اقتباس
المنطق: العقلاء متفقون على أن مَن يدّعي أمراً فهو إما كاذب أو صادق، ولا ثالث، فأجاد المؤمن توظيف تلك الحقيقة فعرض عليهم الخيارين ونتيجة كل خيار؛ (وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ)، وترك لهم فرصة للتفكير والتأمل!! يا سلام.
الوحيد في التاريخ الذي قال: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى)؛ إنه فرعون الطاغية، يُرسل الله النبي العظيم موسى -عليه السلام إليه-، فيدعوه باللين ويأتيه بالبيان فيُعاند ويُكابر، ويصل به الأمر إلى إعلان (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى).
وفي هذا الجو المشحون وفي تلك اللحظة المهمة يتدخل المؤمن، ليسجل أطول حوار في القرآن الكريم ذُكِر دفعة واحدة: 17آية من سورة غافر، صفحتين ونصف من المصحف، بل إن هناك اسماً آخر لهذه السورة هو سورة (المؤمن)، ومن خلال هذا الحوار نحاول أن نستلهم بعض مهارات الإقناع؛ فلا أعظم، ولا أجمل، ولا أفضل من كتاب رب الأرض والسماوات لمعرفة المهارات فإلى المهارات:
* المحاور: المؤمن وظّف مكانته؛ (مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ)، وربما لوكان من غير آل فرعون لن يُسمح له بالكلام والحوار أصلاً؛ فعليك اختيار الشخص المناسب.
* الايمان: من أبجديات المقنع الموفق أن يكون مؤمناً بما سيحاور فيه؛ (مُؤْمِنٌ)، وقد قيل: (النائحة الثكلى ليسن كالنائحة المستأجرة).
* التوقيت: المؤمن كان يكتم إيمانه؛ (يَكْتُمُ إِيمَانَهُ)؛ لكن الكتمان لا يكون في كل الأزمان؛ فالوقت يتطلب المنافحة والدفاع عن الحق وعما يؤمن به مهما كانت العواقب، والوقت ليس وقت كتمان وإنما وقت بيان.
* حسن البداية: استنكر عليهم؛ (أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا)، وذلك أنه؛ أي: موسى -عليه السلام- ما زاد أن قال (رَبِّيَ اللَّهُ) و (جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾، فدعوى مع دليل، أهذا يستوجب القتل؟
* المنطق: العقلاء متفقون على أن مَن يدّعي أمراً فهو إما كاذب أو صادق، ولا ثالث، فأجاد المؤمن توظيف تلك الحقيقة فعرض عليهم الخيارين ونتيجة كل خيار؛ (وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ)، وترك لهم فرصة للتفكير والتأمل!! يا سلام.
* التعريض: ليس المطلوب الهجوم على الشخص بذاته، لكن المهم بيان القاعدة العامة التي يدخل تحتها كل الناس، فها هو المؤمن لا يتكلم على فرعون وإنما يذكر قواعد، وقد ذكر المؤمن في هذا الحوار أربعة قواعد دون أن يوجه الكلام إلى فرعون بذاته؛ (إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ)، (وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)، (كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ)، (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ)، ومن المهم التذكير بفن ذكر القاعدة مع ما يناسبها من حوار.
* العاقبة: لكل عمل عاقبة دنيوية وأخروية، وليس كل الناس يرتدع بالعاقبة الأخروية، لذا وجب تحقيق ربط العاقبة بالاثنين معاً في الدنيا والآخرة، وهذا ما عبر عنه المؤمن بقوله: (يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا)، ثم قال: (وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ)، ويوم التناد هو يوم القيامة.
* البرهان: طلب الدليل من حقوق المقابل؛ فدعوى بلا دليل عارية من الصحة وحريٌّ بأن تُرفض، ومَن يناقش بلا دليل كمن يدخل معركة بلا سلاح، وقد كرر ذلك المؤمن أكثر من مرة: (وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) وقوله: (الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ)، وقوله: (لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآَخِرَةِ).
* العاطفة: القناعة لا تكون بالعقل فقط، وإنما يجب مزجها بالعاطفة بشكل احترافي، فتصل إلى القلوب والعقول؛ فالمؤمن استخدم كلمة (يا قوم) ست مرات، فهذه الكلمة تحرك عواطفهم تجاهه، وتبين حرصه عليهم.
* التاريخ: وبالذات التاريخ المحلي والمعروف لدى المقصودين، وليس المقصود ذكر أرقام متى وأين، وإنما المقصود استجلاب التاريخ لأخذ العبرة مما حصل ونتائج ذلك، بما يناسب الموضوع: (وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا)، وأيضا في قول: (مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) ففسر الأحزاب بقوم نوح وعاد وثمود، كل هذا من التاريخ القديم المعروف لديهم.
* التركيز: مما لاشك فيه أن المُقنع الموفق قد حدد موضوعه بدقه، وهو يدور حوله في كل حواره؛ لذا فقد كرر المؤمن كلمة (الله) 11 مرة من 15 آية هي كل حديثه، وأيضاً من التركيز ألا تسمح للمقابل أن يسحبك خارج الملعب؛ فها هو فرعون حين رأى وسمع كلام المؤمن وحجيته، وضعف حجته هو، حاول الخروج عن القضية الأساس؛ (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ)؛ لكن المؤمن لم يلتفت إلى هذه المحاولة ولم يرد عليها وإنما عاد مباشرة بالتركيز على قضيته (وَقَالَ الَّذِي آَمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ).
* النتيجة: وهي بيان نتيجة كل اختيار من القضية المطروحة، بحيث يدرك الكل ما سيقدم عليه عند اختياره لهذا الطريق أو ذاك؛ (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ).
* الخلاصة: استعراض ملخص الموضوع، وهذا يكون عادة آخر الحوار؛ فبعد عرض ما لديه قال المؤمن على شكل مقارنة بين الخيارين، وبدأها بالاستفهام التعجبي:
دعوة المؤمن
دعوة قومه
(مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ)
(وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ)
(وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ)
(تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ)
يكفي دعوة موسى -عليه السلام-، وما ذكره.
(لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآَخِرَةِ)
* الخاتمة: من الجميل أن تكون الخاتمة مؤثرة ومحركة للقلوب؛ فهي الأمل الأخير في التأثير، وكما كان الحرص على قوة البداية، ينبغي الحرص على الخاتمة والنهاية، والحقيقة أن كلمة المؤمن الأخيرة، مؤثرة وبليغة لدرجة أن تأثيرها يستمر حتى عصرنا الحاضر؛ فكل من سمع هذه الكلمة تحرك وجدانه وربما فاض دمعه، ولعل من أسباب ذلك صدق ذلك المؤمن في دعوته، ففيها تذكير وتهديد بعد البيان الأكيد، وبها نختم كلامنا:
(فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ).
التعليقات
زائر
03-03-2023هذا المقال شدني وأعجبني باستنباط نقاط قوبة للتحاور مع الآخر ...وبتسلسل فكرة وفوة الحوار..وتمدده أو تقلصه..أو كيف الشد والجذب مع فئة قد تكون صعبة المنال في الموافقة. .وسبحان من حفظ له صنيعه الى هذا العصر الحديث ..والخلاصة فالمقال جميل بجمال من كتبه بالاسم شابهه...بورك فيك وسددك.