درجة من دراجات معالجة ما يعرض للناس من نوازل وحوادث...
تقديم:
يتشكل الوعي في أبسط معانيه وأظهرها بأنه إدراك الحقائق على وجهها ، فمتى حقق الإنسان هذا الهدف فقد بلغ مرتبة عليا من الوعي والبصير بهذا الحق المُدرَك ، وبذْل الجهد في إدراك الحقائق على ما هي عليه أمر محمود في الشريعة بل مأمور به ، فالله سبحانه هو الحق ويقضي بالحق ولا يقول إلا الحق وهو – سبحانه – يخلق بالحق ووعده حق وأرسل رسله بالهدى ودين الحق ، فهذا الدين إنما هو حقائق من عند الله أرسلها لرسوله – صلى الله عليه وسلم – وندب خلقه إلى إدراكها على وجهها قدر المستطاع ، وثمة أسباب تدخل على الباحث عن الحق فتعيقه عن الوصول إلى الإدراك المطلوب الذي جاء في الشريعة ، وقدر منها مقصود لدى الإنسان ، وهذا يظهر عند ذوي الأهواء والنزعات والشهوات الجانحة عن إدراك الحقيقة بدافع من نزغات شيطانية أو نفس أمارة بالسوء وقدر آخر من الأسباب ليس مقصوداً من الجانح نفسه ، بل تدخل عليها بعضها في حال لاشعوري فتعيقه عن الوصول إلى المقصود ، وهذه الأسباب قد بحثها الشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني(1) –رحمه الله– ببحث موسع محكم ، وسنحاول في سياق هذه المقالات استعراض شيء منها مع تصرف يسير على وجه من التخليص والتعليق .
السبب الأول: الوهم الناشئ عن اضطراب نفسي أو عدم اتزان فكري.
يتخلف الباحث عن إدراك الحقائق والوعي بها على وجهها بموجب وهم يصرفه عن مطلوبه ، وهذا الوهم ينشأ من اضطراب نفسي كحال من الغضب أو الانفعال أو الخوف أو الطمع أوحالة من أحوال النفس ، وهذه الحال تجعله لا يتصور الأمر على ما هو عليه فيكون وعيه له منقوصاً ، وينسحب هذا النقص لما قدمه من حلول ومعالجات قد بنيت على هذا الوعي الناقص .
أو تكون جهة الخلل في إدراك الأمر على وجهه قد أتى من عدم اتزان فكري لخلل عقلي في التصور والإدراك ، وقد يكون هذا الخلل عارضاً أو دائما ، مما يجعله غير مؤهل لمعالجة الأمور النازلة التي تحتاج إلى نوع عال من الإدراك السليم الخالي من الوهم .
والوهم مؤثر كبير على الوعي بالحقائق على وجهها ، يقول الميداني – رحمه الله – : ((وبالتوهم يصغر الكبير ، ويعظم الصغير ، وتحذف من الحقيقة عناصر ، ويضاف إلى الحقيقة عناصر أخرى ... ثم يقول : ويع الناس في كثير من الأغاليط والأخطاء العلمية بسبب وهم سيطر عليهم ، وهذا الوهم قد جلبته حركة نفسية من حركات النفوس ، التي تحدث اضطراباً في بعض وظائفها ، فيفقد الفكر توازنه ، فتزيغ البصيرة عن الرؤية الصحيحة)).
وقد يندفع بعض من يتصدى للإصلاح والتغيير عند مواجهة بعض النوازل بحال من الانفعال على جهة الغضب أو الحمية أو العاطفة ، فيهم في إدراك الأمر على ما هو عليه ، فيقع في جانب من المبالغة والتهويل التي تفقد الأمر مصداقيته ، ويزداد الأمر سوء عندما تكون معالجة النازلة قد بنيت على ذاك الوعي المنقوص فتكون سبباً في تفاقمها وزيادة فروعها ، وعلى النقيض الآخر ينشأ الوعي الناقص بسبب وهم يدخل على الباحث من جهة خوف من رقيب أو طمع في حصول جاه ومكانة ، فيقع في جانب من التبسيط والتهميش الذي يفقد الموضوع حقيقته وقدره ، مما يجعل الأمر يزداد سوء بموجب هذا الوعي والإدراك المغلوط .
يقول الميداني : ((والمندفعون بشهوة الحكم والسلطان يفقدون توازنهم ، وتزيغ بصائرهم وأبصارهم ، فيعشون أو يعمون عن إدراك الحقيقة ، والمندفعون بشهوة جمع المال يفقدون توازنهم ، وتزيغ بصائرهم وأبصارهم ، فيعشون أو يعمون عن إدراك الحقيقة ، وكذلك كل من تضطرب وظائف أجهزته النفسية ، بانفعال أو شهوة أو هوى ، أو أي دافع من دوافع النفس ، أو أي عرض من أعراضها ، أو أي مرض من أمراضها ، كالحسد والحقد والعداوة والبغضاء وغير ذلك)).
فالسعي إلى التجرد من موجبات الوهم المضللة للوعي وإدراك الحقائق على وجهها أمر مندوب في العقول السليمة ، فالمرء يمدح على اتزان رؤيته وتصوره لما يجري حوله تصورا يقارب الحقيقة أو يطابقها ، والأمر يزداد أهمية في سياق من تصدى للإصلاح والتأثير في أي منبر من المنابر ، فيتعين عليه أن يرتقي بوعيه في أول درجة من دراجات معالجة ما يعرض للناس من نوازل وحوادث ، فيسعى إلى تجريد النفس من عوارض تعيق الوعي السليم في إدراك الحقائق ، بأن يكون أكثر اتزناً وهدوءاً وبعداً عن موجبات الانفعال ، لكي يسلم له تركيب رؤية متكاملة تقدم للناس الحلول البدائل على وجه من الدقة والواقعية البعيدة عن طرفي التهويل والتخدير .
التعليقات