اقتباس
الحكمة من الاقتصاد بالموعظة والخطبة، حتى لا يضجر السامعون، وتذهب حلاوته وجلالته من قلوبهم، ولئلا يكرهوا العلم وسماع الخير، فيقعوا في المحذور ولأن تقصيرها أوعى لسامعه واحفظ له. والخطبة إذا طالت أضاع آخرها أولها كما أن طولها يُدْخل الملل على السامعين، خاصة إذا كان الخطيب ممن لا يحرك القلوب والمشاعر ويبعث الهمم.
خطباء المنابر مصابيح الدجى، بكلمة الحق ينطقون، وللضال يرشدون، وللغافل يُذكَّرون، يرسمون بالحق طريق الصواب، ويبشرون وينذرون لبناء مجتمع صالح سوي.
يَجْلون بكلامهم الأبصار العليلة، ويشحذون بمواعظهم الأذهان الكليلة، وينبهون القلوب من رقدتها، وينقلونها عن سوء عادتها، فَشَفَوا من داء القسوة، وغباوة الغفلة، وداووا من العِي الفاضح، ونهجوا لنا الطريق الواضح.
فينبغي على الخطيب أن يُشخِّص بآيات خُطبه الزاجرة عيون القوم ويبكيهم، ويصرف بمعاني الحق العقول ويدنيها، ويأخذ بمقومات الخطابة الناجحة. فإذا عرفت حقيقة الخطيب البارع، وحقيقة الخطابة النافذة المؤثرة.
فاعلم أن خطبة الجمعة عبادة ربانية تعبدنا الله بها، وفق أحكام وآداب تبرز من خلالها شخصية الخطيب العلمية، وتُبقي لخطبة الجمعة معناها الشرعي، وهدفها الحقيقي، وحيث ظهر من تجاوز تلك الأحكام بإطالة الخُطب وتقصير الصلاة. فقد رأيت أن أغوص في جزئيات هذه المسألة ([1]) جامعًا الأدلة النبوية، وأقوال سلف الأمة، بل وبعض سيرهم؛ لمعرفة حكم تقصير الخطبة وتطويل الصلاة. ليسترشد قاصد الحق والصواب، وتتضح حقيقة الهدي النبوي في تذكير الناس ووعظهم إذ «خير الكلام ما قلَّ ودل ولم يَطُل فَيُمَل» وقد قيل (في الإشارة ما يُعني عن كثير من الِعَبارة) فأقول وبالله التوفيق:
تعريف الخطب:
الخطبة: بضم الخاء مصدر خطبت على المنبر خطبة. وهي اسم للكلام الذي يتكلم به الخطيب. والخطيب هو من يقوم بالخطابة في المسجد وغيره وجمعه خطباء. يقال رجل خطيب أي حسن الخطبة. والخطبة تعتمد على جمل قصيرة وألفاظ مألوفة، ومعان قريبة للسامع. فيفهمها الخاصة والعامة والمراد بالخطبة هنا: هي كلام منتخب يتضمن وعظًا وإبلاغًا. وفق أحكام الإسلام ومقاصده، لدعوة الناس إلى خيري الدنيا والآخرة ([2]) ففي الحديث: "كان رسول الله r يخطب قائمًا ويجلس بين الخطبتين ويقرأ آيات ويُذكر الناس"([3]).
طول صلاة الرجل وقصر خطبته من علامة فقهه:
ثبتت السنة بالحث على تطويل صلاة الجمعة وتقصير خطبتها، وأنها علامة من علامات فِقْه الخطيب. فعن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه، فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة وإن من البيان لسحرا"([4]).
فمن اتصف بهذه الصفة كانت دليلاً على فقهه. حيث أتى بالمعاني الكثيرة بكلمات موجزة قصيرة مفيدة. قال الشوكاني: (لأن الفقيه هو المُطِّلع على جوامع الألفاظ، فيتمكن بذلك من التعبير باللفظ المختصر عن المعاني الكثيرة).
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- : "أنه كان لا يطيل الموعظة يوم الجمعة وإنما هي كلمات يسيرات"([5]).
وعن الحكم بن حزن أنه شهد الجمعة مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متوكئًا على قوس أو قال: على عصا فحمد الله وأثنى عليه كلمات خفيفات طيبات مباركات([6]).
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: "كانت للنبي -صلى الله عليه وسلم- خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن، ويُذَكِّر الناس، فكانت صلاته قصدًا، وخطبته قصدًا"([7]).
وقصد الخطبة: هو التوسط بين الإفراط والتفريط، ولا يعني هذا المساواة بين الصلاة والخطبة لحديث عمار السابق، فانظر إلى قوله -صلى الله عليه وسلم- وإلى فعله فقد اتفقا على تقصير الخطبة، وإطالة الصلاة. لأن المقصود من الخطبة وعظ الناس وتذكيرهم بأمر ربهم. وهذا يكون بأخصر العبارات، وأيسر الكلمات. فَخُطَب السلف رحمهم الله كانت كلمات معدودات، جامعات للمعاني يحفظها كل سامع. وتؤثر بالأمي والعالم.
الحكمة من الحث على قصر الخطبة:
الحكمة من الاقتصاد بالموعظة والخطبة، حتى لا يضجر السامعون، وتذهب حلاوته وجلالته من قلوبهم، ولئلا يكرهوا العلم وسماع الخير، فيقعوا في المحذور ولأن تقصيرها أوعى لسامعه واحفظ له. والخطبة إذا طالت أضاع آخرها أولها كما أن طولها يُدْخل الملل على السامعين، خاصة إذا كان الخطيب ممن لا يحرك القلوب والمشاعر ويبعث الهمم([8]).
قال النووي: "يستحب تقصير الخطبة حتى لا يملوها، ويكون قصرها معتدلا ولا يبالغ بحيث يمحقها"([9]).
وقال أبو عبيدة: "وإنما جعل عليه الصلاة والسلام ذلك علامة على فقهه لأن الصلاة هي الأصل والخطبة هي الفرع، ومن القضايا الفقهية أن يؤثر الأصل على الفرع بزيادة"([10]).
وقيل من الحِكم "لأن حال الخطبة توجهه إلى الخَلْق، وحال الصلاة مقصده الخالق فمن فقاهة قلبه إطالة معراج ربه" والله أعلم.
تطويل الخطبة للحاجة:
ومع هذا فقد يعرض للخطيب أحيانًا ما يوجب إطالة الخطبة. كأن يتناول معالجة قضية عصرية، أو دفع شبهة مضللة، أو نحو ذلك من مهمات المجتمع الإسلامي. غير أن هذا لا يتنافى مع الأمر بقصر الخطبة لأنه أمر عارض لا دائم لما روى مسلم "أنه عليه الصلاة والسلام صلى الفجر وصعد المنبر، فخطب إلى الظهر، فنزل وصلى وصعد وخطب إلى العصر، ثم نزل وصلى ثم صعد وخطب إلى المغرب فأخبر بما كان وما هو كائن".
قال ابن القيم: رحمه الله في هديه r بالخُطَب (وكان يقصر خطبته أحيانًا ويطيلها أحيانًا بحسب حاجة الناس)([11]).
وقال شيخنا محمد بن عثيمين -رحمه الله-: "وأحيانًا تستدعي الحال التطويل، فإذا أطال الإنسان أحيانًا لاقتضاء الحال فإن هذا لا يخرجه عن كونه فقيهًا"([12]).
أما ما يصنعه بعض الخطاب فيمضي الوقت الطويل في إلقاء الخطبة ويوجز في الصلاة فهو خلاف سنة المصطفى r ودليل على عدم التدبر بالحكم النبوية والمقاصد الشرعية.
فالخُطب الفذة لا تقاس بكثرة الكلام، وطول الإلقاء. وإنما هي كلمات موزونة بمعان مؤثرة. تخرج من قلب شفيق، فتلقى آذانًا صاغية، وقلوبًا واعية، فتقع موقعًا مؤثرًا.
مقدار صلاة الجمعة:
علمت فيما سبق أمر الشارع بتطويل صلاة الجمعة لكن هذه الإطالة لابد أن تتناسب مع قصر الخطبة. ويتضح هذا جليًا من خلال مقدار السور المشروعة قراءتها في هذه الصلاة كسورتي الأعلى والغاشية أو الجمعة والغاشية أو الجمعة وسورة المنافقين.
ولا يتنافى أمره صلى الله عليه وسلم بإطالة صلاة الجمعة مع أمره بتخفيف الصلوات والنهي عن المشقة على المأمومين. لأن هذه إطالة لا تخرج عن الصفة المشروعة ويؤيد هذا رواية: "وكانت صلاته قصدًا وخطبته قصدًا". قال النووي: "في معنى الحديث: "أي بين الطول الظاهر والتخفيف الماحق".
فلله در ذلكم الخطيب الموفق جعل سنة نبيه نصب عينيه فاحتذى واقتدى معتبرًا بسنن من مضى، فلا تململ من السامعين، ولا مشقة على المأمومين([13]).
يتبع المقال الثاني إن الله -تعالى-.
----
[1]) راجع جواهر الأدب 1/333.
[2]) لسان العرب، القاموس المحيط، معجم مصطلحات الفقهاء (كلمة خطب).
[3]) رواه مسلم.
[4]) رواه مسلم.
[5]) رواه أبو داود ورجال إسناده ثقات.
[6]) رواه أحمد وأبو داود وصححه ابن خزيمة قال: في الفتح سنده جيد.
[7]) رواه مسلم.
[8]) انظر الأذكار للنووي ص267.
[9]) انظر الشرح الممتع لابن عثيمين والمجموع للنووي 4/448.
[10]) انظر مرقاة المفاتيح 3/499.
[11]) انظر زاد المعاد (1/191).
[12]) انظر الشرح الممتع (5/78).
[13]) انظر سبل السلام (2/101) وشرح النووي على صحيح مسلم (6/153) ونيل الأوطار (3/270).
التعليقات