د. محمد عبدالمعطي محمد
يقول الله تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ﴾ [الكهف: 103 - 105]، قال ابن كثير رحمه الله: "وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: ﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ ﴾ [الكهف: 103]؛ أي: نُخبركم ﴿ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ﴾ [الكهف: 103]؟، ثم فسرهم - سبحانه - فقال: ﴿ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الكهف: 104]؛ أي: عملوا أعمالًا باطلةً على غير شريعة مشروعة مرضية مقبولة، ﴿ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ﴾ [الكهف: 104]؛ أي: يعتقدون أنهم على شيء، وأنهم مقبولون محبوبون.
وقوله: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ ﴾ [الكهف: 105]؛ أي: جحدوا آيات الله في الدنيا، وبراهينه التي أقام على وحدانيته، وصِدق رسله، وكذبوا بالدار الآخرة، ﴿ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ﴾ [الكهف: 105]؛ أي: لا نثقل موازينهم لأنها خالية عن الخير.
قال البخاري بسنده عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة، لا يزن عند الله جناح بعوضة)، وقال: (اقرؤوا إن شئتم: ﴿ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ﴾ [الكهف: 105]، وقال البزار بسنده عن عبدالله بن بريدة عن أبيه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل رجل من قريش يخطر في حلة له، فلما قام على النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا بريدة، هذا ممن لا يقيم الله له يوم القيامة وزنًا)، وقد قال ابن جرير أيضًا: بسنده عن كعب قال: (يؤتى يوم القيامة برجل عظيم طويل، فلا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرؤوا: ﴿ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ﴾ [الكهف: 105])[1].
قلت: روى البخاري في صحيحه بسنده، عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال: مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لرجل عنده جالس: (ما رأيك في هذا؟)، فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حري إن خطب أن يُنكح، وإن شفع أن يُشفع، قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل آخر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما رأيك في هذا؟)، فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب ألا يُنكح، وإن شفع ألا يُشفع، وإن قال ألا يسمع لقوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا خير من ملء الأرض مثل هذا)[2].
الحق أن موازين الرجال الحقيقية تختلف تمامًا عن تلك الأصول التي وضعتها لنا الأيام، وزادها نقص تأملنا في الحياة استقرارًا ونفوذًا، وكالعادة يأتي الإسلام ليضع النقاط على الحروف، ويقيم المعاني على حقيقتها بغير تزوير، وبكل ازدراء لعبوديتنا العادة والتقاليد التي تكون أحيانًا كثيرةً، جائرةً مخالفةً للفطرة والحق، هكذا الإسلام يزن الرجال بميزان الرجولة الصحيحة لا الْمُدَّعاة، يزن الإنسان بمعدنه الأصيل الذي يرتفع بارتفاع عقيدته وإنسانيته وأخلاقه، لا بالمال والجاه والنسب والعِرق، هكذا يعلم الإسلام الإنسان في مدرسته أن قمة الحرية الإنسانية في كمال عبوديته لربه؛ لأنه آنذاك يتحرر من رق كل شيء يُدنس تكريم الخالق العظيم له، يتحرر من رق الشهوات المهلكة الدنيئة، ومن رق العادات والتقاليد التي تهين العقل والروح، ومن رق الجهل والأخلاق الردية، والطغيان في الأرض، ينتقل بروحه إلى النور، وبعقله إلى التكريم، وبجسده إلى الطهارة، وبفعله إلى الخير، والعدل، والحق.
ولذلك كله فالموازين في ساحة الحق تختلف، ودرجات الرجال في الإسلام تتفاضل بالإيمان، والعمل الصالح، وأثر المرء في تهذيب معنى الحياة؛ جاء في سنن ابن ماجه حديث (218) بسند صحيح - أن نافع بن عبدالحارث لَقِي عمر بن الخطاب بعسفان (اسم مكان)، وكان عمر استعمله - (أي جعله أميرًا) - على مكة، فقال عمر: من استخلفت على أهل الوادي؟ قال: استخلفت عليهم ابن أَبْزى، قال: ومَن ابن أَبْزى؟ قال: رجل من موالينا، قال عمر، فاستخلفت عليهم مولًى، قال: إنه قارئ لكتاب الله تعالى، عالم بالفرائض، قاض، قال عمر، أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا، ويضع به آخرين)، ألا ترى؟! هذا هو الميزان الأرقى للرجال في الإسلام، ولذلك تزن إحدى ساقى عبدالله بن مسعود - الصحابي الجليل - مثل جبل أحد، فكيف يكون وزن الرجل كله؟! بينما يمر العظيم في قومه - (بتجبره، وماله، ونسبه، وغيرها من مقاييس الناس الفاسدة... إن نقصه الانصياع لمعاني الإيمان الرفيعة التي تهذب كل معنى) - يمر فلا يزن عند الله تعالى جناح بعوضة؛ لأن معنى الحياة لم يتغير بوجوده سوى إلى المجون، وعبادة الشهوة، والانحطاط، أما أصحاب الموازين الثقيلة، فهم أصحاب الفضل في نشر النور، والحق، والخير، وأصحاب الفضل في الحياة الكريمة الشريفة، ولكننا دائمًا ننظر نظر كليل البصر، وننكر معاني البصيرة، فيجيء القرآن ليرد الحق إلى نصابه، ويجعلنا نفكر في الموازين الحقيقية لأنفسنا في الحياة؟!
عن ابن مسعود أنه كان يجتني سواكًا من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مِمَّ تضحكون؟)، قالوا: من دِقة ساقيه، فقال: (والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان من جبل أُحد)[3].
ولكن أي شيء أثقل موازين مثل هؤلاء الرجال، ليسجل لهم التاريخ مثل هذه المكانة؟!
(كان صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووساده، وسواكه، ونعليه، وطهوره في السفر، وكان يُشبَّه بالنبي صلى الله عليه وسلم في هديه وسَمته، وكان رضي الله عنه من أجود الناس ثوبًا، ومن أطيب الناس ريحًا؛ تعظيمًا لنعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حمله، وكان هو الذي يلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم نَعليه، ويمشي أمامه بالعصا حتى يدخل أمامه الحجرة، فإذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه، نزع نعليه فأدخلهما في ذراعيه وأعطاه العصا.
وكان صلى الله عليه وسلم يستمع لقراءته في الليل، ويقول: "مَن سرَّه أن يقرأ القرآن رطبًا كما أُنزل، فليقرأه على قراءة عبدالله بن مسعود".
وكان رضي الله عنه قليل الصوم، كثير الصلاة، فقيل له في ذلك، فقال: إني إذا صمت ضعفت عن الصلاة، والصلاة عندي أهم.
وسمع رجلاً يقول: اللهم إني أحب أن أكون من المقربين، ولا أحب أن أكون من أصحاب اليمين، فقال ابن مسعود رضي الله عنه: (ها هنا رجل يود أنه إذا مات لا يبعث؛ يعني: نفسه).
وكان رضي الله عنه يبكي، ويلاقي دموعه بكفيه، ثم يقوم بدموعه هكذا يرش بها الأرض، وخرج مرة معه ناس يُشيعونه، فقال لهم: ألكم حاجة؟ فقالوا: لا، فقال: (ارجعوا، فإنه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع).
وكان يقول: (لو تعلمون مني ما أعلمه من نفسي، لحثيتم على رأسي التراب)، وكان يقول: (حبذا المكروهان: الموت والفقر).
وكان رضي الله عنه يقول: (ما أصبحت قط على حالة، فتمنيت أن أكون على سواها؛ رضا بقضاء الله تعالى وقدره).
ولما مرض رضي الله عنه، عاده عثمان بن عفان رضي الله عنه، فقال له: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي، قال عثمان فما تشتهي؟ قال: رحمة ربي، فقال له: ألا آمر لك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرَضني، قال: ألا آمر لك بعطاء؟ قال: لا حاجة لي فيه، قال: يكون لبناتك؟ قال: أتخشى على بناتي الفقر وقد أمرتهنَّ أن يَقْرَأْنَ كل ليلة سورة الواقعة؛ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَن قرأ الواقعة في كل ليلة، لم تُصبه فاقة أبدًا).
وكان من دعائه: (اللهم إني أسألك إيمانًا لا يرتد، ونعيمًا لا يَنفَد، وقُرة عَين لا تنقطع، ومرافقة نبيك صلى الله عليه وسلم في أعلى جنان الخلد).
وكان رضي الله عنه يقول: (ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم بالخشية).
وكان رضي الله عنه يقول: (ويل لمن لا يعلم ولو شاء الله لعلَّمه، وويل لمن يعلم، ثم لا يعمل، سبع مرات).
وكان يقول: (ذهب صفو الدنيا، وبَقِي كدرُها، والموت اليوم تحفة لكل مسلم).
وكان يقول: (لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يحل بذِروته، ولا يحل بذروته حتى يكون الفقر أحب إليه من الغنى، والذل أحب إليه من العز، وحتى يكون حامده وذامه عنده سواء)، وفسر هذه الجملة أصحابه، فقالوا: حتى يكون الفقر في الحلال أحب إليه من الغنى في الحرام، والتواضع في طاعة الله أحب إليه من الشرف في معصية الله، وحتى يكون حامده وذامه عنده في الحق سواء، لا يميل إلى مَن يَحمده أكثر ممن يَذمه.
وكان يقول: (لأن يعض أحدكم على جمرة حتى تطفأ، خير له من أن يقول لأمر قضاه الله: ليت هذا لم يكن).
وكان يقول: لأصحابه: (أنتم أطول صلاة وأكثر اجتهادًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا أزهد منكم في الدنيا، وأرغب منكم في الآخرة).
وكان يقول: (إن الرجل لا يكون غائبًا عن المنكر في بيوت الولاة، ويكون عليه مثل وزر من حضر؛ وذلك لأنه يبلغه فيرضى به ويسكت عليه)، والله أعلم[4].
هؤلاء هم السادات بحق، وهؤلاء هم الأثقل وزنًا في موازين الرجال، إن الإيمان لينضح من بين جنباتهم، ويسيل عملًا يعلم الكون كله معنى الرجولة، وبراعة الأبطال، إن رجلاً تربَّى في بيت النبوة - حتى يقول قائل الصحابة رضي الله عنهم: (إنا كنا لنظن عبدالله بن مسعود من آل بيت رسول الله، لما كانوا يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل فيدخل معه، ويخرج فيخرج معه، ويؤذن له ما لم يؤذن لأحد) - رجل كهذا لا بد أنه رضع الإيمان نقيًّا غضًّا طريًّا، فانسابت الحكمة من بين فكيه بلا أيَّةِ عثرات، ولكم أقول يا من تَهوون حكم (بوذا)، و(لاوتسي لو)، و(زن): لكم في عظماء الإسلام، ومن رضعوا مِن مَعين الحكمة البشرية الأعظم، صلى الله عليه وسلم - القدوة والسبيل!
واعلم أن بقدر ارتباطك برسول الله وقربك منه، تزداد قربًا من الله، فهذا ابن مسعود صاحب نعله صلى الله عليه وسلم، ذرات تراب نعليه - أى ابن مسعود - تساوي ألوفًا من السفهاء الذين مَلَؤُوا الساحات بضجيجهم، ولا وزن لهم؛ روى البخاري بسنده رقم (3762)، قال: سألنا حذيفة عن رجل قريب السمت والهدي من النبي صلى الله عليه وسلم حتى نأخذ عنه، فقال: "ما أعرف أحدًا أقرب سمتًا وهديًا ودلاًّ بالنبي صلى الله عليه وسلم من ابن أم عبد)؛ يقصد: عبدالله بن مسعود رضي الله عنه.
قال ابن سعد في الطبقات: (أخبرنا عبدالله بن عمير، قال: أخبرنا الأعمش عن حبة بن جوين، قال: كنا عند علي، فذكرنا بعض قول عبدالله، وأثنى القوم عليه، فقالوا: يا أمير المؤمنين، ما رأينا رجلا أحسن خلقًا، ولا أرفق تعليمًا، ولا أحسن مجالسةً، ولا أشد ورعًا من عبدالله بن مسعود، فقال علي رضي الله عنه: نشدتكم الله، إنه لصدق من قلوبكم؟ قالوا: نعم، فقال: اللهم إني أشهدك، اللهم إني أقول فيه مثل ما قالوا أو أفضل، قرأ القرآن فأحل حلاله، وحرم حرامه، فقيه في الدين، عالم بالسنة"؛ ا. هـ[5].
ولنفهم معنى الرجولة في هذا الجيل الفريد الذي حمل النور رسالةً ينشرها في دنيا الظلم، وخفافيش الظلام مهما كانت العواقب، لنفهم أنهم عرفوا الرجولة التزامًا وموقفًا تجاه الحياة نفسها، فإما إعلاء شأنها وقيمتها بالدفاع عن النور والحق، وإما لا رجولة على الإطلاق.
ولنفهم كل هذه المعاني وأكثر مما يتبدى للروح والعقل المتأمل، ولندرك أننا امتلأنا بالمخنثين فانهزمنا، لأجل كل هذا أسوق لك ما رواه ابن إسحاق العلامة في السيرة، بسند حسن صرح فيه بالسماع، يقول: (حدثني يحيى بن عروة بن الزبير بن العوام عن أبيه، قال: كان أول من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، عبدالله بن مسعود، اجتمع يومًا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قطُّ، فمن رجل يسمعهم؟ فقال عبدالله بن مسعود: أنا!
قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلًا له عشيرة تمنعه من القوم إن آذوه، فقال: دعوني فإن الله عز وجل سيمنعني، فغدا عبدالله حتى أتى المقام في الضحى وقريش في أنديتها، حتى قام عند المقام، فقال رافعًا صوته: بسم الله الرحمن الرحيم، ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ ﴾ [الرحمن: 1، 2]، فاستقبلها فقرأها، فتأملوا، فجعلوا يقولون: ما يقول ابن أم عبد؟!
ثم قالوا: إنه يتلو بعض ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم- فقاموا فجعلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ، حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا بوجهه، فقالوا: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء الله قط أهون علي منهم الآن، ولئن شئتم لأُغادِيَنَّهم بمثلها غدًا، قالوا: حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون.
حدثنا يونس عن عبدالرحمن بن عبدالله عن المطعم، قال: كان أول من أفشى القرآن بمكة وعُذِّب في رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله بن مسعود رضي الله عنه)؛ ا. هـ[6].
هكذا يَهُبُّ رجل ضعيف البنية، قليل المال، ليس له من الأهل مَن يَمنعه من بطش أهل الغي والضلال، يجهر بالقرآن، يعلن اعتزازه بدينه الحق وبكتابه النور، ويعلن للدنيا كلها أنه على نهج محمد صلى الله عليه وسلم، وفي مدرسته، يضربونه، وأي شيء الضرب في جسد هو المنتشي بحلاوة تلاوته لكلام الله سبحانه، وصوته الصادح بالحق، وكأن الدرس إلى يوم القيامة في هذا المشهد البطولي المدهش، هؤلاء أهل الضلال والباطل يضربون أهل الحق، ولا يزالون في كل مكان، وفي كل وقت، ولكن كلمة الحق ما زالت ترتفع في السماء مجلجلةً، وما زال أهلها يقولون: (ما كان أعداء الله قط أهون علينا منهم الآن!).
هكذا توزن الرجال، فأين رجال الإسلام اليوم؟! وما وزنهم؟!
أخرج البخاري من طريق عبدالله بن يزيد المقري، عن حيوة، عن أبي صخر، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، (أن عمر بن الخطاب، قال لأصحابه: تمنوا، فقال أحدهم: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت دراهم، فأنفقها في سبيل الله، فقال: تمنوا، فقال آخر: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت ذهبًا، فأنفقه في سبيل الله، قال: تمنوا، قال آخر: أتمنى أن يكون ملء هذا البيت جوهرًا أو نحوه، فأنفقه في سبيل الله، فقال عمر: تمنوا، فقالوا: ما تمنينا بعد هذا، قال عمر: لكني أتمنى أن يكون ملء هذا البيت رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وحذيفة بن اليمان، فأستعملهم في طاعة الله)؛ ا. هـ[7].
إن رجالًا كهؤلاء يقف على أكتافهم التاريخ شامخًا، يحمل راية (لا إله إلا الله)، لا عبودية تنبغي، ولا رق، ولا عمل لغير الله سبحانه، هؤلاء الذين يقولون: (إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام).
لقد كان فيهم الرجل بألف، إنهم السادة الذين تثقل موازينهم في الدنيا والآخرة، فأين من يدعون الرجولة اليوم؟!
أخرج ابن سعد عن الشعبي قال: دخل خباب بن الأرت رضي الله عنه على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأجلسه على مُتكئه، وقال: ما على الأرض أحد أحق بهذا المجلس من هذا إلا رجل واحد، قال له خباب: مَن هو يا أمير المؤمنين؟ قال: بلال، فقال خباب: ما هو بأحق مني، إن بلالاً كان له في المشركين مَن يمنعه الله به، ولم يكن لي أحد يمنعني، فلقد رأيتني يومًا أخذوني فأوقدوا لي نارًا ثم سلقوني فيها، ثم وضع رجل رجله على صدري، فما اتقيت الأرض، أو قال: برد الأرض إلا بظهري، قال: ثم كشف عن ظهره فإذا هو قد برص؛ (كنز العمال).
وعند أبي نعيم في الحلية عن الشعبي، قال: سأل عمر رضي الله عنه بلالًا عما لقِي من المشركين، فقال: خباب: يا أمير المؤمنين، انظر إلى ظهري، فقال عمر: ما رأيت كاليوم، قال: أوقدوا لي نارًا فما أطفأها إلا ودك ظهري، وعنده أيضًا، وابن سعد وابن أبي شيبة؛ كما في (كنز العمال) عن أبي ليلى الكندي، قال: جاء خباب بن الأرت إلى عمر رضي الله عنهما، فقال: اُدْنُ، فما أحد أحق بهذا المجلس منك إلا عمار بن ياسر، فجعل خباب يريه آثارًا في ظهره مما عذبه المشركون.
وأخرج أحمد عن خباب رضي الله عنه قال: كنت رجلًا قينًا وكان لي على العاص بن وائل دَين، فأتيته أتقاضاه، فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: لا والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث، قال: فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثَمَّ مال وولد فأُعطيك، فأنزل الله تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا ﴾ [مريم: 77 - 80]؛ كذا في البداية، وأخرجه ابن سعد عن خباب بنحوه.
[1] تفسير ابن كثير، 5/203، دار طيبة 999، بتصرف.
[2] صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب فضل الفقر، رقم 6447.
[3] أخرجه الطيالسي عن حماد عن عاصم عن زر بن حبيش عن ابن مسعود، وإسناده حسن؛ حسنه الألباني في غاية المرام، 1/ 238، ط. المكتب الإسلامي، بيروت).
[4] طبقات الشعراني الكبرى، 1 /20 مكتبة المليجي مصر
[5] الطبقات الكبرى لابن سعد، 3 /116، العلمية - بيروت.
[6] من السيرة؛ لابن إسحاق، 1 /186 دار الفكر - بيروت.
[7] تاريخ البخاري الصغير، 1 / 54، وقال: ورجاله ثقات، غير أبي صخر، وهو حميد بن زياد الخراط، فإنه مقبول الحديث؛ حيث يتابع.
التعليقات