اقتباس
ومن عبقرية الإسلام: أن تكون الخطبة فيه يوم الجمعة واجبة وجوب الصلاة، وهي من أهم وسائل الإعلام، وذلك منذ أربعة عشر قرنًا، حين لم يكن للإعلاميَّات وجود ولا نظام، إضافةً إلى خُطْبة العيد وخُطْبة يوم عرفة، اللَّتَيْن يتَّسع فيهما المجال ويكثُر عدد المخاطبين من جماهير المسلمين، الذين يأتُون من كل فجّ عميق، ولا سيَّما في عرفة؛ لِيشهدوا منافع لهم، وهم ما بين آسيوي وأفريقي وأوروبي وغيرهم، وبالتعبير الإسلامي: ما بين عربي وعجمي؛ أي: ما بين أبيض وأسود، وأحمر وأصفر.
الخطبة - خطبة الجمعة - من شعائر الإسلام التي تدل على عبقرية هذا الدين، بمعنى النظام الذي اختاره الله لعباده لكي يَسْعدوا في الدنيا والآخرة، وهي عامل من عوامل التجديد؛ إذ تُواكب متغيّرات الحياة أسبوعًا بأسبوع؛ فتتَّخذ منها المواقف التي تطلبها المصلحة العامة المرتبطة بفلسفة هذا النظام الإلهي، الذي لا يحقق مصالح العباد غيره؛ لأنه عرفها على الحقيقة، فعالجها بما هو أنفع لها؛ (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) [الملك: 14]؟! ومن ثَمَّ كان تعريف علمائنا للدين بأنه: "وضعٌ إلهيٌّ سائقٌ لذوي العقول باختيارهم المحمود، إلى ما خير لهم بالذات"، وبعبارة: هي وسيلة التوجية الدائم للمجتمع، الضامِن لعدم انحرافه عن الجادَّة، والكفيل بردِّه إليها كلما زاغ عنها، متمثلاً في ذلك قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "تركتُكم على المحجَّة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك".
إننا بحكم الرقابة الخُلُقيَّة على المجتمع الإنساني، التي أناطها بنا القرآن في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [البقرة: 143]، يجب أن نسهر على التوعية الداخلية، التي تجعلها تستقيم على الصراط، علمًا بأننا أصحاب الدعوة وأمة الإجابة، وعلينا التَّوعية الخارجية لسائر البشر، ولو بإعطاء القدوة والمثال مع الأمم المدعوَّة، قيامًا بواجب التبليغ والنصح للخاص والعام.
وبمقتضى ذلك؛ علينا أن يكون لنا إعلامٌ منتظمٌ، حاضرٌ لا يغيب، يقظٌ لا يغفَل، امتثالاً لقول الرسول - عليه الصلاة والسلام -: "بلِّغوا عني ولو آية"، وهو من جوامع كَلِمِه التي سايرت ولخَّصت الآية الكريمة: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) [آل عمران: 104]، فمِمَّا لا ريب فيه أن أي آية نبلِّغها عنه فيها خيرٌ للجميع أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، وفي ذلك هدى للناس.
ومن عبقرية الإسلام: أن تكون الخطبة فيه يوم الجمعة واجبة وجوب الصلاة، وهي من أهم وسائل الإعلام، وذلك منذ أربعة عشر قرنًا، حين لم يكن للإعلاميَّات وجود ولا نظام، إضافةً إلى خُطْبة العيد وخُطْبة يوم عرفة، اللَّتَيْن يتَّسع فيهما المجال ويكثُر عدد المخاطبين من جماهير المسلمين، الذين يأتُون من كل فجّ عميق، ولا سيَّما في عرفة؛ لِيشهدوا منافع لهم، وهم ما بين آسيوي وأفريقي وأوروبي وغيرهم، وبالتعبير الإسلامي: ما بين عربي وعجمي؛ أي: ما بين أبيض وأسود، وأحمر وأصفر.
ويتحتَّم السَّعي للجمعة من مسافة، وما يُقاربه من المسجد الجامع، وهو تشريع ينبئ عمَّا يعطيه الشارع من أهمية لهذه الصلاة لانفرادها بهذه المَيْزة، وهي اقترانها بالخطبة التي تقصر الصلاة من أجلها وتصير ثنائية وهي رباعية؛ لأنها ظهر، فتقوم الخطبة مقام الركعتين المتروكتَيْن، ناهيكم عن وجوب الإنصات للخطيب وعدم الالتفات لغيره، ولو بتنبيه نائم أو إسكات متكلِّم.
أمَّا صلاة العيد؛ فالمطلوب أن تكون في العراء، لاستيعاب أكبر عدد ممكن من المصلين الذين لا يسعهم المسجد مهما كبر، ومثلها صلاة يوم عرفة؛ بل هي أوسع مكانًا وأكثر مُسْتَمَعًا، وكل ذلك من أجل التواصل، وسماع الخطبة التي تستقطب أكبر عدد من الناس، وتتناول شتى الموضوعات.
ولمَّا كانت خطبة الجمعة بهذه المثابة الإعلامية الكبيرة؛ فإننا ننظر في جوهرها عند تأسيسها من طرف الرسول - صلى الله عليه وسلم - فنجدها تتطرَّق لجميع مناحي الحياة؛ من دينية وسياسية وحربية، فضلاً عن الشؤون الاجتماعية العامة، وليستْ قاصرة على الجانب الديني فقط كما يعتقد بعض الناس، ضرورةَ أنَّ الإسلام جاء بما يصلح الدين والدنيا والمَعاش والمعاد، وقد دأب الخلفاء الراشدون بعده - صلى الله عليه وسلم - على سلوك هذا النَّهج، فكُلَّما حَزَبَ المسلمين حادقٌ أو نزل بهم مكروه - جعلوه موضوع خطبة الجمعة؛ لاتخاذ الموقف اللازم، وإلقاء الضوء على ما يجب عمله بصدده؛ بل إذا ضاق الوقت وبَعُدَ موعد الجمعة نادوا: "الصلاة جامعة"، ظهرًا أو عصرًا أو غيرها، وطرحوا موضوع الساعة - بالتعبير العصري - للنظر فيه ومبادرته بما يتعيَّن.
وبذلك يُعْلَم أن خطبة الجمعة يجب أن تواكب الأحداث، وتجعل من متغيرات العصر موضوعًا تعالجه بالحكمة والموعظة الحسنة، وبما وضعه الإسلام للمشاكل الطارئة من حلول وأحكام، عملاً بما قاله الخليفة الصالح عمر بن عبدالعزيز: "تُحْدِث للناس أَقْضِيَة بقدر ما أحدثوا من الفجور".
والخطبة في الأساس تعليم كما هي إعلام؛ فقد قطع النبي - صلى الله عليه وسلم - خطبته استجابةً لمَنْ قال: علِّمني يا رسول الله؛ ففي "صحيح مسلم": أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب؛ فقال: رجلٌ غريبٌ يسأل عن دينه ما هو؟ فأقبل عليه الرسول وترك خطبته حتى انتهى إليه، فأتى بكرسيٍّ فقعد عليه، وجعل يعلِّمه مما علَّمه الله، ثم أتى خطبته فأتمَّها.
والخطبة نظرٌ في مصالح الناس الراهنة؛ ففي "البخاري"، عن أنس - رضي الله عنه - أصابت الناس سِنَةٌ على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فبينما هو يخطب في يوم الجمعة، قام أعرابي فقال: يا رسول الله، هلك المال وجاع العيال؛ فادعُ اللهَ لنا؛ فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة، فوالذي نفسي بيده، ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل حتى رأيت المطر ينحدر على لحيته!!
والخطبة - إلى هذا وغيره - وعظٌ وتذكيرٌ وإرشادٌ، ومن خطبه - صلى الله عليه وسلم - في هذا الصدد؛ قوله: "أيها الناس، إنَّ لكم معالمَ؛ فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهايةً؛ فانتهوا إلى نهايتكم، وإن المؤمن بين مخافتَيْن: أجل قد مضى، لا يدري ما الله قاضٍ فيه، وبين أجلٍ قد بقي، لا يدري ما الله صانع فيه، فليأخذ المرء نفسه لنفسه، ومن دنياه لآخرته، ومن الشبيبة قبل الكِبَر، ومن الحياة قبل الموت؛ فإن الدنيا خُلِقَت لكم وأنتم خُلِقْتُم للآخرة، والذي نفس محمد بيده، ما بعد الموت من مستعتب، ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار".
هذه نماذج من خطبة الجمعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - نتلمَّح منها شيئين مهمَّيْن جدًّا:
أولهما: الاختصار الذي يهجم على المقصود بالذات، من غير أن يطوِّقه بمقدمات عمومية، تعجيلاً للفائدة المتوخَّاة من الخطبة.
وثانيهما: اللغة الواضحة المبينة عن الغرض الذي ينبغي أن يفهمه السامع بسهولة تامة، ولا يضيع بين الغرابة والتعقيد.
فأما الاختصار؛ فهو من سُنَن خطبة الجمعة المنصوص عليها، ويرشد إليه كَوْن الخطبة بدلاً من الركعتين الثالثة والرابعة من صلاة الظهر الرباعية - كما ألمعنا إلى ذلك آنفًا - أي إنها بقدر نصف الصلاة، ولكن بعضهم يُخِلُّ بذلك ويَجعلُها طويلةً مملةً، ويوجِز في الصلاة إيجازًا ممعنًا، في حين أن المطلوب فيها التطويل، ويعدُّ ذلك من مَئِنَّة فقه الإمام، ولا يعني هذا إطالةً مُمِلةً أيضًا؛ بل ما لا يكون أقل من الخطبة، لا سيَّما والقراءة فيها جهريَّة، فهي وعظ يُضاف إلى الخطبة، وأعمال من قيام وركوع وسجود وتشهد، فبهذه النسبة يكون التطويل.
وقد جاء في تقصير الخطبة أحاديث عنه - صلى الله عليه وسلم - منها ما رواه أبو داود في "سننه" عن جابر بن سَمُرَة - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يطيل الموعظة يوم الجمعة، إنما هي كلمات يسيرة".
وأما اللغة؛ فهي لغة إعلامية يفهمها الجميع، خالية من كل تعقُّد وتكلُّف، أقرب ما تكون إلى لغة الصحافة الإعلامية المنطوقة والمكتوبة والمرئية، مما دَرَجَ عليه الخطباء في الأزمنة المتعاقبة، حتى إذا جاء بعض الخطباء الذين ارتكبوا أساليب الكتابة الفنية المُثْقَلة بصناعة البديع، والأسجاع الشبيهة بقوافي الشعر، التي تضطرُّهم - أحيانًا - إلى استِعْمال الغريب من مَتْنِ اللُّغة، والإمعان في التظاهر بالفصاحة التي تنقلب إلى ضدِّها فتصير ركاكةً مَمزوجةً، وقد سلك هذا النهج في المشرق ابْنُ نباتة، وفي المغرب ابن مرزوق، وكلاهُما من الخطباء المشهورين، واتبعهما خطباء ليسوا على مستواهما من البلاغة والمقدرة العلمية، فهبطت الخطبة إلى الدَّرك الأسفل، وأصبح المؤمنون يكادون لا يفقهون منها شيئًا، ما عدا الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وبعض كلام السلف مما يأتي شاهدًا ودليلاً على المطلوب، ويكون أكثر الخطباءِ نَجاحًا مَنْ يُكثر من الآيات والأحاديث التي تنفُذ إلى القلوب؛ لسهولتها ويُسرها، وقرب لغتها من السَّلِيقَة التي يحتفظ العموم بحظٍّ وافرٍ منها، وأما مَنْ يُجهد نفسه ويركب رأسه، فيجعل الخطبة مما يُتبارى فيه، لإظهار ملكته البلاغية ومقدرته الكلامية؛ فهو أفْشَلُ خطيب، يبتعد من الناس بقدر ابتعاده عن كتاب الله تعالى وسنَّة نبيه - صلى الله عليه وسلم.
ونَحمد الله أنَّ الوِجْهة تغيَّرتْ في السنين الأخيرة بموجب الصحوة التي شملت العالم الإسلامي، فعادَتِ الخُطبة إلى سويَّتها المعهودة وسُنَّتها المحمودة، فاخْتَفى منها التسجيع وكل المحسنات البديعيَّة التي أساءتْ إليها أزمانًا غير قصيرة، وظهرتْ دواوينُ ومَجموعات للخُطَب بأسلوبِ التَّرسيل المعتاد، وتَحتوي موضوعات منوَّعة مِمَّا كان يطرقه الخطباء سابقًا، وما يلائم الظروف وما جَدَّ وحدث في مُجتمعاتنا وحياتنا العامَّة، ولم يكن له وجود من قبل، وهو إصلاح ضروري لم يكن منه بُدٌّ في العصر الحديث، وقد فرض نفسه وأخذ به الكثير من الخطباء، وتعمل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية به، فتُحَرّر خطبًا على نَهْجِه في بعض المناسبات، وتوزّعها على خُطباء المساجد التابعة لها؛ لتدريب القائمين بالخطبة الدينية، وتشجيعهم على مبدأ مواكبة الخطبة للأحوال الطارئة الذي أشرنا إليها سابقًا.
غير أنَّ بعضهم - هداه الله - ابتدع بدعةً لم تكن من المعروف في الخطبة، وهي تخليلها بألفاظ عاميَّة، حين عجزوا عن الاقتراب من العامَّة عن فهمه من النصوص الواردة في الخطبة، وقد قدَّمنا أن السَّلِيقَة العربية، وما بقي منها مترسِّبًا في عقول الناس بسبب قراءة القرآن وسماعه، والسنة النبوية وتداولها، كان يجعهلم يُلِمُّون بموضوع الخطبة ويفهمون مغزاها، وما ينغلق عليهم ولا يدركون مراميه: هو القَدْر الإنشائي في الخطبة، الذي تقصر عنه أفهامهم، ولا يخرجون من بطائل.
فهؤلاء الخطباء المتمسِّكون بالعاميَّة أقل ما ينتج عن عملهم إبعادُ الناس عن العربية، وإطفاء هذا البصيص من السَّلِيقَة الباقية عندهم، لا سيَّما وفي اللغة العربية أساليب وتراكيب بسيطة سهلة، يُمْكِنُهم بِها تفسير ما يَعْسُر عليهم إدراكه، وتقريب ما يغمض على أفهامهم، وكما يُراد من الخطبة توعيتهم، والارتِفاع بِهِم إلى درجة التفقُّة في الدِّين، والتمكُّن من تعاليمه السامية، يُراد منها كذلك تثقيف عقولِهم وتَهذيب لغتهم، لا زيادة الجهل والعمى.
وأخيرًا - لا آخرًا -؛ فإنَّ المطلوب من الخطيب أن يَجعل جمهوره مرتبطًا به، متَّبِعًا لما يقوله، حريصًا على الاستفادة من الخطبة التي أُمِرَ بالإنصات إليها، حتَّى إنَّ الشرع نهاه عن اللغو فيها والاشتغال بِما عداها، لكي يَحصل على الغرض الذي شُرِعَتْ من أجله، ويُكتب له ثواب حضورها، ولا يكون كبعْضِ الخطباء المنوِّمين للمستمعين بموضوعه الذي لا فائدة منه للناس، وبإلقائه البارد المتماوِت، فقد جاء في الحديث: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خطب احمرَّت عيناه، وعلا صوته، واشتدَّ غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول: صبَّحكم أو مسَّاكم.
وتلك هي الخطبة الحيَّة التي تلهب شعور المخاطبين، وتُحرّك وجدانَهم، وتبعثهم على العمل بما سمعوا، والاستجابة لدعوة الخطيب، حتَّى ولو كان ما يدعوهم إليهم المسارعة إلى مجال القتال! ولأمرٍ ما كان الخطيب يتنكب قوسًا في بعض الأحيان بدل العصا التي يتكئ عليها الآن، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل*.
* أُلقي هذا البحث في "الملتقى العالمي الأول لخطباء الجمعة في المغرب"، الذي انعقد بمدينة فاس، بتاريخ 22 – 26 رجب 1407هـ.
التعليقات